lundi 23 janvier 2012

عام على رفض الاستبداد سؤال الإقصاء ومآلات التعدد



بعد عام على توالي ثورات ما بات يُعرف بالربيع العربي، وعند استعراض بانوراما الثقافة السياسية خلال الأشهر المنصرمة، نجد أن أسس الخطاب السياسي العربي "الرسمي" ما زالت في معظمها على حالها، وما زالت بعيدة كل البعد عن تطلعات الشعوب، وإذا كان من غير الممكن قلب المفاهيم وإحداث ثورة فعلية على مستوى الوعي بين ليلة وضحاها فإنه من غير المقبول خلع "رموز الأنظمة" والبقاء على المضامين التأسيسية للبلطجة السياسية.

وبعد امتداد نصف قرن من استحواذ فكر "التخوين" على الخطاب السياسي والثقافي منحت "السلطة" من خلاله نفسها حق محاكمة "الآخر" ونفيه وتشريده، فإن مضامين البنية الإقصائية للخطاب ما زالت قائمة، ولو بشكل جزئي بعد الثورات، حيث يجد من هو في موقع "القرار" المسوغات لمحاكمة من هو في الموقع "الآخر" بحجج متنوعة وذرائع مختلفة.

فهل هي النتائج التي نريد؟ تبديل في الوجوه دون إحداث تغيير حقيقي في بنية الوعي وترجمة عملية تستوعب قبول الآخر بديمقراطية بالغة دون ضغينة؟ وهل ستفترس الثورة ديمقراطيتها بإقصاء القوى الأقل حظا في الوصول إلى البرلمانات الجديدة؟

دول ما بعد الثورات ليست على ما يرام، وأمامها استحقاقات حاسمة وأهمها إرساء التعددية ورفع المعاناة الاقتصادية؛ والبدء من تونس الخضراء وثورة الياسمين، فعلى الرغم من أنها الثورة الأكثر نجاحا وأقل دموية وأكثر علمانية إلا أنها فقدت كثيرا من عبيرها حيث طرحت مشكلة الليبرالية وأهمية التعددية السياسية وعلاقة الديني بالسياسي.

أما في مصر فإن فوز الإسلاميين في الانتخابات "46 بالمئة للإخوان المسلمين و23 بالمئة للسلفيين" يجعل أمورا كثيرة على المحك، فعلى الرغم من أهمية احترام خيار الكثرة الكاثرة إلا أن هناك قلقًا متزايدًا لدى بعض الليبراليين والعلمانيين الذين يخشون من توجهات لقوانيين متشددة ممكن أن تتولد فيما بعد. لذلك يصبح مطلب التعددية السياسية والديمقراطية النسبية أمرا حاسمًا مع أهمية مراعاة حقوق الحريات الفردية والحفاظ على المكتسبات العلمانية.

أما الوضع الليبي الذي لم يتغيير إلا بفعل العمل العسكري المباشر، فإن السلاح القاتل ما زال منتشرا بين أيدي الناس، مما يجعل الوضع الأمني بحالة حرجة، والخوف كل الخوف من الدخول في نفق دامٍ في ظل رفض بعض الفصائل تسليم سلاحها.

أما اليمن فإن العلاقة بين السلطة ومعارضتها تشهد أكبر قدر من "المراوغة" والتحايل وتمييع المواقف في ظل تشابك محموم بين الأوراق المطروحة بين حوثيين وقاعدة وقبائل وغيرها، مع تسويف غير مبرر لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى انتقال حقيقي للسلطة، ولعل آخره التلويح بتأجيل الانتخابات المزمع إجراؤها الشهر القادم، مما قضى على أحلام كثيريين.

أما دموية المشهد السوري فيندى لها جبين الإنسانية، فالثورة لم تتمكن من الحفاظ على سلميتها مما ينذر بحرب أهلية يخسر فيها الجميع واستنزاف بلد طالما لوح نظامه "بالممانعة" وجعل من "المقاومة" حجة لبقائه، وهو لن يتورع عن سوق كل البراهين لشعبه على فشل الثورات العربية الأخرى، ووضعهم أمام خيارين أحلاهما مرّ زؤام: إما الحرب الدامية، وإما السكوت عن الاستبداد!! وما زالت "نظرية المؤامرة" هي عنوان كل عمل والسد المنيع في وجه كل تغيير، فالأنوية السلطوية بحالة استنفار لمواجهة أعداء مفترضين على الدوام.

إن معظم "الأنظمة" الآيلة للسقوط تنظر إلى مواطنيها المعارضين لها، على أنَّهم فئة خارجة عن القانون والنظام، ويجب تأديبهم، فيما هي استمدت سلطتها من انتخابات "شكلية" بنتائج "خيالية"، تحت أنظمة الطوارئ الدائمة، هذه النُّظُم السياسية تُعاقب شعوبَها وتقمعها كثيرًا وتهينها، وتعمل على أن تَحُول بين الشعوب وبين النضج والوعي وتُبقيها في طور الطفولة الحضارية.

على أية حال فإن التخوفات مما ستؤول إليه الحال بعد الثورات من حكومات ودساتير يبقى أقل سوءًا من البقاء في ثلاجة أنظمة احترفت الخداع والقتل المنظم، وإن الشعوب التي لم تعد تقبل بالمساومة على حريتها تجد في أي حال مخالف لحالها أقل وطءا مما هي عليه الآن.

وإن صح وصف لهذا العام فإنه عام رفض "تكنولوجيا السلطة الرعوية" وآليتها حيث يطغى "مفهوم الراعي والقطيع"، فيما تعتمد السلطة على علاقة فردية لا علاقة قانونية، وفي وقت يتحول الخطاب الإيديولوجي إلى راية حرب، وتكون العلاقة بين المُخَاطِب والمُخَاطَب علاقة أمر ونهي، والجواب الوحيد المقبول هو الامتثال والقبول، في ظل انتشار للعنف الذي يظهر في كافة أشكال "البلطجة"...

أخيرا، لعل ما يرجوه كل حرّ هو أن لا تكون الحكومات اللاحقة شبيهة بسابقاتها، وأن يكون التغيير قد تحقق فعلا برفض كل بلطجة وإدانة كل قمع في ظل قبول التعددية السياسية بحيث لا ينتج تفرد حزب واحد وسيطرة فكر أوحد، ولو حقق نجاحا ساحقا في الانتخابات البرلمانية، ولعل القيم الإنسانية تحتم إرساء التسامح والتعددية في كل مستويات المجتمع المدني ويكون المواطن فردا له حقوق محترمة، وتكون تربية الفرد فيه قائمة على حريّة الاختيار وعملية صنع القرار.

ومن حق الشعوب أن تحلم كما حلم حكيم الهند "طاغور" من قبل حين قال:
"حيث العقل لا يخاف، والرأس مرفوع عال
وحيث المعرفة حرّة
وحيث العالم لم يمزّق التعصب جدرانه
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة
وحيث الكفاح المستمرّ يمدّ ذراعيه نحو الكمال
وحيث لا يفقد جدول العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة
وحيث يقود العقل نحو ساحات أفسح من الفكر والعمل
تحت سماء الحريّة تلك... يا إلهي... أيقظ وطني

مروة كريدية