mercredi 11 avril 2012

تفتيت الوحدة لمواجهة نهضة الشعوب

عندما كان جمال عبد الناصر رئيسا لمصر كان العالم العربي من شرقه الى غربه يتناغم مع ما يطرحه من شعارات سياسية خصوصا في ما يتعلق بمواجهة الاستعمار والوحدة العربية وتحرير فلسطين. ربما لم يتحقق الكثير من تلك الشعارات، وربما اصيبت امة العرب، خصوصا بعد حرب حزيران بخيبة امل كبيرة وتراجع نفسي ادى الى جمود الوضع العربي اكثر من اربعين عاما.
وعندما حدثت ثورة الجزائر وبلغت ذروتها في مطلع الستينات، كان قلب العالم العربي ينبض معها بدون توقف، ويردد اناشيد ثوارها بشغف وشعور بالانصهار في بوتقتها الثورية. ويمكن الاستطراد في سرد الامثلة التي تكشف مدى تفاعل الشعوب العربية مع ما يطرح من شعارات تهدف لتحرير الامة واسترداد موقعها السياسي الفاعل في عالم تضيع فيه الكيانات الصغيرة، وفي مطلع الثمانينات كان هناك تفاعل واسع مع ثورة ايران خصوصا في سنواتها الاولى، فعندما اسقطت نظام الشاه الذي كان يملك الجيش الخامس في العالم من حيث القوة العسكرية واجهزة الامن التي يتصدرها جهاز 'السافاك' المرعب، انعكست آثارها بشكل واضح على مستويين: اولهما شعور الشعوب بضرورة الثورة والتغيير وان الانظمة مهما كانت عتيدة فانها لا تستطيع الصمود امام قوة الجماهير.
وثانيهما، انها بعثت مشروع 'الاسلام السياسي' الذي أقام الثورة على اسس دينية وايديولوجية تفهمها الشعوب العربية والاسلامية، وتتناغم معها. ولكن التطورات اللاحقة من قبل قوى الثورة المضادة بزعامة امريكا، استطاعت اقامة حواجز كبيرة نجحت في واحد من المستويين المذكورين. فقد تمت محاصرة ظاهرة الثورة الجماهيرية ومنع تكرر حدوث اي تغيير جوهري في انظمة الحكم، خصوصا على طريقة التغيير الشعبي.
غير ان السياسات الغربية لم تنجح في احتواء ظاهرة الاسلام السياسي، وان تمكنت من تحجيم ظاهرته في جانبها التغييري، وشيئا فشيئا حولت هذه الظاهرة في بعض جوانبها الى حركات اتسمت بالتطرف الديني ذي البعد المذهبي. وكان ذلك مانعا قويا من انتشار الظاهرة الثورية استمر اكثر من عشرين سنة.
في العام الماضي اندلعت ثورة تونس فجأة وبدون مقدمات، في فترة كادت روح التغيير والثورة تتلاشى فيها تماما في كافة بلدان العالم العربي، خصوصا مع تعمق ظاهرة 'الأمركة' والشعور بان امريكا هي التي تقرر مصائر الشعوب وان انظمة الحكم اصبحت عتيدة، مدعومة بالقدرات العسكرية والامكانات الامنية الغربية. ثورة تونس كانت بداية نهضة عربية اسلامية واسعة، سرعان اخترقت آثارها الحدود الجغرافية ووصلت الى اكبر بلد عربي.
استلم شعب مصر شعلة الثورة الواعدة في غضون اسابيع، في الوقت الذي اعلن شباب البحرين عزمهم على تفجير ثورتهم في الطرف الشرقي من العالم العربي. هذه الثورات انتشرت بسرعة، فسرعان ما وصلت الى ليبيا واليمن وسورية، وكادت تعصف ببلدان اخرى لولا العلاج السريع لأساليب التعامل معها.
هذا يعني ان الثورة كقيمة منسجمة مع التوجه الانساني الباحث عن الكرامة والحرية، لا يمكن محاصرتها او منع انتشارها بسهولة. ولذلك خصصت موازنات هائلة من الدولار النفطي لمواجهة الثورات بكافة الاساليب، العسكرية والامنية والدينية وعلى مستوى العلاقات العامة والتأثير الدولي.
وهنا لا بد من ملاحظة امرين مهمين: اولهما ان الجماهير تمتلك مناعة فطرية ضد الفساد والافساد والاحتواء من قبل القوى المتفرعنة، وان هذه الجماهير، في عمومها، محصنة ضد الفساد المالي والاداري والاجتماعي، ولكن الرموز والقيادات والمجموعات والاحزاب التي امتهنت العمل السياسي ضمن اجندة الانظمة السياسية، لا تتمتع بخصيصة المناعة الفطرية المذكورة، بل اصبحت موبوءة بسياسات تقبل بتقديم التنازلات من جهة، ونفسيات مستعدة للتنازل تحت الضغوط، ومخدوعة بـ'البروتوكول' و'اللعب السياسي' و'الدبلوماسية' وغيرها من الظواهرة التي لم يألفها الثوار.
وهكذا يبدو صراع 'الثورة' و'اللاثورة' ليس محصورا بين الجماهير والانظمة السياسية المطلوب تغييرها، بل اصبح موسعا بتدخل قوى الثورة المضادة ليشمل جهات دينية وسياسية تملك امكانات مالية هائلة وعلاقات عامة واسعة، ومستندة الى تراث سحيق ما ان تقضم آفات الارض اوراقه الصفراء، حتى ينبري المال النفطي لتجديده وتطويعه ليناسب متطلبات الوضع السياسي الحالي. فاذا بالخطيب في القرن الحادي والعشرين، الذي يخطب في الجماهير في 'جامع' مزود بكافة وسائل الراحة والتكنولوجيا الغربية، يتحدث بلغة عصور التخلف والتمزق والانحطاط التي عاشتها الامة في القرون السالفة، حاميا للسلطان، ومدافعا عنه.
ثمة حقائق بهذا الصدد لا يمكن تجاوزها:
اولها: ان الدعوات النهضوية الواسعة تنتشر بسرعة كاللهب خصوصا اذا كان ما حولها يابسا. وقد بلغ نضوب المعين العربي مستوى من الجفاف اصبح كل ما حوله حطبا قابلا للاشتعال في اية لحظة حالما تتوفر جذوة نار كافية لاشعاله. كان الوضع مثل غابة اصابها الجفاف فترة ويبست اغصانها، ثم رمى شخص عقب سجائر اشعلت النار التي انتشرت سريعا.
ثانيها: ان حركة انعاش الشعوب كفيلة بالنجاح، لان الوضع الطبيعي ان تكون الشعوب فاعلة وقادرة على العطاء والمساهمة في بناء حياتها ومجتمعاتها. اما الرهان على اقصائها وتهميشها وتغييبها عن دورها الطبيعي فلا يمكن تحقيقه على المدى البعيد، وان بدا ذلك ممكنا في المدى المنظور.
والثورة التغييرية مشروع يستهوي الجماهير برغم المعوقات. بل ان الاساليب التي تنتهجها الانظمة القمعية لردع الشعوب عن اداء دورها كثيرا ما تؤدي الى ننائج عكسية. فكلما كان النظام قمعيا وشرسا في تعامله مع جماهيره، تعمقت قناعات مواطنيه بضرورة التغيير. وظواهر التعذيب والقتل السياسي جديرة بوقف حركة الشعوب اذا حدثت على نطاق ضيق للردع فحسب. اما اذا توسعت فانها تؤدي الى عكس النتائج.
فاذا تم التضييق على هذه الشعوب الى حد شعورها بتساوي قيمة الحياة مع قيمة الموت، فان الوضع عندها يكون قد انقلب لغير صالح النظام. وقد كشفت الثورات العربية هذه الحقيقة. فتوسع ظاهرة القتل من قبل اجهزة الجيش والامن يؤدي الى تعمق القناعة بضرورة اسقاط النظام باي ثمن، فما دام الموت واقعا على الجميع، فلماذا لا يحدث في ميادين المواجهة الثورية؟ وقد لوحظ ان بعض هذه الانظمة يستهدف الثورة بوسائل اخرى غير القتل المباشر للمتظاهرين. ولذلك تجمعت خبرات الامن الامريكية والبريطانية والسعودية في مواجهة ثورة شعب البحرين، فتوقف القتل المباشر بالرصاص على ايدي عناصر الجيش والامن، واصبح منع الاحتجاجات يتم بوسائل استمدت من اساليب احتوء الاحتجاجات في لندن في الصيف الماضي. وتباهى جون تيموني، نائب مفوض شرطة لندن، الذي استقال من منصبه العام الماضي وأرسل الى البحرين (على غرار ايان هندرسون سابقا)، بانه استخدم اسلوب 'تضييق الخناق' او ما تسم 'كيتلينج' لمنع تجمع الثوار ابتداء، لتحاشي ضرورة استهدافهم بالرصاص لاحقا.
ثالثا: الحقائق ان اطروحات 'الوحدة العربية' التي طرحها عبد الناصر، و'الثورة الشعبية' التي طرحتها ثورة ايران، و'الثورة المدنية' التي نشأت بعد استشهاد بوعزيزي، كلها عناوين لنهوض فطري تلعب الجماهير فيه دورا محوريا، بعد ان تستعيد المبادرة وتنطلق في رحاب الثورة بدون معوقات كبيرة من الخارج.
وقد احتاج منع انتشار هذه الظاهرة عبر الحدود لتجارب مضنية، بدأت بعد ثورة ايران،التي كان لسلاح الطائفية والحرب العسكرية اثرهما الكبير في منع انتشارها وعبورها الحدود العربية في جانبها الثورة، وان كانت منطلقاتها الفكرية متمثلة بمشروع الاسلام السياسي قد استعصت على الاحتواء.
وقد اتضح لقوى الثورة المضادة ان ظواهر القتل الجماعي للمتظاهرين يزيد الثورة اشتعالا وان دماء الشهداء يتحول الى وقود ضروري لاستمرارها. وادرك ايضا ان سياسة القبضة الحديدية لا تنفع مع الثورات الجماهيرية. وهنا اصبحت 'الخيار السعودي' ضرورة لمواجهة الثورة. فان من اسهل الامور اثارة المشاعر الدينية او المذهبية كسلاح ضد وحدة الشعوب. فالثورة تتحقق عندما يتوحد الناس على ضرورة مواجهة نظام الحكم الذي كان ظالما في كل شيء الا في ظلمه، الذي ساوى فيه بين جميع المواطنين. ولا فرق بين اي مكون اجتماعي او ديني في نصيبه من الظلم، عندها يقف المسلم بجانب المسيحي، والشيعي بجانب السني، في صف موحد ضد النظام السياسي الذي يسوم الناس ظلما وقمعا. ولكن يكفي لهذه 'الوحدة' الشعبية عود ثقاب يشعل النار في الموروث الديني او المذهبي لمكنوناتها. والمفترض ان الثوريين لا يتأثرون بما يفرق صفهم او يشتت شمل ثورتهم.
وهذا صحيح. فالانسان الذي التحق بالثورة يتحول، بمرور الوقت، الى شخص آخر، اكثر وعيا وأقل عرضة للتأثر بالدعوات المغرضة التي تبعده عن قضاياه الاساسية المتمثلة بالكرامة الانسانية والحقوق المشروعة وحق تقرير المصير، وحقه في ان يعيش مالكا قرارا، متمتعا بمكانته التي منحها الله اياه.
المال النفطي في العقود الاخيرة استطاع 'تأميم الدين' واصبح قادرا على استنطاق 'العلماء' كلما اقتضت الحاجة، واستصدار ما يريد من فتاوى مسيسة تخدم اهدافه. وما تزال الذاكرة تستحضر مؤتمر مكة في اكتوبر 1990 الذي حضره اكثر من 400 'عالم' اصدروا فتواهم الشهيرة بجواز استقدام القوى الاجنبية للاستعانة بها ضد العراق الذي كانت قواته قد اجتاحت الكويت قبل ذلك بشهرين.
فلم يكن الحصول على تلك الفتوى امرا شاقا، بل كانت في متناول اليد، لان المال النفطي ساهم في تهيئة الارضية التي مكنت الحكم السعودي من نشر تأثيره على دوائر دينية واسعة من خلال المؤسسة الدينية التي تحالف معها منذ ثلاثة قرون، ليتوفر للسعوديين ما لم يتوفر لغيرهم: ذراعان ضاربان ضد مناوئيهم واعدائهم: السياسة والدين. فاصبحت الفتاوى تستصدر لتبرير المواقف والسياسات، ولا تغيب عن الذاكرة الفتاوى التي استهدفت المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وتلك التي تحرم التظاهر من اجل فلسطين او دعم 'حماس'. وللامعان في التقليل من شأن الثورة وقدرتها على تحقيق انجازات سياسية للثوار، يلاحظ ان المشروع الطائفي الذي هو السلاح الامضى لمواجهة الثورات، ومعها افشال نهضة الامة وتحررها من الهيمنة الغربية والاحتلال، يوازيه مشروع نفسي يكرسه ويجعله اكثر فعلا وأثرا.
ومن ذلك ان الانظمة المستهدفة للتغيير يتم اسنادها ودعمها امنيا تحت شعار 'مساعدتها على الاصلاح' بوسائل مقززة. فبدلا من استبدال عناصر التأزيم من وزراء ومعذبين ومستهترين، يتم حماية هؤلاء من اية محاولة لابعادهم او مقاضاتهم لما اقترفوه من جرائم، ويتم تدويرهم في المناصب. وبالاضافة لبقاء القيادات العسكرية للجيش والعناصر الامنية بوزارات الداخلية واجهزة الامن المتعددة، يتم تركيز وجود هؤلاء وترقيتهم.
وما اعلن عنه الاسبوع الماضي عن ترشح عمر سليمان لمنصب الرئاسة في مصر كان تطورا مقلقا جدا، يهدف للضغط على الجهات السياسية التي مكنتها الثورة من استعادة موقعها السياسي في البرلمانات والمجالس المحلية والمؤسسات العامة. فهذا الترشح، بالاضافة لما يروج عن اتفاق حركات سياسية كبيرة مع الجيش يضمن بقاء نفوذه وحصانة افراده من المقاضاة برغم دورهم في قمع الثورة وقتل المتظاهرين وتعذيب المعارضين في السجون، يبعث رسالة واضحة للجماهير: 'ما زلنا نحكم'. واذا كان ناشط حقوقي مثل عبد الهادي الخواجة يجد نفسه مضطرا للاضراب عن الطعام في السجون البحرانية حتى الموت احتجاجا على ابقائه في السجن حتى بعد صدور توصيات من لجنة رسمية بالافراج عن المعارضين السياسيين الذين لم يرتكبوا جريمة يعاقب عليها القانون وفق المستويات الدولية، فان ذلك يكرس القول بان الحرب النفسية اصبحت جانبا اساسيا في استراتيجية قوى الثورة المضادة، ولا يستطيع احد تغييرها.
هكذا فان مستقبل الشعوب العربية خصوصا في البلدان التي شهدت ثورات شعبية خلال العام الماضي يتأرجح بين النجاح والاخفاق. فاما نجاح يؤدي الى انتصار الثورات وهزيمة 'الحرس القديم' من عناصر الانظمة السياسية العربية المطلوب تغييرها، او بقاء الوضع ولكن بشكل أسوأ. هذه المرة ستكون ردة الفعل النفسية قاسية جدا، قد تؤدي الى تقاتل داخلي بين ابناء المجتمع الواحد. ويزيد من احتمالات ذلك عاملان اساسيان:
اولهما: ان 'الدين الرسمي' اصبح له نفوذ في نفوس بعض رموز الحركات الاسلامية التي تعتقد ان وصولها الى الحكم او بقاءها فيه بعد وصولها مرهون برضى المؤسسة الدينية الرسمية المدعومة بالمال النفطي عنها، وان 'الحكمة' تقتضي 'مسايرة' ذلك في الوقت الحاضر. وهنا يطرح منطق 'المصلحة' و'الحكمة' و'العقلانية' لتبرير المواقف المسايرة لمشروع لا يخرج في جوهره عما تريده قوى الثورة المضادة'.
وثانيها: ان الاثارات الدينية او المذهبية او الايديولوجية اسلحة اكثر تدميرا من اية وسيلة قمعية تمارسها قوى الامن والجيش ضد الثوار. فمن شأن هذه الاثارات احداث الفتنة الداخلية في صفوف الثورة والثوار ومنع تلاحم الصف الضروري اما لانتصار الثورة او بقائها في موقع الحكم ان كانت قد حققت شيئا من النجاح. لقد اصبح من الضرورة بمكان تحريك كوامن العقول وخافيات الافكار لنهضة فكرية ونفسية ودينيية وثقافية نقية توفر دعما للثورة والثوار لمنع قمع الثورة بالجهل تارة وطيب القلب الساذج ثانية، واستعجال النتائج قبل الاوان ثالثة، وربما هو الاخطر من بين الاعتبارات جميعا.

' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي