كتاب ادارة التوحش
اخطر مرحلة ستمر بها الامة
تاليف ابي بكر ناجي
مقدمة 3
مبحث تمهيدي : النظام الذي يدير العالم منذ حقبة سايكس بيكو 5
وهم القوة : مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة 7
المبحث الأول : التعريف بإدارة التوحش وبيان السوابق التأريخية لها 11
المبحث الثاني : طريق التمكين 15
المبحث الثالث : أهم القواعد والسياسات التي تتيسر باتباعها خطة العمل وتتحقق أهداف مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] بصفة عامة وأهداف مرحلة [ إدارة التوحش ] بصفة خاصة - بإذن الله - 23
الفصل الأول : إتقان فن الإدارة 23
الفصل الثاني : من يقود ومن يدير ومن يعتمد القرارات الإدارية الأساسية ؟ 25
الفصل الثالث : اعتماد القواعد العسكرية المجربة 28
الفصل الرابع : اعتماد الشدة 31
الفصل الخامس : تحقيق الشوكة 34
الفصل السادس : فهم قواعد اللعبة السياسية للمخالفين والمجاورين جيدا والتحرك في مواجهتها والتعامل معها بسياسة شرعية 37
الفصل السابع : الاستقطاب 46
الفصل الثامن : قواعد الالتحاق 50
الفصل التاسع : إتقان الجانب الأمني وبث العيون واختراق الخصوم والمخالفين بجميع أصنافهم 52
الفصل العاشر : إتقان التربية والتعلم أثناء الحركة كما كان العصر الأول 54
المبحث الرابع : أهم المشاكل والعوائق التي ستواجهنا وسبل التعامل معها 63
(1) مشكلة تناقص العناصر المؤمنة 63
(2) مشكلة نقص الكوادر الإدارية 64
(3) مشكلة الولاء القديم لعناصر الإدارة 66
(4) مشكلة الاختراق والجواسيس 67
(5) مشكلة التفلت أو الانقلاب من أفراد أو مجموعات أو مناطق بأكملها تغير ولاءها ( كيف نتفهمها ؟ وكيف نتعامل معها ؟ ) 69
(6) مشكلة التحمس الزائد عن الحد وملحقاتها 71
المبحث الخامس : الخاتمة : هل توجد حلول أخرى أيسر من ذلك الحل ؟ 73
المقالة الأولى : معركة الصبر 81
المقالة الثانية : الابتلاء بين النفس البشرية وسنن الله في الدعوات 86
المقالة الثالثة : رجالنا وأفراد العدو تحت النار 90
المقالة الرابعة : السنن الكونية بين الأخيار والأغيار 95
المقالة الخامسة : منهاجنا رحمة للعالمين 101
المقالة السادسة : فتنة المصطلحات.. المصلحة والمفسدة نموذجاً 106
المقالة السابعة : الاستقطاب والمال 110
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد :
كتبت في موضوع سابق عن قدر الإعداد المادي الذي قام به ذلك الفصيل من فصائل العمل الإسلامي الذي نحسبه قائمًا بأمر الله في هذا الزمن والذي نحسبه سيتنزَّل عليه النصر بإذن الله ، وتطرق الموضوع إلى المشروع الذي يطرحه ذلك الفصيل للخروج بالأمة مما هي فيه من الهوان لتعود لقيادة البشرية للهداية وإلى طريق النجاة ، ومقارنته بالمشاريع المطروحة من قبل باقي فصائل العمل الإسلامي والتي أصابت الشباب الإسلامي بالحيرة.
نعم.. كثير من الشباب قد اختار هذا الطريق أو ذاك بناءً على أنه وافق ما يميل إليه من العمل أو الهوى والراحة ، إلا أن البعض قد أصابته الحيرة من تعدد المشاريع لحل قضية حسمت حلها النصوص الشرعية في أعين النابهين على الأقل ومما جاء في الموضوع المشار إليه مع شيء من التصرف:
( أن من كل تيارات الحركة الإسلامية لم يضع مشاريع مكتوبة إلا خمسة تيارات فبعد إخراج تيار التبليغ والدعوة وتيار سلفية التصفية والتربية [ السلفية الصوفية ] وتيار سلفية ولاة الأمر وغيرهم سنجد أن التيارات التي وضعت مشاريع مكتوبة وتصلح للنقاش لما لها من واقع عملي ، هي خمسة تيارات :
(1) تيار السلفية الجهادية.
(2) تيار سلفية الصحوة الذي يرمز له سلمان العودة وسفر الحوالي.
(3) تيار الإخوان [ الحركة الأم.. التنظيم الدولي ].
(4) تيار إخوان الترابي.
(5) تيار الجهاد الشعبي [ مثل حركة حماس وجبهة تحرير مورو وغيرها ].
أما مشروع سلفية الصحوة خاصة في صيغته الأخيرة [ إنشاء المؤسسات ] فيشابه مشروع حركة الإخوان [ التنظيم الدولي ] إلى حد كبير قد يصل إلى التطابق في بعض فقراته إلا أني سأوضح بإذن الله أنه لا يمكن أن يتجاوز مراحله الأولى حتى بعد مرور آلاف السنين لأنه يتجاوز من السنن الكونية الكثير - التي هي شرعية أيضاً - مما يجعله يدور في حلقة مفرغة ليتلعب به الكفار والطواغيت وأهل النفاق ، مع مفارقة أن تيار سلفية الصحوة يحاول تنفيذه كما على الورق.. أما تيار الإخوان فهم يطرحونه على الورق نظرياً لينفّذوا من خلاله مشروعهم البدعي أو قل مشروعهم العلماني ويمرروا مشروعهم العفن على القواعـد التحتية من الشباب من خلال المنهـج النظري المكتوب والشعارات البراقة حتى إنهم لا مانع عندهم من رفع شعار [ الجهاد سبيلنا ، والموت في سبيـل الله أسمى أمانينا..! ] أو [ حركة سلفية !! ولا مانع من حقيقة صوفية أيضاً كما يصرحون ].
أما تيار السلفية الجهادية فهو التيار الذي أحسبه وضع منهجاً ومشروعاً شاملاً السنن الشرعية والسنن الكونية وعلى الرغم من أن هذا المنهج رباني إلا أن القائمين على تنفيذه بشر يعتريهم ما يعتري البشر من النقص وعدم الكمال وتنفذ فيهم السنن الكونية التي تنفذ في البشر ومشروعهم به من العثرات التي وقع فيها القرن الأول بل وأكثر بحكم أن الأفضلية للقرن الأول لا شك ، وراجع إن شئت مشكوراً مقال المثالية والواقعية للشيخ عمر محمود أبو عمر فك الله أسره.
أقول ومع بعض العثرات التي يمر بها مشروعهم التي هي جزء قدري من مشروعهم لا ينفك عنه إلا أن خطوات مشروعهم تسير كما هي مكتوبة على الورق على السنن الشرعية والكونية الصحيحة ، بل ينالهم بفضل الله من العناية والرعاية الإلهية ما يُطوى لهم فيه بعض المراحل ، وهم وأعداؤهم في صراع لا يُنكر أحدٌ أنه شبيه بصراع الرسل مع أهل الكفر والطغيان، إن لم يعترف بأنَّه استمرارٌ حقيقيٌّ لذلك الصراع.
أما تيار إخوان الترابي [ المنشق على التيار الأم ] فهو تيار أخذ من السنن الكونية ما أهّله لإقامة دولة - دولة البشير والترابي بغض النظر عن التنافر الواقع بين البشير والترابي الآن - إلا أنه لتجاهل ذلك التيار لبعض الأوامر الشرعية وتحريفه لبعض آخر جعل هذه الدولة دولة علمانية ليس فيها من الإسلام إلا المتاجرة باسمه وشرح ذلك كله ومشروع ذلك التيار يطول.
أما تيار الجهاد الشعبي [ مثل حركة حماس وحركة الجهاد بفلسطين.. ] فبالنظر إلى المشاريع الأربعة السابقة وما تعلمونه من أخبار ذلك التيار يمكنكم فهم طبيعة مشروعه ، وهو باختصار شبيه بمشروع التيار السلفي الجهادي إلا أنه مخترق في فكره السياسي بمنهج الإخوان الأم ومنهج إخوان الترابي ، مع قصور في بث المنهج العلمي الصحيح بين أتباعه أثناء ممارسة منهج البناء التربوي ، ويُخشى عليه أحد مصيرين إما ضياع الثمرة في النهاية وسقوطها في يد المرتدين العلمانيين والقوميين ، أو إقامة دولة شبيهة بدولة البشير والترابي بالسودان وشرح تفاصيل كل ذلك يطول.. ).
وقد أشرت في ذلك المقال أني في سبيلي إلى استكمال دراسة أفك فيها الاشتباك لكامل الفقرات السابقة ، وأبيِّن فيها الخطوط العريضة لمشروع أهل التوحيد والجهاد المتناثر في إصداراتهم وأدبياتهم منذ زمن طويل ويعلمه كل من تواصل معهم ، كذلك نناقش فيها المشاريع التي تطرحها باقي التيارات وأسأل الله الإخلاص والإنصاف والعفو عن الزلل.
هذه الدراسة الموسومة بـ [ إدارة التوحش... أخطر مرحلة ستمر بها الأمة ] عبارة عن خطوط عريضة لا تعنى بالتفاصيل وإنما تترك التفاصيل لفريقين ، فريق المتخصصين في الفنون التي تتحدث عنها الدراسة وفريق قيادات الواقع في مناطق إدارة التوحش ، وعندما تأتي بعض التفاصيل في ثنايا الدراسة فإنما تأتي لأهميتها أو كمثال لشحذ الذهن.
إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة ، وتُعد أخطر مرحلة فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة - بإذن الله - هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة ، وإذا أخفقنا - أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش..!!
ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسـوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقـد السـابق [ التسعينات ] وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات.
(((((((
مبحث تمهيدي
النظام الذي يدير العالم منذ حقبة سايكس بيكو
إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنه عند سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات بل والدول الصغرى سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش.
عند سقوط دولة الخلافة حدث بعض من هذا التوحش في بعض المناطق إلا أن الأمر استقر بعد ذلك على قريب مما أقرته معاهدة سايكس بيكو فكان تقسيم دولة الخلافة وانسحاب الدول الاستعمارية بحيث انقسمت دولة الخلافة إلى دول ودويلات تحكمها حكومات عسكرية أو حكومات مدنية مدعومة بالقوات العسكرية ، وتمثلت قدرة هذه الحكومات على الاستمرار في إدارة تلك الدول بمقدار قوة العلاقة مع هذه القوات العسكرية وقدرة هذه القوات على المحافظة على شكل الدولة ، سواءً بالقدرة التي تملكها هذه القوات في شرطتها وجيشها أو القدرة الخارجية التي تدعمها.
لا نخوض هنا في كيفية قيام هذه الدول وسيطرة هذه الحكومات ، سواء حكمنا عليها أنها نالت السيطرة بحكم انتصارها على حكومات الاستعمار أو بحكم أنها كانت تعمل في الخفاء مع الاستعمار وكل ما في الأمر أنه انسحب ووكلها مكانه أو خليط من الأمرين ، فخلاصة الأمر أن هذه الدول سقطت في أيدي تلك الحكومات بسبب كوني هو أحد هذين الأمرين أو كلاهما.
وسواءً كانت هذه الدول مستقلة حقيقة أو اتبعت كل منها في الخفاء الدولة التي استعمرتها في السابق إلا أنها بعد فترة أصبحت تدور في فلك النظام العالمي الذي تمخض بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي كانت صورته المعلنة هيئة الأمم المتحدة وحقيقته قطبان هما عبارة عن دولتين يدخل تحت كل منهما معسكر من الدول الكبرى الحليفة ويتبع كل قطب عشرات من الدول التابعة.
ومقابل أن يدور نظام حكم دولة تابعة في فلك أحد القطبين محققاً مصالح هذا القطب الاقتصادية والعسكرية يقوم هذا القطب بدعم هذا النظام بمقومات الدعم المختلفة ، إلا أنه وطبقاً لطبيعة سكان بلادنا التي تحكمها هذه الأنظمة - أي كبلاد سكانها مسلمون - كان هذا الدعم في الغالب دعماً محدوداً ويذهب جله لدعم أفراد الأنظمة الحاكمة أو دعم شخصي لقادة جيوش هذه الدول والقيادات المتنفذة في تلك الجيوش.
وتلا تلك الفترة انهيار بعض الأنظمة وقيام أخرى إما لتخلي القطب عنها أو عدم قدرته على حمايتها من السقوط أو لقيام القطب الآخر بدعم مجموعة أخرى اخترقت هذا النظام وأسقطته وحلت مكانه بأخذها بسنن كونية محضة.
هذه الأنظمة ما أن يستتب لها الأمر حتى تقوم بفرض قيمها التي تحملها على مجتمع كل دولة تحكمها وإذا كانت تدور في فلك قطب جديد أو مازالت تتودد للقطب الذي كان يدعم النظام السابق لها تقوم بخلط قيمها الاجتماعية والاقتصادية بقيم القطب الذي تدور في فلكه وتفرض الخليط على المجتمع ، واضعة حول هذه القيم هالة من التقديس حتى لو كانت قيماً تأباها كل العقول.
خالفت هذه الأنظمة عقيدة المجتمعات التي تحكمها وقامت مع مرور الوقت والتدرج في الانحطاط بتضييع وبسرقة مقدرات تلك الدول وانتشرت المظالم بين الناس.
وطبقاً للسنن الكونية المحضة نجد أن القوى التي يمكن أن ترجع الحكم لقيم وعقيدة المجتمع أو حتى ليس من أجل العقيدة والحق من أجل رد المظالم والعدالة التي يتفق عليها الجميع المؤمن والكافر قوتان :
الأولى : قوة الشعوب وهذه تم تدجينها وتغييب وعيها بآلاف من الملهيات سواءً جانب شهوات الفرج والبطن ، أو اللهاث خلف لقمة العيش أو اللهاث لجمع المال ، فضلاً عن الهالات الإعلامية الكاذبة في اتجاهات شتى ، ونشر الفكر الجبري والصوفي والإرجائي بين شرائحها ، وبين فترة وأخرى يتم تقليم أنياب من يفيق من غفلته من هذه الشعوب عن طريق جيوش وشُرَط هذه الدول التي تعتبر هذه المهمة هي مهمتها الأساسية التي تتلقى الأموال والعطاء من أجلها وهي الحفاظ على هذه الأنظمة أو الحفاظ على دوران النظام الحاكم في فلك أحد القطبين.
الثانية : القوة الثانية التي يمكن من خلالها إرجاع المجتمع - ولو جزئياً طبقًا للسنن - إلى العدل وإلى عقيدته وقيمه هي قوة الجيوش وهذه تم إغداق الأموال المنهوبة عليها وشراؤها حتى لا تقوم بهذا الدور بل تقوم بنقيضه.
إلا أنه رغم أنف الشيطان تبقى فئة قليلة من العقلاء والشرفاء تأبى الظلم وتنشد العدل ، فيدور في خلد هذه الفئة استغلال ما في أيديها من القوة لتغيير هذا الواقع للأفضل بحسب اعتقادها ، إلا أن ثاني أمر يقع في خلدهم وجود القوة المجرمة التي لا تأبه بالقيم في هذه الجيوش أو في أحسن الظروف لو تم وضع خطة محكمة للالتفاف على تفاوت القوة سيقوم القطبان أو أحدهما تحت ستار الأمم المتحدة بإرغام النظام الجديد بالحيل أو بالقوة أو بالضغوط أو بكل ذلك على الدوران في فلك أحد القطبين وفرض منتفعين جدد على النظام الجديد ، ويتحول هذا الشريف الذي تسلم الحكم إلى سيرة شبيهة لسيرة أمثاله السابقين وما سودان البشير عنا ببعيد.
وفي الغالب ينتهي التفكير بهؤلاء الشرفاء بالانصراف عن فكرة تغيير تلك الأنظمة والرضا بالأمر الواقع والانطواء على أنفسهم حاملين المرارة في قلوبهم ، ومن يصدق مع نفسه الضعيفة منهم يستقيل من عمله العسكري وإلا فلا يلبث أن ينزلق إلى مستنقع الظلم والانحطاط تحت شعار [ لا دين ولا دنيا ] أو [ لا خير وعدل ولا دنيا ].. هكذا هي الصورة تدور في هذا الإطار منذ سقوط الخلافة.
(((((((
وهم القوة
مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة
القطبان اللذان كانا يسيطران على النظام العالمي كانا يسيطران من خلال قوة مركزيتهما ، والمقصود بالقوة المركزية هنا هي : القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المركز للسيطرة على مساحات الأراضي التي تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي ، والخضوع في صورته الأولية المبسطة هو أن تدين تلك الأراضي للمركز بالولاء والتحاكم وتَجبي إليه المصالح.
ولا شك أن القوة التي أعطاها الله للقطبين [ أمريكا وروسيا ] جبارة في حساب البشر إلا أنها في الحقيقة وبالنظر الدقيق في حساب العقل البشري المجرد أيضا لا تستطيع أن تفرض سلطانها من بلد المركز في أمريكا مثلاً أو روسيا على أراضٍ في مصر واليمن مثلاً إلا إذا خضعت تلك البلاد بمحض إرادتها لتلك القوى ، صحيح أن هذه القوة جبارة وأنها تستعين بقوة أنظمة محلية من الوكلاء الذين يحكمون العالم الإسلامي إلا أنها رغم كل ذلك لا تكفي ، لذلك لجأ القطبان إلى عمل هالة إعلامية كاذبة تصور هذه القوى أنها لا تقهر ، وأنها تحيط بالكون وتستطيع أن تصل إلى كل أرض وكل سماء وكأنها تحوز قوة خالق الخلق.
إلا أن الأمر المثير الذي حدث أن هذين القطبين صَدَّقا لوهلة دجلهما الإعلامي وأنهما بالفعل قوة قادرة على السيطرة التامة على أي مكان في أرجاء المعمورة ، وأنها قوة تحمل خصائص قوة الخالق ، فطبقاً للدجل الإعلامي فإنها قوة جبارة محيطة ويخضع لها الناس لا خوفاً منها فقط ولكن حباً فيها أيضاً لأنها تنشر الحريـة والعدل والمساواة بين البشر إلى آخر تلك الشعارات.
وعندما تخضع دولة - مهما بلغ قدرها - لوهم القوة الكاذبة وتتصرف على هذا الأساس فمن هنا يبدأ سقوطها.
وكما يقول الكاتب الأمريكي بول كينيدي : ( إن أمريكا تتوسع في استخدام قوتها العسكرية ، وتتمدد استراتيجياً أكثر من اللازم وهذا سيؤدي إلى سقوطها ).
هذه القوة الجبارة مدعومة كذلك بتماسك مجتمعها في بلد المركز وتماسك مؤسسات ذلك المجتمع وشرائحه ، فلا قيمة للقوة العسكرية الجبارة [ الأسلحة والتقنية والمقاتلين ] بدون تماسك المجتمع وتماسك مؤسساته وشرائحه ، بل قد تصبح هذه القوة العسكرية الجبارة وبالاً على هذا القطب العظيم إذا انهار تماسك كيان المجتمع.
وعوامل انهيار هذا الكيان عديدة تتلخص في عبارة [ عوامل الفناء الحضاري ] مثل الفساد العقدي والانهيار الخلقي والمظالم الاجتماعية والترف والأنانية وتقديم الملذات وحب الدنيا على كل القيم.. الخ.
وكلما كان القطب تجتمع فيه مزيج هذه العوامل بصورة كبيرة ، وتمتزج فيها تلك العوامل بصورة تنشط بعضها البعض كانت سرعة انهيار ذلك القطب أكبر ، وهذه العوامل قد تكون موجودة بصورة نشطة أو موجودة بصورة خاملة تحتاج الى عامل مساعد لتنشيطها فيسقط ذلك القطب وتسقط مركزيته مهما كان يمتلك من القوة العسكرية لأنه كما قلنا أن قوة مركزيته المتمثلة في القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة لا تقوم بدورها إلا في مجتمع متماسك.
فما بالنا إذا كان هذا العامل المساعد هو قدر الله الذي قدره للعمل على هذه المحاور الثلاث فلا يعمل فقط على تنشيط عوامل الفناء الحضاري الخاملة بل يعمل كذلك على مواجهة القوة العسكرية بالإنهاك ، فتعمل هذه المواجهة وذلك الإنهاك ذاتياً على المحور الثالث ألا وهو الهالة الإعلامية الكاذبة ، فيقوم بنزع المهابة التي تصور هذه القوة أن لا شيء يقف أمامها البتة.
وهذا تماماً ما حدث للقطب الشيوعي عندما وُضع في مواجهة عسكرية مع قوة أضعف منه بمراحل بل لا تقارن به ، ولكنها نجحت في إنهاكه عسكريا والأهم من ذلك تنشيط عوامل الفناء الحضاري في دياره :
- عقيدة الإلحاد في مواجهة عقائد تؤمن بحياة أخرى وإله.
- حب الدنيا والملذات والترف في مواجهة أفراد ليس عندهم ما يخسرونه.
- انحلال خلقي أقل مظاهره أن يعود الضابط أو الجندي الروسي - إن عاد - فيجد زوجته قد أنجبت من غيره أو على علاقة بغيره.
- مظالم اجتماعية طفت بوضوح على السطح عندما ضعفت الحالة الاقتصادية بسبب الحرب ، فعندما يقل المال وتبدأ الأزمات المالية يظهر اللصوص الكبار خاصة إذا بدأت المحاسبة الدقيقة.
مع ملاحظة هامة : أن الضعف الاقتصادي الناشئ عن تكاليف الحرب أو الناشئ عن توجيه ضربات النكاية مباشرة إلى الاقتصاد هو أهم عوامل الفناء الحضاري حيث يهدد الترف والملذات التي تلهث خلفها تلك المجتمعات فيبدأ التنافس بينهم حولها بعد أن تقل بسبب ضعف الاقتصاد ، كذلك تطفو على السطح من خلال الضعف الاقتصادي المظالم الاجتماعية مما يشعل الحروب أو المواجهات السياسية والفرقة بين شرائح كيان المجتمع في بلد المركز.
كذلك عملت هذه القوة - على الرغم من ضعفها - على المحور الثالث أي بنزع المهابة من الجيش الروسي من قلوب الشعوب التي كانت تدور أنظمتها في فلكه في أوروبا وآسيا فبدأت بالتساقط منه والخروج عليه واحدة وراء الأخرى.
بل عملت هذه القوة الضعيفة على محور رابع خاص بالأمة ألا وهو إحياء العقيدة والجهاد في قلوب الشعوب المسلمة التي كانت خاضعة تحت كيان هذا القطب لما رأت المثل والقدوة في الجهاد من هذا الشعب الأفغاني الفقير المجاور لهم الذي استطاع الصمود أمام أقوى ترسانة حربية وأشرس جيش من حيث طبيعة أفراده في ذلك الوقت ، فرأينا الجهاد يخرج من أراضٍ لم يسمع بها كثير من المسلمين كالشيشان وطاجيكستان وغيرهما.
وكل ما سجلناه هنا واقع حادث بل والأهم من ذلك أن من نعم الله على من يخوض المعركة أنه أقرب أهل العلم والفراسة في تحسب ذلك ، فمثلاً تحدث الشهيد - نحسبه كذلك - سيد قطب رحمه الله عن سقوط الاتحاد السوفيتي وبين من السنن التي ستؤدي إلى ذلك الكثير لكنه ما كان يستطيع أن يحدد زمناً مُتوقعاً أو بيانات محددة ، في حين أن للشيخ عبد الله عزام - الذي استشهد رحمه الله قبل سقوط الاتحاد السوفيتي - تحليلاً تنبأ فيه بسقوط هذه الدولة العظمى وتشرذم جمهورياتها ونشوء حركات إسلامية مجاهدة في بعض جمهورياتها ، الأغرب من هذا أن تحليله كان مبنياً على أرقام حيث جاء فيه عدد قوات الجيش الروسي صاحب أكبر ترسانة سلاح في العالم وجيش أكبر من الجيش الأمريكي من حيث العدد وأشرس وأقدر على احتمال جو المعارك وخسائرها البشرية ، والأغرب من ذلك أيضاً أنه لم يكن مبنياً على انسحاب الروس من أفغانستان وإن كان يأمل ذلك وإنما مبني على أن ضغط المجاهدين سيدفع الروس لضخ مزيد من أعداد الجند داخل أفغانستان مما يقلل الاحتياطي في الجيش السوفيتي وأن هذا الضغط والنقص سيُجرئ الجمهوريات السوفيتية على محاولة الانفصال خاصة الإسلامية التي رأى سكانها قدوة عملية على إمكانية المقاومة ، وتقريبا كل ما قال حدث وكأنه فيلم سينمائي ، ومن هذا نعلم أن معرفة قدرات العدو وموعد هزيمته لن تتأتى لنا إلا بخوض الحرب العملية معه مهما كان لنا من عقل أو دراسات نظرية.
هنا نسجل أن بانهيار ذلك القطب سقطت جمهورياته في الفوضى لكن بسبب توفر عوامل معينة سرعان ما قامت في أغلبها إدارات دول - دون المرور بمرحلة إدارة توحش - نجح بعضها في الاستمرار حتى الآن.
نجحت إدارات التوحش في الشيشان وأفغانستان – أفغانستان لم تكن من الجمهوريات السوفيتية - في إقامة ما يمكن أن يُطلق عليه دول لكن تم إسقاطهما الآن ، بل تم إعادتهما إلى مرحلة ما قبل إدارة التوحش وهي مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ، ونسجل أن تطور الأحداث في البلدين لم تكن بسبب أحداث دخول داغستان وأحداث سبتمبر ، وإن كانت قد تكون عجلت به وتفصيل ذلك يطول وقد أشرنا لما يخص أفغانستان فيما سبق.
هكذا انهار ذلك القطب ولكن سرعان ما تمكنت حضارة الشيطان من تدارك الأمر والاستمرار في التحكم في العالم من خلال تماسك القطب المتبقي [ أمريكا ] بحيث يقوم مع دول العالم عامة ودول منطقتنا خاصة بنفس الدور الذي كان يقوم به القطبان ، بل أصبحت الصورة أشد قتامة أمام بعض الشرفاء سواءً من أهل الدين أو من غيرهم في الدول الخاضعة لهذا النظام العالمي لظنهم أن القطب المتبقي مستعصٍ على الإفناء وأن عناصر قوته تختلف عن مثيلاتها في القطب المنهار ، خاصة أن هالته الإعلامية أضعاف أضعاف الهالة الإعلامية للقطب المنهار.
والبعض الآخر من أهل الصدق والجهاد كانوا يطرحون ما أراهم الله وأنشأ به التصور في أذهانهم عن ضعف العدو وقلته ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فكان هذا البعض يقول للباقين من أهل الدين والشعوب : يا قوم إن شراسة الجندي الروسي أضعاف ما عند الأمريكي ، ولو قُتل لأمريكا عُشر من قُتل لروسيا في أفغانستان والشيشان لولت هاربـة لا تلوي على شيء ، وذلك لأن بنية جنود أمريكا والغرب الآن غير بنية جنودهم في حقبة الاستعمار ، فقد وصلوا لمرحلة من الترف تجعلهم غير قادرين على تحمل المعارك مدة طويلة واستبدلوا ذلك بهالة إعلامية كاذبة ، يا قوم إن المركز في الاتحاد السوفيتي كان قريباً على قدر ما من البلاد التي فيها المواجهات ، بل كان لها حدود مشتركة مع أرض المواجهات فكانت تتدفق الإمدادات والآليات والمدرعات بسهولة وبدون تكلفة كبيرة بينما الأمر مختلف بالنسبة لأمريكا فبعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل جيد ليفهم الأمريكان صعوبة الاستمرار في خضوعنا لهم وتحكمهم فينا ونهبهم خيراتنا إذا قررنا رفض ذلك ، فقط إذا قررنا وأشعلنا المواجهة لإثبات ذلك.
هذه كانت الصورة حتى أحداث سبتمبر وإرهاصاتها التي بدأت بأحداث نيروبي ودار السلام.
والخلاصة : خلصت حركة التجديد المعاصرة بعد أن عركتها الأحداث والمعارك وتراكمت لديها الخبرات خلال أكثر من ثلاثين عاماً إلى أن عليها القيام ببعض العمليات النوعية المرتبة بنظام معين والتي بدأت بعملية نيروبي ودار السلام لتحقيق الأهداف التالية - بإذن الله - :
أ - الهدف الأول : إسقاط جزء هام من هيبة أمريكا وبث الثقة في نفوس المسلمين من خلال :
(1) كشف الهالة الإعلامية الكاذبة بأنها قوة لا تقهر.
(2) جعل أمريكا تستبدل حربها على الإسلام من نظام الحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها لتكشف أمام أعين شرفاء الشعوب وقلة من شرفاء جيوش الردة أن خوفهم من خلع الأنظمة لكون أمريكا تحمي هذه الأنظمة ليس في محله ، وأنهم عند خلع الأنظمة يمكنهم مواجهة أمريكا إذا تدخلت.
ب - الهدف الثاني : تعويض الخسائر البشرية التي منيت بها حركة التجديد في الثلاثين عاما الماضية عن طريق مد بشري متوقع يأتي لسببين :
(1) الانبهار بالعمليات التي سيتم القيام بها في مواجهة أمريكا.
(2) الغضب من التدخل الأمريكي السافر والمباشر في العالم الإسلامي ، بحيث يتراكم ذلك الغضب على كم الغضب السابق على دعم أمريكا للكيان الصهيوني مع تحويل الغضب المكبوت تجاه أنظمة الردة والظلم إلى غضب إيجابي ومد بشري لا ينضب لحركة التجديد ، خاصة عندما ينكشف لأهل الغفلة من الشعوب - وهم الأكثرية - حقيقة عمالة هذه الأنظمة لأعداء الأمة بصورة لا ينفع معها أي أقنعة كاذبة ، وبحيث لا يبقى حجة لأي مدعي بإسلام هذه الأنظمة وأعوانها.
ج - الهدف الثالث : العمل على إظهار ضعف القوة المركزية لأمريكا بدفعها إلى استبدال الحرب الإعلامية النفسية والحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها فينكشف للمترددين من جميع الطوائف والأصناف بل وينكشف للأمريكان أنفسهم أن بعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل هام جداً في إمكانية حدوث الفوضى والتوحش.
(((((((
المبحث الأول
التعريف بإدارة التوحش وبيان السوابق التأريخية لها
قلنا فيما سبق إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القـرن العشرين يجد أنه عند سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات - سواءً كانت إسلامية أو غير إسلامية - ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش.. لذلك تعرّف إدارة التوحش باختصار شديد بأنها : إدارة الفوضى المتوحشة..!!
أما التعريف بالتفصيل فهو يختلف تبعاً لأهداف وطبيعة أفراد هذه الإدارة ، فلو تخيلناها في صورتها الأولية نجدها تتمثل في : إدارة حاجيات الناس من توفير الطعام والعلاج ، وحفظ الأمن والقضاء بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش وتأمين الحدود من خلال مجموعات الردع لكل من يحاول الاعتداء على مناطق التوحش إضافة إلى إقامة تحصينات دفاعية.
قد ترتقي إدارة احتياجات الناس من طعام وعلاج إلى تحمل مسؤولية تقديم خدمات مثل التعليم ونحو ذلك ، وقد يرتقي حفظ الأمن وتأمين الحدود للعمل على توسيع منطقة التوحش.
لماذا أطلقنا عليها [ إدارة التوحش ] أو [ إدارة الفوضى المتوحشة ] ولم نطلق عليها [ إدارة الفوضى ] ؟
ذلك لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعاني من الفوضى أو مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى ولكنها طبقاً لعالمنا المعاصر ولسوابقها التأريخية المماثلة وفي ظل الثروات والأطماع والقوى المختلفة والطبيعة البشرية وفي ظل الصورة التي نتوقعها في هذا البحث يكون الأمر أعم من الفوضى بل إن منطقة التوحش قبل خضوعها للإدارة ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان.. منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش ، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخياراً كانوا أو أشراراً إلا أن إدارة الأشرار لهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش..!!
الصورة المثالية لمهمات إدارة التوحش التي نرومها :
بيَّنَّا فيما سبق مهمات إدارة التوحش في صورتها الأولية بشكل عام ، إلا أننا قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى نحب أن نوضح مهمات إدارة التوحش في الصورة المثالية التي نرومها ، والتي تتفق مع مقاصد الشرع ، هذه المهمات هي :
- نشر الأمن الداخلي.
- توفير الطعام والعلاج.
- تأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء.
- إقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش.
- رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك.
- العمل على بث العلم الشرعي [ الأهم فالمهم ] والدنيوي [ الأهم فالمهم ].
- بث العيون واستكمال بناء إنشاء جهاز الاستخبارات المصغر.
- تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا بضابط شرعي وقواعد معلنة بين أفراد الإدارة على الأقل.
- ردع المنافقين بالحجة وغيرها وإجبارهم على كبت وكتم نفاقهم وعدم إعلان آرائهم المثبطة ومن ثم مراعاة المطاعين منهم حتى يُكف شرهم.
- الترقي حتى تتحقق إمكانية التوسع والقدرة على الإغارة على الأعداء لردعهم وغنم أموالهم وإبقائهم في توجس دائم وحاجة للموادعة.
- إقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه ممن لم يعط الولاء الكامل للإدارة.
السوابق التأريخية والمعاصرة لإدارة التوحش :
- السنوات الأولى من بعد الهجرة إلى المدينة :
إدارة التوحش قامت في تأريخنا الإسلامي مرات متعددة ، وأول مثال لها كان بداية أمر الدولة الإسلامية في المدينة ، فباستثناء الإمبراطورية الرومانية والفارسية وبعض الدول أو الدويلات التي كانت على أطراف الجزيرة كان النظام القبلي في الجزيرة يقوم على نظام مشابه لنظام إدارة التوحش ، ويمكن اعتبار المرحلة الأولى من العهد المدني - قبل استقرارها وإقامة دولة تأتيها الزكاة والجزية وتقيم وتعتمد الولايات حولها وتعين العمال والولاة - يمكن اعتبار تلك الفترة السابقة لذلك أنها أديرت فيها المدينة بنظام إدارة التوحش ، نعم لم تكن المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تُعاني من التوحش بل كانت تدار من قبل قبائل كالأوس والخزرج بنظام شبيه بنظام إدارة التوحش ثم عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأعطت العناصر الرئيسية فيها الولاء له أديرت المدينة في هذه الفترة الأولى بشبيه هذا النظام من قبل المسلمين ، بل بالنظام المثالي لإدارة التوحش الذي بينا ملامحه فيما سبق.
- أما على مدار تأريخنا الإسلامي ففي حالات خاصة عديدة ، حال الفترات العصيبة عند سقوط خلافة وقيام أخرى أو خلال تعرضنا لهجمات خارجية كالهجمة التتارية والهجمات الصليبية خلال مثل هذه الفترات العصيبة قامت مثل هذه الإدارات وارتقى بعضها بإقامة دويلات صغيرة ثم تجمع لإقامة خلافة أو دولة متجاورة مع دول أخرى أو مع خلافة ، وأوضح مثال لذلك كما ذكر الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر - فك الله أسره - هو فترة الحروب الصليبية حيث قال :
( أغلب من تكلم في هذه الفترة الزمنية عالجها من جهة بعض الأشخاص الذين أحدثوا أثراً تجميعياً للجهود المتفرقة السابقة لأعمالهم ، فنرى كاتباً يعالجها من جهة القائد نور الدين زنكي أو من جهة القائد صلاح الدين الأيوبي ، وهكذا.. فيظن القارئ على غير دراية أن هذا الجزء من التأريخ الإسلامي في معالجة الصليبيين تم عن طريق الدولة الجامعة لأمر المسلمين وهذا خطأ بين ، فالقارئ المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أن المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة ، وتنظيمات متوزعة متفرقة ، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات ، جمعت تحت إمرتها طائفة من الناس ، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه ، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا ، ولعل خير من يشرح لنا هذه الأوضاع على حقيقتها هو كتاب [ الاعتبار ] للأمير أسامة بن منقذ ، وأسامة هذا من قلعة شيزر ، وعائلته آل منقذ هم حكام هذه القلعة ، ولهم دور مشهود في الحروب الصليبية ، وأسامة شاهد عيان لحروب المسلمين ضد الصليبيين.
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى ، المهم التنبيه على أن دور القادة الكبار أمثال آل زنكي والأيوبيين هو تجميع هذه التكتلات والتنظيمات في تجمع واحد وتنظيم واحد ، ومع ذلك فقد بقي هو الدور الأكبر لتلك التكتلات الصغيرة القائمة على الحق في معالجة الحروب الصليبية.. ) أ.هـ.
سبق هذه التكتلات الصغيرة التي سيطرت على بعض القلاع والمدن الصغيرة وتزامن معها القيام بعمليات نكاية وإنهاك ( إن شئت فاقرأ بالتفصيل ما كتب في ثنايا السطور عن الحروب الصليبية تدرك أن الإنهاك الذي كان يقوم به طائفة العلم والجهاد هو الذي حقق النصر في المعارك الكبرى لا المعارك الكبرى ذاتها ، بل لم تكن هذه المعارك الكبرى كحطين إلا محصلة لمعارك صغيرة لا تكاد تذكر في التأريخ لكنها كانت الأرقام الأولى لتشكل النصر الكبير النهائي ).
ومن الأمثلة العجيبة لإدارات التوحش ما نقله الشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - عن قيام مائة رجل مسلم بإدارة منطقة جبلية بين ما يعرف بايطاليا وفرنسا الآن وفرض ما يشبه الجزية على ما يجاورها من المناطق واستمر ذلك فترة من الزمن.
كذلك من الحركات التي أقامت إدارات للتوحش بل طورت منـها وجمعت شتات المناطق المدارة بما يشبه دولة لفترة من الزمن [ حركة الإمام السيد ] التي جددت دعوة التوحيد والجهاد بالمربع السني في منطقة الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان وعلى الرغم من قصر عمر هذه الحركة ككيان استمر فقط من بداية القرن التاسع عشر إلى بعد منتصفه بقليل إلا أن تأثيرها ممتد حتى الآن ، بل إن ما قامت به من أعمال ضد أعداء الله وعلى رأسهم الإنجليز يعتبر مصدر إلهام لحركات الجهاد في كشمير والهند وأفغانستان ، بل لعل امتداد بقاياها كان له أثر قوي في انفصال باكستان عن الهند –بغضِّ النظر عن مدى الانحراف في الحكومة الباكستانية التي قطفت ثمرة الجهاد- في منتصف القرن العشرين ، بل إن رجال الجهاد الأفغاني مازالوا يستلهمون العبر من سيرة ذلك الإمام ، كيف لا وقد عرف جبال أفغانستان وعرفته؟
هذا بالنسبة للمسلمين أما الكفار فهناك عشرات بل مئات الأمثلة لـ [ إدارات توحش ] أقامها الكفار في أوروبا وأفريقيا وباقي القارات في العصور السابقة.
أما في العصر الحديث فبعد معاهدة [ سايكس بيكو ] وارتقائها واستقرار وضعها بنهاية الحرب العالمية الثانية وبروز هيئة الأمم المتحدة وإحكام النظام الجاهلي السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدي والحدود المُسيجة بين ما يُسمى دول العالم أصبح من الصعب إقامة مثل هذه الإدارات ، إلا أنه بالرغم من ذلك قامت العديد من إدارات التوحش خاصة في الأماكن التي تبتعد عن المركز وتتيح ظروفها الجغرافية والسكانية تسهيل ذلك.
وهناك أمثلة عديدة لتجمعات معاصرة سواءً إسلامية أو يسارية أو غير ذلك منها :
الفصائل المقاتلة في أفغانستان في المراحل الأولى للجهاد والمراحل الأولى لحركة طالبان حتى قيامها بإقامة دولتها - أعادها الله في عز ورفعة - بغض النظر عن مدى قرب هذه الإدارات من الصورة المثالية الواقعية الإسلامية أو بعدها عنها أو حتى مخالفتها لها.
كذلك حركة [ أبي سياف ] وجبهة [ تحرير مورو ] بالفلبين ، كذلك حركات الجهاد بالجزائر في بعض فترات الجهاد في التسعينات بغض النظر عن انحراف البعض.
كذلك الفصائل الإسلامية وغيرها في الصومال بعد سقوط دولة [ سياد بري ].
كذلك بعض المراحل الزمنية لبعض المناطق في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والشيشان.
تجدر الملاحظة هنا أننا لا نعتبر حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين الآن والجماعة الإسلامية بمصر في فترة التسعينات وكذلك الجماعة المقاتلة في ليبيا ومن يشابههم قد أقاموا بعد إدارات توحش وإنما هم كانوا - وبعضهم مازال - في مرحلة ما قبل إدارة التوحش وهي مرحلة يطلق عليها مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] وهي مرحلة تسبق في العادة مرحلة إدارة التوحش في حالة إذا كان في حسابات من يقوم بالنكاية أن التوحش سيحدث ومن ثم الإعداد لإدارته ، وإلا فان بعض مجموعات النكاية تقوم بالنكاية دون أن تضع ذلك في حساباتها ، وأحياناً تقوم بالنكاية لإضعاف دولة لحساب دولة أخرى أو قوة أخرى ستتسلم حكم الدولة المُنهكة أو أرض التوحش وتقيم مكانها دولتها دون المرور بمرحلة إدارة التوحش.
هذا وسيأتي في المبحث القادم بيان أهداف والتعريف بمرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] وهي المرحلة التي نمر بها الآن.
نعود للأمثلة المعاصرة لإدارات التوحش ونركز هنا على الحركات غير الإسلامية ومنها :
- حركة جون جارنج بجنوب السودان المسماة [ الجبهة الشعبية لتحرير السودان ].
- حركات اليساريين في أمريكا الوسطى والجنوبية ، ولعل اليساريين أبدعوا في بعض النواحي العملية في إدارة مناطق التوحش هناك وبعضهم أقام دول.. ولكنهم يديرون هذه المناطق بمبادئهم القذرة التي لا تقبلها المناطق المحيطة عادة مما يجعل مناطقهم غير قابلة للتوسع لرفض السكان الانتقال من الحكومة المركزية والانضمام لإدارة التوحش أو لإقامة دولة على أنقاض الدولة المركزية.. ويكفي أن نعلم أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانقطاع جانب مما كانت تعتمد عليه هذه الحركات في التمويل أصبحت جل هذه الحركات تعتمد في تمويلها على تحصيل أموال مقابل إيجاد ملاذات آمنة للخارجين عن قوانين البلاد هناك ، أو كبار تجار المخدرات بل يقومون بأنفسهم بزراعة المخدرات والاتجار فيها ، كذلك نهب السكان المحليين وخطفهم وأخذ فدية مقابل إطلاق سراحهم أو إبقائهم كرهائن ودروع بشرية ، ومجتمع التوحش الذي يديرونه وإن كان به قضاء إلا أنه مليء بالانحلال الخلقي تبعاً لمبادئ الإباحية التي يعتنقونها ، كذلك مناطقهم يتم تأمينها دفاعياً بصورة جيدة ، حتى أن أمريكا قد أصابها الجنون من عدم قدرتها على تدمير هذه الجيوب والقضاء عليها وإلحاقها بأنظمة الدول التي تدور في فلك أمريكا أو ما يطلق عليه زوراً الأمم المتحدة ، إلا أننا نسجل أننا نعتقد ونؤمن أن الحرب هناك بين منظومتين يجتمع فيهما الكفر والظلم.
(((((((
المبحث الثاني
طريق التمكين
- مراحل المجموعة الرئيسية :
مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ].. ثم مرحلة [ إدارة التوحش ].. ثم مرحلة [ شوكة التمكين - قيام الدولة - ].
- مراحل بقية الدول :
مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ].. ثم مرحلة [ التمكين ] الفتح وشوكة التمكين يأتيان من الخارج.
هذا مع ملاحظة أن من المحتمل أن تمر بعض الدول غير الرئيسية بنفس مراحل الدول الرئيسية تبعاً لتطورات الأحداث.
الدول المرشحة كمجموعة رئيسية :
رشحت الدراسات القريبة لحركة التجديد والمرتبطة بالأحداث الجارية مجموعة من [ الدول ] - على الصحيح المناطق - ينبغي التركيز عليها من قبل المجاهدين حتى لا تتشتت القوة الضاربة للمجاهدين في دول لا مردود من وراء العمل المُركز فيها ، بالطبع هذا الترشيح المبدئي النظري يتيح لأهل كل بلد إمعان النظر واتخاذ القرار ومن ثم يمكن التركيز في النهاية على بلدين أو ثلاثة تم التحقق من استعداد أهلها للتحرك ، هذا بالنسبة للعمل المُركَّز ، لذلك يجدر التنبيه إلى أن الدراسات لم تغفل عن قيام باقي التجمعات المسلمة في العالم بالقيام بعمليات نكاية كتشتيت لتفكير وقوات العدو كذلك ، كإرهاصات للجهاد القادم من خارج الحدود بعد ذلك.
ونستطيع القول أن الأمر فيه من المرونة بحيث يتغير تبعاً للتطورات ، وقد تم نشر هذه الدراسات في ثلاثة الأعوام السابقة لأحداث سبتمبر ، أما بعد الأحداث وما تلاها من تطورات فقد أعلنت القيادة بعض التعديلات فاستبعدت بعض المناطق من مجموعة المناطق الرئيسية على أن يتم ضمها لتعمل في نظام بقية الدول وأدخلت بلدين أو قل منطقتين إضافيتين ألا وهما بلاد الحرمين ونيجيريا ومن ثم أصبحت الدول المرشحة مبدئياً لتدخل في مجموعة المناطق الرئيسية هي مناطق الدول الآتية : الأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن.
هذا الترشيح مبدئي - بالطبع - وإلا فإن لأهل كل منطقة من هذه المناطق - ما صدقوا مع الله ثم مع أنفسهم - النظر بدقة أكبر في إمكانية تحركهم بصورة مركزة أم لا - هذا أولاً - أما ثانياً فإن المقصد من الترشيح أن هذه هي أقرب الدول المرشحة إلا أنه لا بأس بل قد يكون من الأفضل الاقتصار على بلدين أو ثلاثة يتحركون بصورة مركزة على أن تتحرك باقي الدول على نفس طريق ومراحل بقية الدول غير الرئيسية.. نسأل الله الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد.
تنبيه هام جداً : عندما أقول اليمن مثلاً وأسبقها بكلمة منطقة أقصد من ذلك عدم التقيد بحدود الأمم المتحدة بحيث يتحرك المجاهدون بحرية في حدود اليمن والحجاز وعمان ، أما عندما أقول مناطق أو منطقة التوحش فلا أقصد قطراً بالكامل وإنما في العادة منطقة التوحش تكون مدينة أو قرية أو مدينتين أو حتى حي أو جزء من مدينة كبيرة.
مقومات الترشيح :
بالنظر إلى الروابط المشتركة بين الدول التي يمكن أن يحدث فيها مناطق توحش نلاحظ أنه يجمعها بعض أو كل المقومات الآتية :
- وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق بها تدار بنظام إدارة التوحش.
- ضعف النظام الحاكم وضعف مركزية قواته على أطراف المناطق في نطاق دولته بل وعلى مناطق داخلية أحيانا خاصة المكتظة.
- وجود مد إسلامي جهادي مبشر في هذه المناطق.
- طبيعة الناس في هذه المناطق ، فهذا أمر فضل الله به بقاعاً على بقاع.
- كذلك انتشار السلاح بأيدي الناس فيها.
ومن تصاريف الأقدار المبشرة - بإذن الله - أن أغلب الدول المرشحة في جهات متباعدة مما يصعب مهمة أي قوات دولية في الانتشار في مساحة واسعة في عمق العالم الإسلامي.
أما باقي مناطق العالم الإسلامي والتي بها مد إسلامي جهادي لا تخطئه العين - خاصة بعد أحداث سبتمبر وما تبعها من أحداث - إلا أنها تعاني من قوة الأنظمة الحاكمة لها وقوة مركزيتها خاصة لعدم وجود جيوب ومناطق تسمح تضاريسها الجغرافية بالتحرك كما في المناطق المختارة ، إضافة إلى طبيعة بعض شعوب هذه المناطق ، إلا أن هذه المناطق - كما سنبين بالتفصيل - عليها أن تبدأ في النكاية - بل هي بدأت بالفعل كما في تركيا وتونس وغيرهما -.
فالأمر باختصار - وسيأتي التفصيل - : مرحلة شوكة النكاية والإنهاك عن طريق مجموعات وخلايا منفصلة في كل مناطق العالم الإسلامي - الرئيسية وغير الرئيسية - حتى تحدث فوضى وتوحش متوقعة في مناطق عديدة بالدول الرئيسية المختارة طبقاً للدراسات كما قلنا ، بينما لن تحدث فوضى في مناطق باقي الدول لقوة الأنظمة فيها وقوة مركزيتها.. ثم ترتقي مناطق الفوضى والتوحش إلى مرحلة إدارة التوحش ، بينما تستمر باقي مناطق ودول العالم الإسلامي بجناحين جناح الدعم اللوجستي لمناطق التوحش المداراة بواسطتنا وجناح شوكة النكاية والإنهاك للأنظمة حتى يأتيها الفتح من الخارج بإذن الله.
( أقصد بالدعم اللوجستي [ المال ] ، [ محطة انتقال أفراد ] ، [ إيواء عناصر ] ، [ الإعلام ].. الخ ).
الأهداف الرئيسية لمرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] :
1- إنهاك قوات العدو والأنظمة العميلة لها وتشتيت جهودها والعمل على جعلها لا تستطيع أن تلتقط أنفاسها وذلك في مناطق الدول الرئيسية المرشحة وغير المرشحة كذلك ، بعمليـات وإن كانت صغيرة الحجم أو الأثر - ولو ضربة عصا على رأس صليبي - إلا أن انتشارها وتصاعديتها سيكون له تأثير على المدى الطويل.
2- جذب شباب جدد للعمل الجهادي عن طريق القيام كل فترة زمنية مناسبة من حيث التوقيت والقدرة بعمليات نوعية تلفت أنظار الناس ، ( أقصد بعمليات نوعية هنا أي العمليات النوعية المتوسطة على غرار عملية بالي وعملية المحيا وعملية جربة بتونس وعمليات تركيا والعمليات الكبرى بالعراق ومثل ذلك ، ولا أقصد عمليات نوعية على غرار عملية سبتمبر ، والتي شغل التفكير فيها قد يُعطل عن القيام بالعمليات النوعية الأقل منها حجماً ، كذلك إذا كان هناك إمكانية للقيام بمثيل لها فالأفضل عدم التسرع بدون معرفة رأي القيادة العليا ، فضلاً على أنها في الغالب قد تحتاج إمكانيات ودعم وتغطية لا تتوفر في الغالب إلا عن طريق القيادة العليا ، بينما عمليات على غرار بالي والمحيا مثل تلك العمليات لا تنتظر مشاورة القيادة العليا لكونها أذنت بها مسبقاً ويُمكن أن يكون معدلها بطيئاً مع الانتشار ومع العمليات الصغيرة المكثفة التي ذكرناها في النقطة السابقة ، ومن ثم بعد فترة مناسبة - يُعمل فيها على ترقية أصحاب العمليات العادية الصغيرة - يمكن جعل معدل العمليات النوعية المتوسطة تتصاعد بحيث يقترب من معدل العمليات العادية الصغيرة ).
مع ملاحظة : أنه يجب أن تُحسب قيمة العملية العادية الصغيرة جيداً ونتائجها فأحياناً تؤدي العملية الصغيرة لمفاسد أو مشاكل أو كشف لمجموعات أخرى تُحضِّر لعملية نوعية متوسطة ، وإذا كان من يقومون بعمليات صغيرة قادرين على الترقي وتطوير أنفسهم للقيام بعملية نوعية متوسطة فعليهم ذلك حتى لو تم إلغاء العملية الصغيرة من أجلها ، إلا أنه في الجملة أفضل طريق للترقي للمجموعات الناشئة للقيام بعمليات نوعية هو القيام بعمليات صغيرة في البداية ، ما التزموا بتحركات واحتياطات سليمة.
3- إخراج المناطق المختارة - التي اتخذ القرار بالتحرك المُركز فيها سواءً كانت كل المناطق المرشحة أو بعضها - من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذي سيحدث فيها.. مع ملاحظة هنا أننا قلنا أن الهدف هو إخراج هذه المناطق من سيطرة أنظمة الردة وهو الهدف الذي نعلنه ونعقد النية عليه ، لا إحداث الفوضى.
مع ملاحظة : أننا قد نفاجأ في سقوط مناطق في أطراف أو في عمق دول [ غير مرشحة ] في الفوضى والتوحش ، وهنا لا يخلو الأمر من احتمالين إما أن توجد تنظيمات إسلامية في تلك المناطق قادرة على إدارة هذا التوحش أو لا توجد وفي هذه الحالة إما أنها ستقع تحت قبضة تنظيمات غير إسلامية أو بقايا أنظمة حاكمة أو عصابات منظمة.. الخ.
هنا لابد التنبيه على شبهة هامة يقول الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر فك الله أسره :
( وهنا لا بد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية ، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة ، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها ).
4- الهدف الرابع من أهداف مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] هو الارتقاء بمجموعات النكاية بالتدريب والممارسة العملية ليكونوا مُهيئين نفسياً وعملياً لمرحلة إدارة التوحش.
الأهداف الرئيسية لمرحلة [ إدارة التوحش ] :
نستطيع أن نضع هنا أهم النقاط التي ذكرناها تحت عنوان " مهمات إدارة التوحش في صورتها المثالية " :
1- نشر الأمن الداخلي والحفاظ عليه في كل منطقة مُدارة.
2- توفير الطعام والعلاج.
3- تأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء عن طريق إقامة التحصينات الدفاعية وتطوير القدرات القتالية.
4- إقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش.
5- رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك لدنيانا وآخرتنا ، بل وتبيين وجوبه المتعين ، وأنه ليس معناه أن يمارس القتال كل فرد في المجتمع ولكن أن يكون جزءاً أو ترساً من المنظومة القتالية على الصورة التي يتقنها والتي يحتاجها المجتمع.
6- العمل على بث العلم الشرعي الفقهي [ الأهم فالمهم ] والدنيوي [ الأهم فالمهم ].
7- بث العيون واستكمال بناء إنشاء جهاز الاستخبارات المصغر.
8- تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا بضابط شرعي وقواعد معلنة بين أفراد الإدارة على الأقل.
9- ردع المنافقين بالحجة وغيرها وإجبارهم على كبت وكتم نفاقهم وعدم إعلان آرائهم المثبطة ومن ثم مراعاة المطاعين منهم حتى يُكف شرهم.
10- العمل على الوصول للتمكن من التوسع ومن الإغارة على الأعداء لردعهم وغنم أموالهم وإبقائهم في توجس دائم وحاجة للموادعة.
11- إقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه ممن لم يعط الولاء الكامل للإدارة.
12- ونضيف إليها هدفاً مستقبلياً ألا وهو : الترقي بالمجموعات الإدارية للوصول لشوكة التمكين والتهيؤ لقطف الثمرة وإقامة الدولة.
كذلك في هذه المرحلة هناك أهداف نعمل لها في باقي المناطق غير المرشحة والتي لم تسقط في التوحش أهمها :
- الاستمرار في النكاية والإنهاك بقدر الإمكان.
- إنشاء شبكة دعم لوجستي لمناطق التوحش - المُدارة بواسطتنا - المجاورة والبعيدة.
وإذا حدث تعارض بين القيام بالنكاية والقيام بالدعم اللوجستي يقدم الأنسب والأفيد.
خطة العمل والتحرك :
ضربات متسلسلة لأمريكا تنتهي بضربة سبتمبر تستحقها أمريكا شرعاً وستنجح قدراً - بإذن الله - إذا تم استيفاء أسبابها - وقد نجحت والحمد لله - ، وكانت النتيجة الحتمية لهذه السلسلة المتصاعدة [ سقوط هيبة أمريكا عند الشعوب ، وعند أصحاب الرتب الدنيا من جيوش الردة ].
ومع اشتعال الأحداث واقتراب النار من المنطقة حدث مد للتيار الجهادي فاق أضعاف ما خسره في أحداث التسعينات وهذا المد عادة ما يحدث مع الأحداث والعمليات الكبيرة تبعاً لحجمها.
من ثم ستعمل أمريكا على الانتقام ، وهنا سيحتدم الصراع ، فإما ستشن حرب محدودة وفي هذه الحالة لن يشفي غليلها ولن تنجح في تطويق هذا المد المتصاعد ، وتكون أمريكا قد أسقطت دولة أفغانستان التي كان مخططاً لها ذلك أو كانت ستنهار بدون أحداث سبتمبر ( راجع المبحث التمهيدي ).. لكن ستبدأ في مواجهة تحول هذا المد إلى عشرات الآلاف من مجموعات سبتمبر بل ويوجهون لها الضربات ولن تجد دولة تنتقم منها ككيان فالباقي عملاء.. كذلك تبين لها أن الأنظمة التي توفر لها الدعم لم تحميها من الهجمات ولم تحافظ على مصالحها الاستراتيجية ومصالح ربيبتها إسرائيل في المنطقة.. فلا بديل لها إلا السقوط في الفخ الثاني.. أما الأول فقد ذكرناه وهو غزو أفغانستان فإن مجرد فشل أمريكا في تحقيق جميع أهدافها العسكرية في هذا البلد وبقاء هذا البلد طيلة عام أو عامين أو أكثر يقاوم يعكس نظرة لدى الشعوب ولدى بعض الشرفاء من جيوش الردة أن مواجهة أمريكا ممكنة ، أما الفخ الثاني فهو أن تجعل جيوشها التي تحتل المنطقة وتتخذ منها قواعد عسكرية بدون مقاومة في حالة حرب مع شعوب المنطقة ، والمُشاهد حتى هذه اللحظة أنها تحركت تحركات زادت المد الجهادي ، وأوجدت أفواجًا من الشباب تفكر وتخطط للمقاومة ، بعد أن كانت هذه القوات موجودة ومستقرة والشعوب نائمة بجوارها ولا تشعر بأي خطر ، وكذلك بدأ يتكشف للإدارة الأمريكية أنها تُستنزَف وأن سهولة الدخول في أكثر من حرب في وقت واحد كان كلاماً نظرياً يصلح على الورق فقط ، وأن بُعد المركز عن الأطراف مؤثر تأثيراً بالغاً على تمكنها من حسم الحروب ، وكل هذه النتائج تتعاظم يوماً بعد يوم والحمد لله من قبل ومن بعد.
وها هي يوجه لها ولحلفائها الضربات في مشارق الأرض ومغاربها.. وهذه هي الحالة حتى هذه اللحظة , فما هي الخطة التي نحرك بها الأحداث من الآن إلى أن نحقق أهدافنا التي ذكرناها كاملة - بإذن الله - ؟
- تنويع وتوسيع ضربات النكاية في العدو الصليبي والصهيوني في كل بقاع العالم الإسلامي بل وخارجه إن أمكن بحيث يحدث تشتيت لجهود حلف العدو ومن ثم استنزافه بأكبر قدر ممكن.. فمثلاً :
إذا ضرب منتجع سياحي يرتاده الصليبيون في أندونيسيا سيتم تأمين جميع المنتجعات السياحية في جميع دول العالم بما يشمل ذلك من شغل قوات إضافية أضعاف الوضع العادي وزيادة كبيرة في الإنفاق ، وإذا ضرب بنك ربوي للصليبيين في تركيا سيتم تأمين جميع البنوك التابعة للصليبيين في جميع البلاد ويزداد الاستنزاف ، وإذا ضربت مصلحة بترولية بالقرب من ميناء عدن ستوجه الحراسات المكثفة إلى كل شركات البترول وناقلاتها وخطوط أنابيبها لحمايتها وزيادة الاستنزاف ، وإذا تم تصفية اثنين من الكتاب المرتدِّين في عملية متزامنة ببلدين مختلفين فسيستوجب ذلك عليهم تأمين آلاف الكتاب في مختلف بلدان العالم الإسلامي.. وهكذا تنويع وتوسيع لدائرة الأهداف وضربات النكاية التي تتم من مجموعات صغيرة ومنفصلة ، مع تكرار نوع الهدف مرتين أو ثلاثاً ليتأكد لهم أن ذلك النوع سيظل مستهدفاً.
الأهداف التي نطلب التركيز عليها وأسباب ذلك :
قلنا أنه ينبغي علينا ضرب جميع أنواع الأهداف الجائز ضربها شرعاً إلا أننا يجب أن نركز على الأهداف الاقتصادية وخاصة البترول ، قد يقول قائل سنُواجَه بحملة إعلامية توجه لنا كل التهم بداية من العمالة إلى العمل على إفقار وإضعاف البلاد اقتصادياً و.. و..
وسيذكرنا البعض أنه عندما وجهت الجماعة الإسلامية بمصر هجماتها إلى السياحة تحت شعار أنها تدمر هدفاً محرماً وتضعف اقتصاد نظام الردة ، لم تحسن استغلال فكرتها والاستمرار فيها ، كذلك لم تحسن الرد على الحملات الإعلامية للنظام ، ولنا عودة مع هذه النقطة.
أما بالنسبة لمهاجمة الأهداف الاقتصادية التي يستفيد منها العدو ، وخاصة البترول فسبب ذلك أن هذا هو بيت القصيد - أو المُحرك على الأقل - عند العدو وما قطع قادته البحار إلا من أجله واستهداف تلك الأهداف ستدفعه لحث الأنظمة المنهكة في حماية باقي الأهداف الأخرى - الاقتصادية وغير الاقتصادية - إلى ضخ مزيد من القوات لحمايته ، فيبدأ يحدث عجز في قواتها خاصة أن قواتها محدودة ، حيث أن هناك قاعدة لأنظمة الردة تقول : إن قوات الشرطة والجيش بصفة عامة وقوات مكافحة الإرهاب والحماية ضد العمليات الإرهابية بصفة خاصة يجب أن تكون مصونة من الاختراق ، فمثلاً جهاز المباحث في مصر أفضل له أن يتكون من خمسة آلاف ضابط مضمون الولاء من أن يتكون من عشرين ألفاً بهم مجموعة مخترقة الجهاز من الجماعات الإسلامية ، لذلك فقواتهم محدودة مُنتقاة ، لذلك ستجد الأنظمة تضع أولويات :
أولاً : الحماية الشخصية للعائلات المالكة والأجهزة الرئاسية.
ثانياً : الأجانب.
ثالثاً : البترول والاقتصاد.
رابعاً : أماكن اللذة.
وتركيز الاهتمام والمتابعة على تلك الأهداف يبدأ منه التراخي وخلو الأطراف والمناطق المزدحمة والشعبية من القوات العسكرية أو وجود أعداد من الجند فيها بقيادة هشة وضعيفة القوة غير كافية العدد من الضباط وذلك لأنهم سيضعون الأكفاء لحماية الأهداف الاقتصادية ولحماية الرؤساء والملوك ، ومن ثم تكون هذه القوات الكثيرة الأعداد أحياناً الهشة بنياناً سهلة المهاجمة والحصول على ما في أيديها من سلاح بكميات جيدة ، وسيشاهد الجماهير كيف يفر الجند لا يلوون على شيء ، ومن هنا يبدأ التوحش والفوضى وتبدأ هذه المناطق تعاني من عدم الأمان.. هذا بالإضافة إلى الإنهاك والاستنزاف في مهاجمة باقي الأهداف ومقاومة السلطات.
ولكن ما قلته هنا لا يكفي ليتفهم القراء مسألة البترول دون اعتراضات وشبهات ، فعلى القراء مراجعة العناوين التالية في المبحث القادم :
- اعتماد القواعد العسكرية المجربة.
- فهم قواعد اللعبة السياسية للمخالفين والمجاورين والتعامل معها بالسياسة الشرعية.
- الاستقطاب - خاصة الجزء الخاص بالمال والجزء الخاص بالإعلام -.
كذلك فليرجع القراء إلى العناوين التالية من المقالات الملحقة بالبحث :
- مقال [ معركة الصبر ].
- مقال [ الاستقطاب والمال ].
- مقال [ السنن الكونية بين الأخيار والأغيار ].
كل عنوان أو مقال يتناول في جزء منه ما يُجلي هذه النقطة الخاصة بالاقتصاد والبترول في الأذهان وتسهل استيعابها ، ويُبين كيفية استهداف تلك القطاعات دون إهدار دماء أو أموال معصومة.
نعود لباقي الخطة.. عند حدوث التوحش : إذا كانت مجموعاتنا قريبة من مكان التوحش أو هناك وسيلة للوصول إليه وهناك عيون وأفراد تدين لنا بالولاء في منطقة التوحش علينا دراسة الوضع ومدى إمكانية نزولنا لإدارة هذا التوحش فإذا تجمعت بعض مجموعات النكاية في كيان واحد ونزلت لتدير منطقة من مناطق التوحش فعليها أن توازن مع مناطق التوحش بجوارها بين التكتل والانتشار بما يُشعر العدو بقدرة على الردع ويُشعره بعدم الاطمئنان ، الردع الذي يطول القادة والأتباع فيخوف القادة ويجعل الأتباع تفكر في التحول للانضمام للمجاهدين لتموت على الشهادة بدلاً من أن تموت مع الكافرين الظالمين ، هنا قد يجنح العدو للمسالمة - طبعاً بدون اتفاق - ويقنع العدو نفسه بالخطوط الخلفية لحماية الاقتصاد والمال فهو الغرض الذي حشد قواته له.
وبرجوع العدو للخطوط الخلفية ينسحب من مواقع ويزداد الانفراط الأمني والتوحش ويبدأ المجاهدون في استكمال التطور والمتابعة والتدريب والارتقاء لخطوات قادمة وتبدأ سمعة المجاهدين وأسهمهم في الارتفاع.
وكلما رأى العدو هذه الروح لن يكون أمامه إلا الانضمام إلى المجاهدين أو مزيد من الانسحاب وما ينتج عنه من مزيد من التوحش الذي علينا بعد دراسة منطقته والاتصال بطلائعنا فيها التقدم لإدارته.. وهكذا.
فك الاشتباك للخطة السابقة في نقاط محددة :
هذه الخطة تحتاج إلى :
- استراتيجية عسكرية تعمل على تشتيت جهود وقوات العدو وإنهاك واستنزاف قدراته المالية والعسكرية.
- استراتيجية إعلامية تستهدف وتركز على فئتين ، فئة الشعوب بحيث تدفع أكبر عدد منهم للانضمام للجهاد والقيام بالدعم الإيجابي والتعاطف السلبي ممن لا يلتحق بالصف ، الفئة الثانية جنود العدو أصحاب الرواتب الدنيا لدفعهم إلى الانضمام لصف المجاهدين أو على الأقل الفرار من خدمة العدو.
بعد فترة مناسبة نعمل على :
- تطوير الاستراتيجية العسكرية بما يدفع قوات العدو إلى التقوقع حول الأهداف الاقتصادية لتأمينها.
- تطوير الاستراتيجية الإعلامية بحيث تصل وتستهدف بعمق القيادة الوسطى من جيوش الردة لدفعهم للانضمام للجهاد.
- خطة واستعداد وتدريب لاستغلال نتائج النقاط السابقة - حدوث الفوضى والتوحش -.
- إقامة خطة إعلامية تستهدف في كل هذه المراحل تبريراً عقلياً وشرعياً للعمليات خاصة لفئة الشعوب والخروج من أسر استهداف أفراد الجماعات الإسلامية الأخرى فإنهم يفهمون كل شيء..!! وإنما الشعوب هي الرقم الصعب الذي سيكون ظهرنا ومددنا في المستقبل ، على أن يكون في هذه الخطة من الشفافية بل والاعتراف بالخطأ أحياناً ما يكشف أكاذيب وحيل العدو ويرسخ انطباع الصدق عنا عند الشعوب.
- هذه الخطة الإعلامية عندما تواكب مرحلة إدارة التوحش بصفة خاصة هدفها - الذي يجب أن تقوم اللجان الإعلامية بتخصيص من يخطط لها من الآن - هو أن يطير جموع الشعوب إلى المناطق التي نديرها خاصة الشباب عندما يصل إليهم أخبارها بكل شفافية وصدق بما يشمل ما فيها من نقص في الأموال والأنفس والثمرات.
مع ملاحظة أننا عندما نقول أن الشعوب هي الرقم الصعب ليس معناه أننا نعوِّل عليها حركتنا ، فنحن نعلم أنه لا يُعوَّل عليها في الجملة بسبب ما أحدث الطواغيت في بنيتها , وأنه لا صلاح للعامة إلا بعد الفتح ، ومن لا يستجيب من العوام ومتوقع أن يكونوا هم الكثرة , فدور السياسة الإعلامية الحصول على تعاطفهم , أو تحييدهم على الأقل ، ولكننا نُقدر أن لنا في الشعوب - بإذن الله وقدره - مخزوناً للتحرك الفعال ، على شرط أن نقوم بما علينا في أساليب استقطاب أخيار هذه الأمة من بين الشعوب , نسأل الله أن يغفر لنا خطايانا لنكون منهم ، فعلى فرض أننا نحتاج لمعركتنا الطويلة حتى تنتهي كما نريد - بإذن الله - نصف مليون مجاهد - افتراضاً - فإن إمكانية ضم هذا العدد من أمة المليار أسهل من ضمهم من شباب الحركة الإسلامية الملوث بشبهات مشايخ السوء ، فشباب الأمة على ما فيهم من معاصٍ أقرب للفطرة , وخبرات العقود السابقة أثبتت لنا ذلك ، أما الأحداث الأخيرة فقد وضح للجميع أن العامي بفطرته تفاعل معها أفضل بمراحل من قعدة الجماعات الإسلامية الذين سلموا دينهم لأحبار ورهبان السوء.
وننبه : أنه أحياناً يغلب على تفكير الذي يصوغ المادة الإعلامية توجيه أغلبها للرد على شبهات مشايخ السوء ، حتى وهو يوجه مادة للشعوب ، وهذا مطلوب لا شك إلا أنه ينبغي التركيز أكثر على تخيل صحيح لعقلية العوام وما أكثر الأفكار التي تعوقهم عن الالتحاق بصفوف الجهاد ، خاصة أن لهم طريقة في التفكير وعاطفة تختلف عن عقلية [ المسلكين !! ].
(((((((
المبحث الثالث
أهم القواعد والسياسات التي تتيسر باتباعها خطة العمل وتتحقق أهداف مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] بصفة عامة وأهداف مرحلة [ إدارة التوحش ] بصفة خاصة - بإذن الله -
الفصل الأول
إتقان فن الإدارة
بفضل الله أصبح العمل الإسلامي المنظم يُدار على أعلى مستوى إداري في عالمنا الإسلامي خاصة التنظيمات الجهادية إلا أنه مازال يحتاج إلى مزيد من الإتقان وتعميم التدريب والارتقاء ليشمل أكبر قدر من شرائح الحركة الإسلامية خاصة أننا مُقبلون - بإذن الله - على مرحلة ستتوسع فيها احتياجاتنا الإدارية فيما أطلقنا عليه مرحلة إدارة التوحش ، حيث سنختلط بمئات الألوف من الناس ومطلوب منا إدارة مناطق كحكومات مُصغرة ، وإذا لم نكن مستعدين للتعامل مع ذلك فسنواجه مشاكل خطيرة ، هذا فضلاً عن أضرار العشوائية أو أضرار التنظيم الإداري النمطي الذي يعطل الأعمال بجموده وتوقفه عن التطوير والارتقاء ، لذلك فعلى المجموعات الجهادية الصغيرة والمتوسطة العدد التي تمخضت عنها الأحداث وأصبحت بفضل الله في كل أقطار العالم الإسلامي أن تبدأ من الآن بنبذ العشوائية ، ونبذ النمطية الإدارية كذلك.
أهم ما يجب أن نستفيده من إتقان فن الإدارة هو تعلم كيفية إنشاء اللجان والتخصصات وتوزيع الأعمال بحيث لا تتجمع الأعمال كلها على كاهل شخص واحد أو كاهل قلة من الأفراد ، مع تدريب جميع الأفراد ونقل الخبرات حتى إذا غاب مدير قام آخر ، ويجب أن يُدرب كل فرد على كل أو أكبر قدر من الفروع بحيث يمكن نقل الكفاءات عند الحاجة من مكان إلى مكان آخر ، هذا طبعاً بدون أن يعرف الأفراد أسرار الفروع التي لا يعملون فيها وإنما قصدت أن يتم التدريب ونقل الخبرات كالمهارات والتقنيات لا أكثر.
إن إتقان فن الإدارة يحفظ الكثير من الوقت ويبارك في المجهود المبذول ، خاصة أننا في سباق مع الزمن ونحتاج لتفعيل أي جهد مبذول لنحصل منه على أفضل النتائج.
من الممكن داخل كل مجموعة اكتشاف أفراد يتقنون فن الإدارة بالفطرة ( توجد مراجع وأبحاث إدارية تتحدث عن القائد بالفطرة والمدير بالفطرة وكيفية اكتشافه وتفجير مواهبه ) إلا أن الحاجة تبقى ملحة لصقل هذه المواهب بالدراسة المكتسبة والممارسة العملية.
بالطبع في البداية سيتم تقديم ذوي الخبرة السابقة ، وعليهم القيام بإعداد الجيل الثاني ، وأبرز من يتم ترشيحه من الجيل الثاني هم طلاب العلم الأذكياء الأتقياء أصحاب استقبال الأهوال والخطوب برباطة جأش وهدوء وتفكير عميق ، وهذه الصفات الأخيرة تختص أكثر بمن سيتولى بجانب عمله الإداري عملاً قيادياً في الحركة.
علينا بكتب الإدارة ، خاصة آخر ما صدر من أبحاث ونظريات إدارية فيما يتناسب مع طبيعة المجتمعات المعاصرة ، وهناك أكثر من موقع على شبكة المعلومات يمكن الحصول منه على كتب إدارية ، وأعتقد أن المختصرات التي يتم إنزالها في موقع مفكرة الإسلام جيدة جداً خاصة أنها تشمل مختصرات لأبحاث عالمية حديثة وتعليقات جيدة من المشرفين فيها وبيان أن الأساليب الحديثة لها أصول في السنة وسيرة قادة السلف كما أن في التعليقات تحذير من الأخطاء الشرعية بقدر جيد ، ويمكن الحصول على المزيد من الكتب والمراجع الإدارية من مواقع أخرى على الشبكة أو من المكتبات ودور النشر ، مع التنبيه أنه علينا أن نقوم بتطبيق عملي لما يتم دراسته لنرى مردود الأساليب الإدارية على العمل ومن ثم نعمم الأصلح منها على قطاعاتنا والأكثر مناسبة لطبيعة أعمالنا.
(((((((
الفصل الثاني
من يقود ومن يدير ومن يعتمد القرارات الإدارية الأساسية ؟
هناك قاعدة معتمدة في العمل الإسلامي ألا وهي [ ليس كل قائد مدير وليس كل مدير قائد ].
وإن كنا تبعاً لما ذكرناه في النقطة السابقة نريد أن نحولها إلى [ كل قائد مدير وليس كل مدير قائد ].
المدير أو الإداري هو أي فرد داخل الحركة أو المجموعة - يتقن فن الإدارة - يُمكن تعيينه في إدارة قطاع مالي أو غذائي ونحو ذلك دون أن يعرف أسراراً تضر العمل بقدر الإمكان ، أما القائد فيجب أن يكون محل ثقة تامة داخل الحركة مؤتمناً على حركتها وأسرارها فالقادة لا شك تعرف كثيراً من أسرار العمل بقدر ما ، بعض القادة يصدر منهم القرارات الإدارية الأساسية والفرعية ، بعض القادة يصدر منهم قرارات تتضمن جوانب شرعيـة ، لذلك في خطتنا نفتح باب الإدارة على مصراعيه لمن يتقنه ، أما باب القيادة فهو للثقات فقط ، مع وجود جهاز أمني يقف على البابين يتابع باحتراف أعمال القادة والمديرين لمنع الاختراق.
جانب هام من القرارات الإدارية والسياسية العليا :
تبعاً لما سبق تبرز لنا نقطة هامة ألا وهي :
ما أهم ما ينبغي توفره في القادة الذين يصدرون القرارات الإدارية العليا التي منها استهداف فئات والكف عن آخرين ، وذلك من الجانب الشرعي والواقعي ؟
القرارات الإدارية والسياسية العليا وإن كانت تصدر في الجملة من القيادة العليا أو القادة الميدانيين للعمل والذين يتميزون في العادة بالخبرة والحنكة السياسية إلا أنه ينبغي التنبيه على أن القرارات الإدارية الخاصة باستهداف فئات والكف عن آخرين وبالطبع تتطلب بشكل أساسي تأصيلاً وحكماً شرعياً دقيقاً أو خفياً يجب أن تمر قبل أن تصدر على الراسخين في العلم في حركة الجهاد الرئيسية ، أو عالماً راسخاً في العلم مشهوداً له بذلك تبعاً لمعايير شرعية صحيحة إذا تعذر الرجوع إلى علماء حركة الجهاد الرئيسية.
بالطبع هناك فئات أصبح مستقراً بين الحركات السلفية المجاهدة - عن طريق علمائها الراسخين - جواز ووجوب استهدافها وأعتقد أنها تكفي في مرحلتنا الحالية وكل ما في الأمر أنه ينبغي أن يمر القرار هذه المرة على القيادة العليا والقيادة السياسية لاتخاذ ما فيه المصلحة باستهدافها الآن أو تأجيلها وينبغي أن يتم ذلك بالمشاورة مع الكوادر العلمية المتوسطة على الأقل.
ولكن حديثنا وتحذيرنا هنا هو فيما سيأتي من مراحل وفيما سيجد من فئات في المستقبل أو في المراحل القادمة ، فهذه يجب أن يمر قرار استهدافها أو الكف عنها ليس على كوادر علمية فقط ولكن على راسخين في العلم من البداية كما ذكرنا.
ولخطورة هذه المسألة سنضرب لها عدة أمثلة سابقة فيما يخص استهداف فئات أو الكف عن فئات :
المثال الأول :
إحدى المجموعات الجهادية الصغيرة بمصر والتي لم تكن تتبع تنظيمياً جماعة الجهاد بمصر ، أسسها أحد الشباب وكان قد طلب العلم بقدر ما ودرس كتاب [ العمدة في إعداد العدة ] ولكن للأسف أخذ يطبق قواعد علمية مأخوذة من كتب فقه الجهاد وينزلها على فئات دون الرجوع لأهل العلم الراسخين ، وقد انفرط عقد مجموعته خلال مواجهات التسعينات وقتل ذلك الشاب رحمه الله وتقبله في الشهداء ، ولا أدري لو قدر الله له الاستمرار هل كان سيتدارك ذلك الخطأ أم كان سيفتح على الحركات الجهادية في مصر باباً يدخل منه تشويه إعلامي يصعب مواجهته لما كان سيحمله من بعض المصداقية وهو باب إراقة دماء معصومة.
من القواعد الصحيحة التي تبناها هذا الأخ بتطبيق خاطئ وبلغني من الأفراد الذين كانوا معه أنهم كادوا أن يطبقوها عملياً بالفعل أو طبقوها مرة على الأقل قاعدة تقول [ مجهول الحال بدار الكفر يجوز قتله تقصداً للمصلحة ] ، وهي قاعدة صحيحة ولكن إذا طبقت على دار الكفر التي أكثر أهلها كفار أما دار الكفر التي أكثر أهلها مسلمون فلا تُطبق عليها تلك القاعدة ، والتطبيق العملي لكثير من القواعد الجهادية التي تحفل بها كتب فقه الجهاد يجب أن يكون مر أولاً على راسخ في العلم وأقره قبل أن تطبقه القيادات الميدانية ، نعم قد لا يجب أن يرجعوا كل مرة للراسخين في العلم خاصة إذا تعذر ذلك ولكن أصل الفئة المستهدفة أو نوع العمل القائم يجب أن يمر قبل اعتماده وتكراره على الراسخين في العلم في المرة الأولى على الأقل.
ملاحظة : مجهول الحال المقصود هنا هو من لم يظهر منه ما يدل على إسلام أو كفر ، فهو ليس عليه علامات الإسلام الظاهرة وكذلك ليس عليه علامة كفر ظاهرة ولا يُعرف عنه ناقض من نواقض الإسلام.
المثال الثاني :
في المثال السابق مر معنا كيف أن عدم ضبط مسألة داخل قضية [ مجهول الحال ] كاد أن يؤدي إلى كوارث ، هنا في هذا المثال نبع الخطأ من عدم ضبط أو تجاهل مسألة أخرى ألا وهي : [ المسلم مستور الحال ] ، وكان أفدح من السابق ، وله آثار نعاني منها حتى الآن ، وحدث بعدما تولى قيادة حركة الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر مجموعة من الجهلة والأغمار بعد مقتل قائد تلو آخر من قياداتها والذين كانوا على قدر جيد من الانضباط ، فقامت القيادة الجديدة باعتماد قاعدة جائرة استندت فيها على بعض الأدلة المتشابهة تقول القاعدة [ كل من ليس معنا فهو ضدنا ] وقسمت هؤلاء الضد إلى خارجين عن الطاعة بغاة ومبتدعة وهم أي مجموعة جهادية لا تعمل تحت رايتهم - وإن كانوا على صواب في تبديع من يقاتل من أجل الانتخابات - ، أما الشعب المسلم فقد اعتبروه في فئة الكفار أولياء الطاغوت وذلك لكونه لا يُظهر البراءة من الطاغوت ، نعم كان يمكن أن تكون قاعدتهم صحيحة لو قصدوا بها أن من ليس معهم ويناصـر عدوهم عليهم بأي نوع من النصرة فهو ضدهم ، أما ما طبقوه فهو تطبيق لا يصدر إلا من جاهل عقلاً وشرعاً وهذا ما جناه تقديم الجهلة وأنصاف العلماء في مثل هذه الأمور ، بل عند تطبيق هذه القاعدة تطبيقاً صحيحاً ليس معنى ذلك أن نبادر فوراً بقتل كل الفئات من أنصار العدو ، فقد نؤجل فئات من المناصرين للعدو - كعلماء السوء مثلاً - تبعاً للأوضاع.
ملاحظة : المسلم مستور الحال هو من ظهرت منه علامة من علامات الإسلام ولم يُعرف عنه ناقض من نواقضه.
أمثلة على الجانب الآخر :
ما سبق كان عن استهداف فئات معينة أما عن أمثلة الكف عن بعض فئات فحدث ولا حرج فتأريخ الحركات الإسلامية التي خاضت يوماً ما قتالاً في مواجهة اليهود أو النصارى أو المرتدين ملئ بمهازل نُزع فيها ممن يستهدف فئات من الطواغيت أو جندهم أو مناصروهم صفة الإسلام وما عبارة حسن البنا - غفر الله لنا وله - عن من قاموا بعمليات ضد عملاء الاحتلال وأعوان الطواغيت - والذين سلم بعض منهم فلسطين لليهود - عنا ببعيد ، حيث قام باستنكار ذلك حتى أنه قال عنهم في إحدى بياناته : ( ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين ) ، وتم القضاء على حركات كادت أن تؤتي ثمارها بمثل هذه الآراء التي صدرت عن ضعف علمي بالشرع أو بالواقع.
ومن الأمثلة في ذلك الجانب أيضاً في تسعينات القرن الفائت عندما خرج بعض القيادات من أنصاف العلماء في الجماعة الإسلامية في مصر - قبل بداية الفتنة في مواقف وصفوف الجماعة - بتبني أحكام شرعية بتحريم استهداف فئات في حين أن الجناح العسكري تجنب استهدافهم لغرض تكتيكي سياسي ، وكانت إصدارات الجماعة السابقة وفتاوى أميرها الشيخ عمر عبد الرحمن فك الله أسره بجواز وشرعية استهداف مثل تلك الفئات ، ومن ثم بدأت بعد ذلك البلبلة في صفوف الشباب المجاهد ، ثم لما بدأت الفتنة توسعت بعض القيادات في ذلك الأمر فجرّمت استهداف فئات استهدفها مجاهدو الجماعة من قبل تبعاً لفتاوى وأدلة مؤصلة وصحيحة تجيز وتوجب استهداف تلك الفئات ، فباعت بذلك دماء شهدائها ، وبدأ الانهيار في صفوف المجاهدين خاصة في وجود عوامل أخرى.
لذا فكما حذرناك أخي المجاهد من استهداف فئات تبعاً لفتاوى أنصاف العلماء ، فنحذرك أيضا من الكف والتورع عمن يجب استئصالهم رحمةً بالمؤمنين ورفعةً وانتصاراً للدين تبعاً لفتاوى أنصاف العلماء أو أقاويل أهل الإرجاف والجهل ، أما تأجيل استهداف فئات منهم تبعاً لنظرة القيادة العليا أو القيادات الميدانية في المناطق فذلك يدخل في نطاق صلاحياتهم تبعاً لاجتهادهم فيما فيه مصلحة العمل الجهادي ، لكن الحذر كل الحذر من أن يأتي متحذلق فيؤصل أن ذلك التأجيل بسبب أن هذه الفئات لا يجوز استهدافها.
(((((((
الفصل الثالث
اعتماد القواعد العسكرية المجربة
الحكمة ضالة المؤمن ونحن وإن كنا في الجملة نقتفي أثر وخطى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم في تحركاتنا العسكرية بل ولا نقبل أن تكون سياساتنا في أي تحرك جهادي إلا كما كانت السياسة الشرعية إلا أن الشرع أباح لنا الاستفادة من الخطط والقواعد العسكرية لغير المسلمين ما لم يكن فيها إثم.
وللأسف تجاهل بعض المجموعات الصغيرة في المراحل الجهادية السابقة لهذه القواعد العسكرية لم يكن خوفاً من مخالفة الشرع وإنما استسهالاً للعشوائية والنمطية مع رغبة الشباب المحمودة في الوصول إلى منزلة الشهادة في أقرب فرصة والتي ينبغي توجيهها لمصلحة العمل باتباع قواعد علمية تجعل من أي عمل عسكري كبير أو صغير خطوة كبيرة في اتجاه تحقيق الأهداف.
إن اتباع القواعد العسكرية المجربة سيختصر علينا سنين طويلة قد نعاني فيها مفاسد النمطية والعشوائية ، إن ترك العشوائية واعتماد الأساليب العلمية المدروسة والقواعد العسكرية المجربة وتنزيلها على الواقع وتطبيق العلم العسكري سيؤدي بنا إلى تحقيق الأهداف بدون تعقيد ويمكننا من التطور وتحسين الأداء بإذن الله.
وتعليم هذه القواعد للأفراد يفتح أمام أعينهم مجالاً واسعاً للابتكار ، وقد يخرج منهم قادةً أفذاذاً تسطر في كتب التأريخ الحديث نظرياتهم ، خاصة أن كتب هذا الفن في عصرنا تتجاهل أن أصوله مأخوذة أغلبها من طرائق أجدادنا.
وسأذكر هنا بعض الأمثلة خاصة ببعض القواعد لشحذ الذهن ولبيان أهمية اتباع هذه القواعد لتسهيل أعمالنا العسكرية :
- هناك قاعدة هامة تقول [ الجيوش النظامية إذا تمركزت فقدت السيطرة ، وعلى العكس إذا انتشرت فقدت الفعالية ].
هذه القاعدة في شطرها الأول تُوجهنا إلى أن عمليتنا العسكرية يجب أن تستهدف إحداث إخلال في الموازنة بين تكتل قوات العدو وانتشارها ، فالمقصود من شطرها الأول أننا عندما نستهدف موقعاً أو هدفاً من المستحيل أن يضع العدو قوات ضخمة في هذا الموضع وإلا عند أول طلقة نار سيفقد السيطرة وتضرب قواته بعضها البعض ، لذلك سيضع العدو قوات تتناسب مع طبيعة وحجم الموقع وهنا علينا أن نعرف ما هي طبيعة وأنواع المواقع التي حجم قواته فيها يمكننا إعداد قوة لمهاجمتها لأن العدو يستحيل عليه زيادة قواته فيها ، كذلك يُستفاد من الشطر الأول أهمية تعلم فن اختيار موقع الاشتباك مع العدو في أي ظرف أو لحظة يُفرض علينا فيها اشتباك ، أما الشطر الثاني من القاعدة وهو الأهم وله تأثير كذلك على الشطر الأول منها وهو أنه كلما انتشرت قوات العدو على أكبر رقعة من الأرض كلما فقدت فعاليتها وسهلت مواجهتها ، ولعل هذا الشطر هو أكثر القواعد التي يسير عليها أهل الوعي من شباب الجهاد في عصرنا هذا ، فنجد أنهم يضربون أكبر قدر من الأهداف كمّاً ونوعاً وعلى أكبر رقعة من الأرض مما يشتت قوات العدو ، ونجد كذلك أن أغلب من تجاهل هذه الجزئية كان نصيبه الفشل وهذا ما حدث مع الجماعة الإسلامية بمصر - كما ذكرنا في موضوع سابق - عندما كان في إمكانها أن تنشر قوات العدو وتُشتت جهوده على كامل الأراضي المصرية ، وبسبب قيام بعض القيادات بالمحافظات بتعطيل العمل بذلك تحت دواعٍ شتى تمكن النظام من حشد قواته في أماكن محدودة ومن ثم التحكم في الأوضاع.
- قواعد معدل العمليات : فهي إما تصاعدية أو بمعدل ثابت أو في صورة أمواج وأحياناً تكون مراحلنا فيها كل هذه المعدلات.
زيادة البيان : معدل العمليات يكون تصاعدياً ليبث رسالة عملية حية للناس والشعوب وصغار جند العدو أن قوة المجاهدين في تصاعد ، فكل هؤلاء لا يعرفون هذه القواعد وما ينطبع في أذهانهم من تصاعد العمليات - إما من حيث العدد أو النوعية أو الانتشار أو كل ذلك - أقول ما ينطبع في أذهانهم ويرسـخ أن المجاهدين في تقدم مستمر والعدو في تراجع وأن مصير العدو الهزيمة ، مما يُجرئ الشعوب ويُحيي الأمل في نفوسهم ويسهل مدداً دائماً للحركة وتصاعداً ذاتياً للحركة ، لذلك ينبغي أن نخطط عملياتنا بأن نبدأ بعمليات صغيرة ثم الأكبر وهكذا حتى لو كان في إمكاننا القيام بالكبيرة من البداية ، كما رتبت منظمة القاعدة عمليات إشعال المواجهة ، هذا فضلاً عن فوائد أخرى كثيرة من تصاعدية الأعمال منها الارتقاء بالشباب وتعويدهم على المواجهة وغير ذلك.
ويجدر هنا التنبيه على أن الشطر الخاص بالانتشار الذي ذكرناه في القاعدة السابقة لا يُعارض قاعدة تصاعدية العمليات فيمكننا أن نبدأ بعمليات صغيرة على أكبر رقعة من الأرض في أماكن متباعدة ثم بعد فترة نقوم بعمليات أكبر من حيث النوع ونقوم بعد ذلك بتصغير المسافات بين الأماكن المتباعدة ، والتصاعدية قد تكون لمرحلة معينة ثم تتغير لمعدل ثابت أو صورة أمواج تبعاً للتطورات.
أما أن تكون العمليات في صورة أمواج فذلك يناسب المجموعات التي قواعدها العسكرية ومواقعها الدفاعية حصينة إلا أنها بعيدة عن موقع العمليات ، وكذلك المجموعات التي تريد أن توصل رسالة للعدو أن أمواج الرعب ودفع ثمن أفعاله لن تنتهي وليس معنى توقف العمليات فترة هي استقراره ليفعل ما يريد بالشعوب المسلمة وإنما كل ما في الأمر أننا نُعدّ لموجة أخرى من العمليات التي ستملأ قلوبهم رعباً ، وأن هذا الرعب ليس له نهاية , وأجدر به أن يكف شره عن المسلمين أو يقلله حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وأعتقد أن طريقة الأمواج هذه تناسب أكثر مجموعة البلدان غير الرئيسية التي ذكرناها في المبحث السابق.
- ومن القواعد الهامة أيضا قاعدة تصلح كاستراتيجية عامة وتصلح كذلك للتخطيط للعمليات الصغيرة.. تقول :
[ اضرب بقوتك الضاربة وأقصى قوة لديك في أكثر نقاط العدو ضعفاً ] ومما يجدر الإشارة إليه هنا : كيف أن القيادة العليا كانت تعتبر شباب جزيرة العرب هم قوتها الضاربة إلا أنها لم تكن تُرشح الجزيرة للتغيير لعوامل ذُكرت في الدراسات السابقة لأحداث سبتمبر ، إلا أنه بعد الأحداث حدث انقلاب في هذه العوامل وأصبحت الجزيرة من الدول المرشحة بل إننا نلاحظ أن القيادة وضعت لها أولوية وذلك لكون العدو فيها - وهو نظام آل سعود - يمثل أكثر الأنظمة المُعادية للمجاهدين ضعفاً ، فكانت جزيرة العرب تطبيقاً مثالياً لهذه القاعدة.
أما تطبيق هذه القاعدة على التخطيط لعمليات صغيرة فمثلاً إذا كانت مجموعة منفذة من عشرة أفراد تواجه عملية سهلة جداً - وليست استشهادية بالطبع - ولا تحتاج هذه العملية إلا لفرد أو اثنين بل إنها أحيانا تُرسل مجاهداً واحداً أو اثنين لعملية أكبر ولكن إذا أرسلت كامل عددها إلى هذه العملية المضمونة - بإذن الله - بغرض الاستعراض وإرهاب العدو عندما يتحدث الناس والصحف عما حدث ، ويظن الناس والعدو أن العمليات القادمة سيتم لها حشد وتفوق عددي مناسب مما يعلي من أسهم المجاهدين إعلامياً ويرجف القلوب من مواجهتهم ، إلا أن هذا لا يُطبـق إلا بعد دراسة جيدة للاحتمالات ومصالح ذلك ومفاسده ، والاقتصار على العدد المحدود الذي يكفي أولى في الجملة.
كذلك لهذه القاعدة مجالات أخرى في ظروف ومتطلبات أخرى كما هو حال أغلب القواعد ، منها : إذا كان هناك هدف سهل الوصول إليه ، مثل مبنى للعدو يعقد فيه اجتماعات - مثلاً - ونحو ذلك وهدمه يتم بشرك مفخخ صغير الحجم ، إلا أن لدينا مخزوناً جيداً من المتفجرات قد يتم التخلص منها أثناء تحركنا بدون استخدام ، فيمكن في هذه الحالة استخدام كمية من المتفجرات لا لتهدم المبنى فقط أو حتى تسويه بالأرض ولكن لتجعل الأرض تبتلعه ابتلاعاً وفي ذلك تتضاعف كمية الرعب لدى العدو ، وتتحقق أيضا أهداف إعلامية جيدة من أبرزها عدم استطاعة العدو إخفاء خسائره ، ومثل ذلك تكرر كثيراً وتحقق من ورائه نتائج جيدة عديدة.
- ومن القواعد الهامة أيضا والتي كانت عماد الحروب في السابق والحاضر ، ومازال علماء الاستراتيجيات والمؤرخون يتحدثون أن تركيز جماعات الجهاد عليها سيعجل بانهيار الأعداء كل الأعداء ، هي أن أقرب وسيلة لهزيمة العدو الأقوى عسكرياً هي استنزافه عسكرياً واقتصادياً - بالطبع اقتصادياً عن طريق عمليات عسكرية في الأساس بجانب الأساليب الأخرى - ، حتى أن رامسفيلد يقول للصحفيين مبرراً نكساته : ( ما المطلوب من أن نفعل أكثر من ذلك ؟! لا تنسوا أننا ننفق المليارات في مواجهة عدو ينفق الملايين ) وصدق - بقدر ما - وهو كذوب ، حتى إن أحد الباحثين الأجانب يقول إن ما أسقط الاتحاد السوفييتي السابق هو استنزاف قدراته الاقتصادية والعسكرية في الحروب الصغيرة وغير ذلك خاصة حرب أفغانستان وما تمخض عنها ، وأن مصير أمريكا في حروبها الحالية نفس المصير تقريباً ، ثم ختم دراسته مازحاً ( إنه ليس هناك داعٍ لقيام أعداء أمريكا إلى ترويج الاستنزاف للتعجيل بانهيارها لأن بوش يقوم بذلك بنفسه بشكل جيد !! ) ، وسيأتي في بعض النقاط القادمة من هذا المبحث بيان افتراضي عن بعض من أساليب الاستنزاف الاقتصادي مع مراعاة الجوانب الشرعية والخططية والإعلامية.
كل ما ذكرته أمثلة فقط ، وكانت كلها في القواعد والخطط العامة إلا أنه لا يخفى على المتابع أن أصغر وحدة في العمليات العسكرية ولو كانت كيفية تجهيز وتخزين السلاح وتنظيفه - مثلاً - كلها تخضع لقواعد وضوابط يجب أن يتعلمها كل عضو في تخصصه وفيما يلزمه على الأقل ، وأذكر هنا بمناسبة هذا المثال أن محاولة اغتيال طاغوت من أخبث الطواغيت في مصر وهو وزير الإعلام صفوت الشريف فشلت بسبب أن المنفذ الذي كانت مهمته قتله قد خزن السلاح ليلة العملية في مكان به رطوبة وعندما قام زميله الذي واجه السيارة أولاً بإصابة الحارس وجاء عليه الدور لإصابة الوزير انحشرت الطلقات ونجا الوزير.
من أهم المراجع التي نرشحها لدراسة جيدة للقواعد والنظريات العسكرية وفنون الحرب :
- موسوعات الجهاد المتنوعة التي أعدها المجاهدون بأفغانستان.
- مجلة البتار الصادرة عن معسكرات الجهاد بجزيرة العرب.
- كتابات أبي عبيد القرشي حفظه الله في مجلة الأنصار ، كذلك له ولغيره كتابات أخرى قديمة بموقع الأسوة الحسنة.
- الكتب العامة في فن الحرب خاصة حروب العصابات ما دام في استطاعة الدارس تلافي ما بها من أخطاء شرعية.
(((((((
الفصل الرابع
اعتماد الشدة
الذين يتعلمون الجهاد النظري أي يتعلمون الجهاد على الورق فقط لن يستوعبوا هذه النقطة جيداً ، للأسف الشباب في أمتنا منذ زمن قد جُرِّد من السلاح ولم يعد يعرف طبيعة الحروب ، ومن مارس الجهاد من قبل علم أن الجهاد ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان - أتحدث عن الجهاد والقتال لا عن الإسلام فلا تخلط - وأنه لا يمكن أن يستمر القتال وينتقل من مرحلة إلى أخرى إلا إذا كانت مرحلة البداية فيه مرحلة إثخان في العدو وتشريد به ، بل يحتاج لهذه الشدة في المراحل الأخرى في كثير من الأحيان ، ولا يمكن أن يستمر جهاد في ظل الرخاوة ، سواء الرخاوة في أسلوب الدعوة إليه أو الرخاوة في اتخاذ المواقف أو في أسلوب العمليات ، حيث أن عنصر الرخاوة أحد عناصر الفشل لأي عمل جهادي ، وأن من عندهم نية البدء في عمـل جهادي وكانت عندهم تلك الرخاوة فليجلسوا في بيوتهم أفضل وإلا فالفشل سيكون مصيرهم وسيلاقون من بعده الأهوال ، ومن أراد أن يتثبت ويفهم ما أقصد ، فعليه بكتب السير والتواريخ والنظر فيما مر على الحركة الجهادية الحديثة ، وسواءً استعملنا الشدة أو اللين فلن يرحمنا أعداؤنا إذا تمكنوا منا ، فأجدر بنا أن نجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يحاربونا.
إن دور الشدة والغلظة على الكافرين في المعارك القتالية والإعلامية لا يفهمه الكثيرون ممن لم يخوضوا حروباً في حياتهم ، وأن مرحلة تدجين المسلمين التي مرت عليهم كان لها أثرها ، إن هذا الدور يجب أن يأخذ حقه من التوضيح بين الشباب الذي يريد أن يجاهد ، فهم يفترقون عن العرب وقت البعثة ، فالعرب كانوا محاربين ويعرفون طبيعة الحروب.
إننا إن لم نكن أشداء في جهادنا وتملكتـنا الرخاوة كان ذلك عاملاً رئيسيًّا في فقدان عنصر البأس الذي هو من أعمدة أمة الرسالة ، فإن الأمة ذات البأس هي الأمة التي تستطيع أن تحافظ على ما تكتسبه من مواقع ، وهي الأمة التي تخوض الأهوال وهي ثابتة ثبات الجبال وهذه المعاني فقدناها في هذا الزمن.
إن كتب التأريخ تحدثنا عن الفروق بين بعض الحركات الجهادية الإصلاحية والصالحين من الطالبيين كالنفس الزكية وغيره وبين حركة العباسيين أن من ضمن الفروق وأسباب نجاح العباسيين وفشل الآخرين هو الشدة من العباسيين والرخاوة واتقاء الدماء من الآخرين حتى إن النفس الزكية كان يطلب من قادة جيشه - وقد كان يمكن أن ينتصر - أن يتقوا الدماء ما أمكن ، وكان قادة جيشه يتعجبون كيف يطلب الملك ويكون ذلك أسلوبه ، نعم كان النفس الزكية وغيره من المصلحين على قدر من الصواب في ذلك لكونهم يقاتلون مسلمين وأحكام قتال البغاة تختلف ، إلا أننا والحمد لله نواجه أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم فلا مانع لدينا من إراقة دمائهم بل نرى ذلك من أوجب الواجبات ما لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويكون الدين كله لله.
وهكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم أمر الشدة ، وهم خير من فهم السنن بعد الأنبياء ، حتى أن الصّدِّيق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما مارسا التحريق بالنار على الرغم مما فيه من كراهة لمعرفتهم بأثر الشدة المغلظة في بعض الأوقات عند الحاجة ، لم يقوما بذلك وينفذه قادتهم وجندهم من باب شهوة القتل وأنهم قوم غلاظ كلا والله فما أرق قلوبهم ، وهم أرحم الخلق بالخلق بعد الأنبياء عليهم السلام ولكن الأمر هو فهمهم لطبيعة الكفر وأهله وطبيعة حاجة كل موقف من الشدة واللين ، لذلك نقل لنا أهل العلم عن فترة حروب الردة ما يبين ذلك : (.. وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من أمر الجاهلية فتحللوا من فروض الشريعة ، فمنهم من تركها جميعاً ، ومنهم من أنكر الزكـاة ، وزعم أنها تجب للرسول صلى الله عليه وسلم فقط ، وليس لأبي بكر حق فيها ، ومنهم من أعلن أنه سيؤديها بنفسه ، ولن يؤديها إلى أبي بكر الصديق ، وظن ضعاف الإيمان أن سيف الإسلام قد نَبَتْ شفرته بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاغتنموا الفرصة للخروج من هذا الدين ، وغلبت الردة على الجزيرة العربية ، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والطائف وجواثى بالبحرين والمدينة ، فعمت الردة القبائل والقرى والتجمعات ، فقام لها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حق القيام ، ونشطوا في صدها ومنعها ، ورفعوا لها رأس الجد والجهاد ، ورؤي من أبي بكر رضي الله عنه صلابة لم تعهد فيه من قبل ، حتى أن الرسل كانت تأتيه بالأخبار السيئة التي يرهب منها الرجال فما كان منه إلا أن يأمر بالمزيد من الحرب والنار ، حتى قال ضرار بن الأزور : فما رأيت أحداً ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أملأ بحرب شعواء من أبي بكر ، فجعلنا نخبره - أي أخبار الشر عن الردة وعظمها - ولكأنما نخبره بما له لا عليه ، وكانت وصاياه للجند تدور حول جز الرقاب بلا هوادة أو تباطؤ ، حتى أنه رضي الله عنه حرَّق رجـلاً يسمى إياس بن عبد الله بن عبد ياليل ويلقب بالفجاءة ، لما خدعه في أخذ أموال لجهاد المرتدين ثم لحق بهم ، أو على الصحيح صار بها قاطع طريق ، ودارت رحى الحرب شاملة كل الجزيرة ، ولم يجزع أحد من أصحاب رسول الله منها ، بل كانوا رجالها وأهلها ، حتى عادت الجزيرة إلى حكم الإسلام وسلطانه.. ).
إننا الآن في أوضاع شبيهة بالأوضاع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحدوث الردة أو مثل ما كان عليه المؤمنون في بداية الجهاد فنحتاج للإثخان ونحتاج لأعمال مثل ما تم القيام بها تجاه بني قريظة وغيرهم ، أما إذا مكننا الله واقتربنا من السيطرة ونشر العدل فما أرق أهل الإيمان وقتها ، ووقتها يقول أهل الإيمان للناس : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هذا مع ملاحظة أن الشدة والغلظة يجب ألا تتعدى حدود الشرع وأن يراعى فيها المصالح والمفاسد التي اعتبرتها الشريعة في أحكام الجهاد كباب من أهم أبواب هداية الخلق إن لم يكن أهم أبوابها ، وفي ذلك أنه كلما كان هناك عقلاء من العدو يعترفون بالحق الذي تشترك فيه كل العقول كلما خففنا من وطأة الشدة عليهم أما العدو المتغطرس وجنده ومؤيدوه فله شأن آخر.
مما يلتحق بقضية الشدة ( سياسة دفع الثمن ) : لا يوجد إيذاء يقع على الأمة أو علينا بدون دفع الثمن ، ففي مرحلة شوكة النكاية والإنهاك اتباع استراتيجية دفع الثمن يبث اليأس في نفوس العدو ، فأي عمل إجهاضي لمجموعات النكاية من أي نوع ينبغي أن يُقابل برد فعل يجعل العدو يدفع ثمن إجرامه كاملاً حتى يرتدع عن العودة لمثله ، ويفكر ألف مرة قبل القيام بعمل هجومي تجاهنا ، بحيث يتوقف عن المبادرة بالإجرام وتكون أفعاله مقتصرة على الدفاع عن نفسه.
دفع الثمن يجب أن يتم ولو بعد مدة طويلة ولو كانت سنوات ، وينبغي تذكير العدو بذلك في البيان التبريري لعملية دفع الثمن ، مما يؤثر على نفسية قادة العدو ، بأنه ما من عمل عدائي يقومون به تجاه الإسلام وأهله أو تجاه المجاهدين إلا وسيدفع من قام به الثمن في نفسه وأعوانه أو في أعز مصالحه طال الزمن أو قصر، ومن ذلك يبدأ تسرب مشاعر اليأس للعدو فيبدأ التفكير في ترك الساحة ليأسه بسبب حرصه على الدنيا في مواجهة أجيال من المجاهدين لديهم إصرار على استمرار المعركة لا تهزهم الحوادث بل تدفعهم للرد.
أما في مرحلة [ إدارة التوحش ] فسنواجه مشكلة غارات العدو - الصليبي أو المرتد - الجوية على معسكرات تدريب أو مناطق سكنية في نطاق المناطق التي نديرها ، ومع وضع تحصينات دفاعية وخنادق لمواجهة تلك المشكلة إلا أنه ينبغي كذلك أن نتبع سياسة دفع الثمن في مواجهة إجرام العدو ، وسياسة دفع الثمن في هذه الحالة تحقق ردعاً للعدو وتجعله يفكر ألف مرة قبل مهاجمة المناطق المدارة بنظام إدارة التوحش ، لعلمه بأنه سيدفع ثمن ذلك ولو بعد حين ، فيجنح العدو إلى الموادعة التي تمكن مناطق التوحش التقاط الأنفاس والترقي - الموادعة التي تعني التوقف المؤقـت عن القتال بدون أي نوعٍ من الاتفاقيات والالتزامات ، فنحن لا نعقد هدنة مع العدو المرتد ، وإن كان يمكن أن يتم ذلك مع الكافر الأصلي -.
وهنا نقطة هامة أن أفضل من يقوم بعمليات دفع الثمن هم المجموعات الأخرى في المناطق الأخرى ، والتي لم يقع عليها العدوان ، وفي ذلك فوائد عدة سنتوسع فيها في الفصل الخاص بالشوكة من أهمها إشعار العدو أنه محاصر ومصالحه مكشوفة ، فلو قام العدو بعمل عدائي على منطقة في جزيرة العرب أو في العراق فتم الرد عليه في المغرب أو نيجيريا أو أندونيسيا سيؤدي ذلك إلى إرباك العدو خاصة إذا كانت المنطقة التي تتم فيها عملية دفع الثمن تخضع لسيطرة أنظمة الكفر أو أنظمة الردة فلن يجد مجالاً جيداً للرد عليها ، وستعمل تلك العملية كذلك على رفع معنويات من وقع عليهم العدوان وإيصال رسالة عملية للمسلمين في كل مكان بأننا أمة واحدة وأن واجب النصرة لا ينقطع بحدود.
ولا يقتصر دفع الثمن في الصورة السابقة على العدو الصليبي ، فعلى سبيل المثال إذا قام النظام المصري المرتد بعمل قام فيه بقتل وأسر مجموعة من المجاهدين ، يمكن أن يقوم شباب الجهاد في الجزيرة أو المغرب بتوجيه ضربة للسفارة المصرية مع بيان تبريري لها أو القيام بخطف دبلوماسيين مصريين كرهائن حتى يتم الإفراج عن مجموعة من المجاهدين مثلاً ونحو ذلك ، مع اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه.
(((((((
الفصل الخامس
تحقيق الشوكة
تتحقق الشوكة بالموالاة الإيمانية فعندما يحصل كل فرد في المجموعة أو في منطقة التوحش - مهما قل شأنه - على الولاء من باقي الأفراد ومن ثم يعطي هو الولاء للباقين بحيث يكون هو فداء لهم وهم فداء له ، من ذلك تتكون شوكة من هذه المجموعة في مواجهة الأعداء.
عندما يعلم العدو أنه إذا كسر جزءً من مجموعة سيستسلم الباقون نستطيع أن نقول إن هذه المجموعة لم تحقق الشوكة ، وإنما إذا علم العدو أنه إذا قضى على جزء من المجموعة فسيبقى الثأر لدمائهم قائمًا من الباقين وستبقى أهداف المجموعة قائمة حتى يفنوا عن آخرهم تكون تلك المجموعة قد حققت الشوكة التي يخشاها العدو خاصة إذا كان تشكيل المجموعة يستعصي على الإفناء في ضربة واحدة.
الشوكة الكبرى والتي يعمل لها العدو ألف حساب هي محصلة شوكات المجموعات سواء مجموعات النكاية أو مجموعات الإدارة في مناطق التوحش ، ففي وجود موالاة إيمانية بين كل هذه المجموعات تتمثل في عقد مكتوب بالدماء أهم بنوده [ الدم الدم والهدم الهدم ] تتحقق شوكة كبرى يعجز العدو عن مواجهاتها.
وفي هذا ما تحدثت عنه في الفصل السابق عن سياسة دفع الثمن ، أن أفضل من يقوم بعملية دفع الثمن هي مجموعة أخرى غير التي وقع عليها العدوان ، بحيث نربك العدو ونشغله ونشتت تفكيره وجهوده حتى تستطيع المنطقة أو المجموعة التي وقع عليها العدوان أن تستعيد قواها وترتب أوراقها ، وفي ذلك تستحضر الأمة قيمة الموالاة الإيمانية وقدرتها على إقامة شوكة لا تستطيع قوى الشر أن تقف أمامها.
وفي هذا ننبه على أننا نعتبر جهادنا في هذه المرحلة جهاد أمة , لذلك كل فرد أو مجموعة أو جماعة ثبت لها حكم الإسلام ودخلت في الجهاد وتبادلت معنا الولاء على أساس [ الدم الدم والهدم الهدم ] فهي جزء من الحركة المجاهدة حتى لو خالفت المنهج الصواب في أمور علمية أو عملية ما دامت هذه المخالفة عن تأول لا عن تعمد - معرفة ذلك تترجح من قرائن الأحوال - مع عدم إقرارهم على أي مخالفة يقومون بالمجاهرة بها ، ومر بنا عبر التأريخ أمثلة عديدة ، فمثلاً كان شيخ الإسلام ابن تيمية يحمل في كتبه على الأشاعرة ويبين فساد منهجهم وهذا في مقام الحديث عن أقوالهم وأفعالهم البدعية ، ثم في مقام آخر - مقام الولاء والإيواء والنصرة - عندما يكون هؤلاء الأقوام في وضع غير متلبسين فيه ببدعهم بل ينصرون الإسلام وأهله ، ولا يخفى عليكم أن حكام مصر والشام كانوا يميلون لعلماء الأشاعرة إلا أنهم عندما وقفوا لنصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله أمام التتار قال عنهم شيخ الإسلام أنهم الطائفة المنصورة بالشام ومصر وعلى اعتبار أن الجند لا يحملون بالضرورة معتقد القادة الذين يميلون للأشاعرة ، وكذلك مدح صلاح الدين الأيوبي على نصره الإسلام أمام الصليبيين ونصرة السنة أمام الباطنية على الرغم أن مذهب الأشاعرة كان مذهب دولته ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام : (.. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة ، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم ، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب : كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس ، لهذا كان الكلام في هذه المسألة فيه تفصيل.. ) أ.هـ.
لذلك علينا مراعاة من يرغب في الجهاد ويعطينا الولاء من هذه الطوائف أو من العامة فنقبل منهم ونواليهم وننصرهم مع عدم إقرارهم على أي خطأ ومحاولة التصحيح بقدر الظروف والحاجة والإمكان مع عدم التسبب في فتن ومفاسد قد تقضي على الجهاد خاصة كونه في العادة مصلحته ستكون أكبر ، وعندما يسبب الإنكار فتناً أو مفاسد أكبر يترك الإنكار لكن لا يُؤذن بعمل الخطأ لا تصريحاً ولا تلميحاً وإقراراً كما تفعل بعض الحركات الإسلامية ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام : (.. ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة ، وبين إذنه في فعله ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال.. ) أ.هـ.
مما لا شك فيه - بإذن الله - حدوث الموالاة والنصرة بين المجموعات ، خاصة التي تتبع القيادة العليا ، لكن للأسف بسبب التفرق الواقع في الأمة والجهل المتفشي والخلافات الموجودة على الساحة نتوقع عندما تتوسع رقعة العمليات والقتال مع العدو - ويتخبط العدو في إشعال مواجهة مع فئات من الأمة أو من الحركات الإسلامية لم تكن على خريطة المواجهة من قبل - أقول نتوقع بروز مجموعات من الشعوب أو من الحركات لا تتبادل الموالاة مع الحركة الجهادية وإنما تواجه العدو من أجل تحقيق مكاسب خاصة أو من أجل أن يكف عنها ونحو ذلك ، خاصة أنها قد تحجم عن إعلان الولاء للقيادة العليا لتضمن أن لا يركز عليها العدو ضغوطه وعملياته.
ودورنا إذا واجهتنا تلك المرحلة - وإن كنا في الأصل نسعى أن تتوحد الأمة تحت راية واحدة - أن نبث التوعية بين فئات الأمة بأهمية توحيد الأهداف والأساليب وتبادل الولاء لأنه السبيل لأن يهابنا العدو بحيث لا يتمكن من الاستفراد بكل منا على حدة ، ومن ثم نتمكن من تحقيق ما نريد من أهداف ، ومن ثم عندما تتوحد أهدافنا ستتوحد المجموعات وتكون شوكتنا هي الأكثر ثباتاً والأكثر تأثيراً في تغيير الواقع لما فيه الخير - بإذن الله - خاصة أن ذلك سيكون في مواجهة فئات من العدو تتباين أهدافها.
ينبغي أن يصل للناس - كل الناس - بصورة مبسطة خالية من التعقيد والتطويل الهدف الذي خلقنا من أجله والذي يجب أن نسعى جميعاً إليه والذي فيه خير الدنيا والآخرة ، وأنه لا قيمة لأي بذل أو تضحيات سنقدمها في مواجهة العدو الصليبي أو الصهيوني أو المرتد إذا كان الهدف الذي سيتحقق من وراء ذلك هدف هزيل أو مصلحة مؤقتة محدودة أو على الجانب الأسوأ أن نسلم أنفسنا ومقداراتنا لطاغوت جديد في صورة فرد أو جماعة أو دستور جديد غير المنهج الرباني الذي به تتحرر البشرية كل البشرية من عبادة العباد إلى عبادة خالق العباد الذي يستحق وحده أن نخضع له ونعبده والذي يستحق وحده هذه التضحيات ، هذا الهدف وحده هو الذي يمكن أن يوحد الأمة وينشئ الموالاة على أسس سليمة ، يتبقى فقط أن نبتكر الوسائل الإعلامية والدعوية الفعالة لكي يصل هذا المعنى بدون تعقيد إلى الأمة - كل الأمة - في ظل تلك المعركة الرهيبة التي بدأت إرهاصاتها.
بقيت نقطة هامة في قضية تحقيق الشوكة خاصة بكيفية تقدير قوة الشوكة ومن ثم نبني تحركاتـنا وخططنا على معطيات صحيحة ، في هذه النقطة ما نريد أن نؤكد عليه أنه ينبغي علينا ألا نبني تحركاتنا على تحركات الآخرين ممن لا نملك ولاءهم وتوجيههم ، إلا في الأمور التكميلية أو الأمور الضيقة ، حيث أن الأصل أن وضع خطط التحرك مبني على الشوكة الحقيقية التي لدينا متمثلة في المجموعة التي نديرها وباقي المجموعات والمناطق التي أعطتنا أو تتبادل معنا الولاء والنصرة.
في التسعينات من القرن السابق قامت إحدى المجموعات الجهادية في مصر بوضع خطة ممتازة للتحرك ولكنها بنت خطتها على أساس أن يتحرك فصيلا : الجماعةِ الإسلامية وجماعةِ الجهاد تحركات معينة تخدم خطة هذه المجموعة الصغيرة ، وقد توهم قائد المجموعة أن الأحداث ستدفع الجماعتين للتحرك كما يريد ، إلا أن تقديره كان غير دقيق للأسف ، وترتب على ذلك الأمر مع عوامل أخرى خسائر جسيمة لتلك المجموعة ، والمستفاد من ذلك هو ما قلناه : أن لا نبني تحركاتنا تبعاً لتحركات من لا نملك توجيههم أو ولاءهم على الأقل ، أقصد بالولاء هنا الولاء الخاص المتمثل في الإيواء والنصرة ، ولا أقصد الولاء العام الذي يكون من المسلم تجاه أي مسلم على وجه الأرض ، وحينما ترتقي الأمة إلى الوضع الأمثل يتحقق الولاء العام بحيث يكون هو عين الولاء الخاص.
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( .
(((((((
الفصل السادس
فهم قواعد اللعبة السياسية للمخالفين والمجاورين جيدا والتحرك في مواجهتها والتعامل معها بسياسة شرعية
نحن نحث على أن يكون أغلب قادة الحركة الإسلامية قادة عسكريين أو عندهم قدرة على القتال في الصف على الأقل ، كذلك أيضا نحث على أن يعمل هؤلاء القادة على إتقان علم السياسة كإتقان العلم العسكري سواء بسواء.
خلال مسيرتنا الطويلة بين انتصارات وهزائم بين الدماء والأشلاء والجماجم ، ذهبت بعض الحركات واستمرت بعض الحركات فإذا تأملنا العامل المشترك للحركات التي استمرت نجده العمل السياسي بجانب العمل العسكري ، نعم بعض من هؤلاء تعاطى السياسة بطريقة غير شرعية في بعض مواقفه وأثمرت له البقاء ونعم هو بقاء مُحقت منه البركة إلا أنه كذلك هناك من فهم سياسة الأعداء والمجاورين من الحركات الإسلامية الأخرى وتعامل معها بسياسة شرعية فأثمرت كياناً يزداد ببركة العمل لنصرة الدين وبركة عدم مخالفة الشرع نقاءً وثباتاً ورفعة مرحلة بعد مرحلة والحمد لله.
أما مصير الحركات التي قامت بالجهاد والقتال والعمل العسكري وتجاهلت السياسة واعتبرتها رجساً من عمل الشيطان ، أو تلك التي أوغلت في تعاطي الأساليب السياسية الغير شرعية بل وخاضت في سياسات كفرية فكان مصير هؤلاء وهؤلاء للأسف أنهم غدوا مطية لقوى الكفر والردة ليقطفوا ثمار الجهاد.
إن العمل السياسي مهم جداً وخطير حتى قال أحدهم : ( إن خطأً سياسياً واحداً أوخم عاقبة من مائة خطأ عسكري ) وهذا القول على ما فيه من مبالغة كبيرة إلا أنه صحيح بقدر ما يبين من خطورة الخطأ السياسي.
نعم بعضنا عندما يشاهد ما عليه القوم من عفن في مواقفهم السياسية - ويجد فقدان القوم للأخلاق والإنسانية واتباع الأساليب الشيطانية المليئة بالخداع والكذب والتآمر والخيانة - عندما يشاهد بعضنا كل ذلك يجنح إلى التعفف عن الخوض في حضيض هؤلاء السياسي ، إلا أنه لم يكن ينبغي علينا هجر السياسة.
كذلك هناك من خاض العمل السياسي المنضبط - على قدر علمه - بجانب العمل العسكري إلا أنه للأسف لم يفهم حتى الآن حقيقة اللعبة السياسة عند الأعداء والمجاورين.
إن الاهتمام بفهم قواعد اللعبة السياسية والواقع السياسي للأعداء والمجاورين ومن ثم إتقان العمل السياسي المنضبط بالسياسة الشرعية في مواجهة هذا الواقع لا يقل أهمية عن العمل العسكري ، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن لحظة قطف الثمرة - وهي اللحظة التي تُعتبر حصيلة التضحيات التي قدمها المجاهدون في عقود طويلة - هي لحظة ناتجة عن ضربة سياسية وقرار سياسي حاسم ، نعم يسبقها بل ويلازمها ضربات عسكرية لكن اللحظة الأخيرة والمصير يعتمدان على إدارة سياسية متقنة ، بل إن المسيرة القتالية كلها تحتاج إلى إدارة سياسية جيدة حتى تتحقق أفضل النتائج ، هذا مع ملاحظة هامة جداً : أن كل إشارة في هذه الفقرة إلى الإدارة السياسية مقصود بها أن يكون القرار السياسي صادر من القائد العسكري ، بل الإدارة السياسية كلها أو أغلبها ينبغي أن تكون من المقاتلين من مساعدي القادة العسكريين وجنودهم ، فكل هؤلاء هم من عنيتهم بالاهتمام بدراسة الجانب السياسي فالمعركة معركتهم قبل أن تكون معركة غيرهم ، فينبغي التأكيد على خطورة ترك القرار السياسي بأيدي من لا يخوض المعارك العسكرية تحت أي حجة.
وهنا سيأتي باختصار نبذة عن قواعد اللعبة السياسية للأعداء والمجاورين ، ونحن نطرح هذه القواعد لا لنستفيد منها ونجاريهم في تطبيقها - والعياذ بالله - كما تفعل كثير من الحركـات البدعية ولكن لنعرف منطلقات القوم ونتعامل معها تبعاً للسياسة الشرعية ، بعد ذلك سنطرح بعض النقاط التطبيقية لأهميتها إلا أن النقاط الهامة كثيرة ، وحسبنا أننا في هذه العجالة نكون قد وضعنا الشباب المجاهد على أول الطريق للدراسة والممارسة.
- المنطلق الذي يحرك الأعداء منطلق مادي ، فعقيدة الصراع عند أهل الكفر والردة عقيدة مادية دنيوية في أغلب بنائها ، فإن كان لهم دوافع دنيوية يسترونها بدوافع دينية أو حضارية كاذبة ومزعومة ، وأن العامل العقدي التقليدي فيها ليس العامل الوحيد فهو يُعتبر أحد عوامل دفعهم للمعركة ، وقد يُعتبر بالنسبة للأتباع الجهال عندهم دافعًا قويًّا ، إلا أن وقود تحركهم هو المصالح المادية والرغبة في البقاء ، فهم يصارعون من أجل ذلك ، وليس أي بقاء بل البقاء الذي يضمن لهم حياة الرفاهية والترف بدون منغصات ، ولحلفائهم ومن يدعمهم ليستمروا ويصبروا في تحالفهم معهم مادامت المصلحة متحققة بذلك التحالف ، فيجب أن نعي ذلك جيداً.
لذلك فأهم مبادئهم السياسية هو مبدأ المصلحة , وهذا المبدأ لديهم لا يخضع مطلقاً لأي قيمة أخلاقية.. بل إن كل المبادئ الأخرى تتبعه.. الصداقة أو العداوة.. السلم أو الحرب.. تتحدد جميعاً طبقاً للمصلحة.
ولخص ساسة الغرب ذلك في شعار يقول [ ليس في السياسة عداوة دائمة أو صداقة دائمة ولكن هناك مصالح دائمة ].
ولذلك فقد كان اختلاف المصالح فيما بينهم دافعاً لأشد الحروب دموية ، إلا أن ذلك لا ينسينا حقيقة أن العداء المشترك للإسلام يشكل أرضية عمل مشترك بين ملل الكفر والردة المختلفة ، لكننا نستطيع أن نقول كذلك أن تحالفهم الإيديولوجي ضد الإسلام هو تحالف هش ومحدود بسقف المصالح المادية لكل طرف منهم ، لذلك ينبغي أن نبني خططنا العسكرية والسياسية بعد فهم جيد وتقدير لسقف المصلحة التي يحد حركة كل عدو من أعدائنا ، وأن نعمل على توسيع فجوة المصالح بين الأطراف المعادية ، فلابد أن تكون خريطة المصالح واضحة في ذهن قادة العمل لدينا ، وهي خريطة مهمة بنفس درجة أهمية الخرائط العسكرية.
ونستطيع أن نقول أن الصفقة هي طابع سياسة العدو , لأن البديل عن الصفقات الناجحة لديهم - وحتى لو حققت لهم مكاسبًا جزئية فقط - هو الحرب المستمرة التي قد تسحق جميع المصالح ، لذلك هم يطلقون على السياسة أنها فن الممكن ، أما إصرارهم على استمرار الحرب فذلك فقط عندما يظنون أن الخصم ضعيف ويمكن سحق إرادته ، لذلك كله فعند وجود مقاومة عنيفة تكون فيها عملية الغزو باهظة التكاليف وغير مجدية ، فتبدأ أطراف التحالف في الانسحاب واحداً بعد الآخر مؤثرةً السلامة أو تأجيل الصدام إلى ظروف أخرى مناسبة.
وطبيعة الصفقة لدى الأعداء ليس لها صفة الثبات لأنها مجرد انعكاس لموازين القوة في لحظة معينة , وتلك الموازين عرضة دائماً للتغيير , وبالتالي يتم نقض المعاهدات السياسية - أو الصفقات بشكل منتظم - وبالطبع غير أخلاقي.
بل إن احترام الصفقة المعقودة أمر يتم انتهاكه في معظم الأحوال في أقرب فرصة إذا كانت نتائج ذلك النقض أكبر من نتائج الالتزام بالعهد , وكذلك عقد صفقات متناقضة مع أطراف ذات مصالح متعارضة وفي وقت واحد هو عمل روتيني في الغابة السياسية.
قد يبيع أحد الأطراف قراره السياسي وجميع مصالح كيانه وأمته لأسباب عديدة منها عدم جدارته بخوض المعترك السياسي لضعف كيانه - وأقرب مثال على ذلك هي تلك الحركات الإسلامية المهترئة - أو لكونه لا يمثل إلا نفسه ومطامحه الخاصة معزولاً عن قواعده الشعبية أو أمته - وأقرب مثال على ذلك حكام المنطقة العربية عامة -.
هذه بعض سمات وطبيعة الموقف السياسي للأعداء والتي لها تأثير مباشر على الصراع بين الإسلام وأعدائه ، أما المجاورون من الحركات الإسلامية الأخرى فسياستهم تقوم على خليط من السياسة الشرعية ونفس مبادئ سياسة الأعداء خاصة مبدأ المصلحة مع تحريف النصوص لإيهام الناس أن خليطهم هذا من السياسة الشرعية المشروعة ، ولا شك أن البعض قد يستغرب من قدرتهم على المناورة السياسية وعقد الصفقات مع عدم وجود قوة عسكرية لديهم ، ولكن المتأمل يجد أنهم يناورون بما لديهم من أعداد رقمية من الشباب والتي تشكل خطرًا في حالة واحدة : ما لو زالت قياداتهم من الساحة بسبب أنهم لا قيمة حقيقية لهم وانفرط عقد هؤلاء الشباب فالخوف لدى الأعداء أن ينضم هذا الشباب إلى المجاهدين ، ولكن ما نريد أن نبينه هنا أن أهم مبدأ يناور من أجله المجاورون وأكبر مصلحة يبيعون الدين وكل المصالح الشرعية من أجلها هي البقاء.. البقاء.. البقاء.
وبالطبع كل ما سبق إشارات وعلى القيادة والقواعد التوسع قدر الإمكان ليفهم بعمق سياسات الفريقين ، وأن تكون دراسته بعيدة عن نمطية أن العدو يتحرك تبعاً لدوافع دينية فقط ، خاصة أنه سيجد دافع الدين لدى كثير من أطراف العدو ثانوياً أو مضمحلاً ، كذلك على الدارس الذي سيؤهل للعمل في اللجان السياسية بجانب عمله العسكري أن تكون له قراءات جيدة في التأريخ مع قدرة على التمحيص ، وقراءات في علم النفس ، وينبغي عليه دراسة علم الاجتماع ويركز فيه على دراسة ما يتعلق بدور القبائل والعشائر في عالمنا العربي والإسلامي والفارق بين العصبية المحمودة والعصبية المذمومة ، وما أحدثه النظام الجاهلي المعاصر في بنية القبائل وعمله على تفتيتها وتذويبها في المؤسسات المدنية المعاصرة أو الانحراف بها إلى العصبية الجاهلية.
نعيد ونؤكد أن علينا مواجهة سياسات العدو والمجاورين بسياسة شرعية منضبطة ، ولكن لنا على ذلك ملاحظة هامة :
يقول ابن القيم رحمه الله : ( وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ، ومصالح الإسلام وأهله وأمره ، وأمور السياسة الشرعية ، من سير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال ، فهذا لون ، وتلك لون ، وبالله التوفيق ).
وفي هذا النص يبين ابن القيم أن أخذ أمور السياسة الشرعية من السنة [ أولى ] ولم يقل [ يجب ] ، وحتى لا يفهم البعض هذه النقطة بالخطأ ننقل للإمام ابن القيم هذا النقل من موضع أخر فيه توضيح أكثر :
يقول ابن القيم رحمه الله : ( وقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول ، ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك - إلا ما وافق الشرع - أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت - لا سياسة إلا ما نطق به الشرع - فغلط وتغليط للصحابة ).
ومن ذلك نعرف غلط من يطالب بالنص الشرعي الذي يدل على ما يقرره الأمير من أمور السياسة الشرعية التي هي من واجباته والتي يستعين فيها بمشاورة أهل الحل والعقد من أهل الدين ممن لهم خبرة في أمور الدنيا.
هناك بعض النقاط الهامة سأنبه عليها ، ثم سأختم بوضع مثال تطبيقي لجزئية هامة أعتبرها من أهم ما يُستفاد من دراسة وفهم الجوانب السياسية للمعركة ، مع التنبيه على أن المثال التطبيقي الذي سأورده ما هو إلا مثال ، لذلك فالتعديل فيه عند التطبيق أو حتى اختيار عناصر مختلفة تماماً عن عناصره هو أمر راجع للقيادات الميدانية سواءً القيادة العليا أو قيادات المناطق.
(1) لا يكفي أن تكون القيادة السياسية المسلمة على مستوى عال يمكنها من العمل السياسي رفيع المستوى , بل لا بد أن تكون القواعد الإسلامية على مستوى رفيع وقدر عال من الإدراك , وأيضاً المشاركة في اتخاذ القرار السياسي خاصة إذا كان على درجة من الخطورة المصيرية أو التبعات الثقيلة.
وغالباً ما تكون الثقة في القيادة هي الفيصل في قبول قراراتها السياسية المصيرية ولنا بما حدث في صلح الحديبية مثال , وبطبيعة الحال الثقة في عصرنا ينبغي أن تكون ثقة مبنية على معطيات ثابتة لقيادة تم اختبار صدقها عملياً وفي شتى الميادين ، وهذا غير ثقة الإمعات في قيادات لم تُختبر ميدانياً , ولكن تجيد التظاهر وإخضاع الغير بشتى المؤثرات بما فيها الكذب والدجل.
كذلك العمل على الارتقاء بالقواعد بحيث يكونون على قدر عال من الإدراك للوعي السياسي يؤدي إلى سهولة تفهمهم وقبولهم القرارات السياسية المصيرية التي تصدر عن القيادة.
(2) المجاورون كحركة الإخوان المسلمين وما جدَّ على الساحة من مقلديهم ممن يُطلقون على أنفسهم التيار السلفي الإصلاحي يتفقون في سياساتهم في نقاط كثيرة ولكن يختلفون في بعض النقاط القليلة والتي ينبغي فهمها جيداً عند التعامل معهم ، فهذه الفروق قد تصلح كمفتاح لتحليل مواقف كل منهم وتوقع ما سيقومون به تجاه الأحداث ، كذلك لهم بعض الأمثلة السابقة في السياسة الشرعية.
(3) من أهم فوائد الدراسات السياسية هي تحديد ردود الفعل تجاه أي خطوة نخطط للقيام بها ومن ثم المضي قدماً في القيام بها أو تأجيلها للظرف المناسب أو تهيئة الأوضاع لها لتكون مناسبة ، ومن ذلك تحديد بمن من فئات العدو نبدأ ، ولذلك ينبغي لكل مجموعة أن تضع قائمة بجميع الأعداء المستهدفين في نطاقها ، مرتبة تبعاً لخطورة كل منهم وأهمية وضعهم أعلى سلم المواجهة ورد الفعل المتوقع عند بدء العمليات تجاه كل فئة منهم ، وكيف نجعل الفئة المستهدفة تجاهر بالإجرام الذي كانت تستره مما يجعل استهدافها مُبرراً أمام الجماهير.
(4) نبهت في هذا الفصل على أهمية فهم اللعبة السياسية للأعداء والمجاورين وإتقان فن السياسة للتعامل معها بسياسة شرعية ، إلا أنه لا ينبغي إغفال دراسة وفهم السياسة الشرعية في التعامل مع الصف المجاهد ومع المستجيبين من الأعداء عندما يدخلون إلى الصف المسلم بل أحياناً قد يدخلون إلى الصف المجاهد مباشرة ، نتعلم كيف نتصرف إذا خرج من بيننا وفي صفنا خوارج أو بغاة أو مرتدون أو من يطلب ذات أنواط أو من يطلب وضع تشريع ينظم العمل يشمل مخالفة لنصوص شرعية أو يطالب بالانضمام إلى الأمم المتحدة ، كذلك إذا خرج من بيننا من يشرب الخمر أو ما يستوجب حداً ، فكل هذه الأصناف متوقعة خاصة أن عملنا مبني على أن يكون جهادنا جهاد أمة وليس جهاد حركة ، وخروج مثل هذه الأصناف أثناء المعركة يُنشئ أوضاعاً في غاية الحساسية والتعقيد ، والتعامل معها لا يكون بالأدلة الشرعية التي تخص دولة مستقرة ، وإنما بسياسة شرعية دقيقة مأخوذة من طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه ، مع التنبـه حتى لا نخرج بفقه هذه المسائل لطرائق أصحاب تمييع الأحكام والدين ، بل والتنبيه الدائم بعد إخراج أحكام منضبطة لهذه المسائل على أنها أحكام استثنائية في بعض الأحيان وتخص وقائع أعيان.
(5) بنية العدو البشرية ضعيفة قتالياً ، وإنما يُعوض ذلك باستخدام المعدات وهذه لا يمكن الاعتماد عليه على الدوام ، كذلك يعمل العدو على تعويض ذلك بالهالة الإعلامية الكاذبة واستخدام المكر الإعلامي أثناء كل حركة من تحركاته وفي مواجهة أي تحرك من جهة المجاهدين ، لذلك ففهم السياسة الإعلامية للخصوم والتعامل معها هام جداً في كسب المعركة العسكرية والسياسية ، ومن أهم ما يساعد على نجاح سياستنا الإعلامية هو أن تصل موادنا الإعلامية إلى مُستهدَفيها ، ومن الملاحظ على بعض اللجان الإعلامية في مراحل سابقة فشلهم في أن تصل المادة الإعلامية إلى الفئات المستهدفة خاصة تلك المادة التي تستهدف فئة الناس والشعوب ، بحيث أصبح في الغالب من تصل إليهم المواد الإعلامية هم فئة النخبة فقط ، في حين أن حركات غير إسلامية عديدة نجحت في أن تصل بياناتها وموادها الإعلامية لكل بيت وفئة عمرية ، لذلك لا ينبغي إغفال تلك النقطة الهامة ، خاصة أننا نريد أن يصل للناس بوضوح مواقفنا الشرعية العسكرية والسياسية وتبريرها الشرعي والعقلي وأنها في مصلحة الأمة ، لذلك ينبغي تكوين مجموعة مهمتها توصيل ما نريد إيصاله للناس والتأكد من ذلك ، ولو تطلب هذا التوصيل تعرضهم لخطر مقارب لخطر عملية قتالية كوجود قسم يوزع وقسم مسلح يرقي ويحرس من بعيد ، أو حتى تطلّب ذلك القيام بعملية عسكرية في سبيله كأن نخطف رهينة مثلاً ثم بعد إثارة ضجة حولها ونطلب من مراسلي المحطات والشبكات الإعلامية إعلان ما نريد إيصاله للناس كاملاً مقابل تسليم الرهينة - الجملة السابقة مثال افتراضي - ، فيمكن أن يكون ما نريد إعلانه بيان تحذيري أو تبرير لعمل مصيري هام جداً ونحو ذلك.
(6) سأطرح في هذه النقطة مثالاً تطبيقياً لخطوة عسكرية سياسية تستفيد مما عرضناه لبعض مبادئ العدو والتي تُحركه سياسياً وعسكرياً - وكما ذكرت من قبل أنه مثال فقط - :
تبعاً لأهداف تحركاتنا العسكرية في مرحلة شوكة النكاية والإنهاك خاصة هدف تقوقع العدو بقواته وقوات أعوانه من المرتدين حول أهداف معينة وانسحابهم من أماكن تواجدهم خاصة مناطق الجماهير بحيث نستطيع البدء في مرحلة إدارة التوحش ، وتبعاً لمبدأ المصلحة الذي يتبعه العدو والذي شرحنا بعض أبعاده فيما سبق فعلينا استهداف أهداف اقتصادية مؤثرة للعدو وعلينا تتويج ذلك باستهداف قطاع البترول حيث إن البترول هو شريان الحياة في الغرب ، وأمريكا منذ اكتشاف البترول وهي تراه سلعة رئيسية واستراتيجية حيوية في الحرب وضرورية في السلم ولازمة للنفوذ الدولي ، واستهداف اقتصاد العدو سياسة عسكرية ثبت نجاحها تأريخياً ، خاصة عندما يكون الطرف الذي يمارسها يقدم الدين أو أي اعتبار آخر قبل الاقتصاد والمصالح المادية أو يكون قد خسر جل مصالحه المادية ولم يتبقَّ عنده الكثير ليخسره ، وهي من السياسة المشروعة في حروبنا ولها أصول في السياسية الشرعية النبوية.
في المثال التطبيقي الذي سنعرضه هنا سنعرض كيف نقوم بذلك بدون إهدار نفوس أو أموال معصومة ، وكيف نتفادى التشويه الإعلامي للعدو حيث سيقوم العدو بحملة إعلامية توجه لنا كل التهم بداية من العمالة إلى العمل على إفقار وإضعاف البلاد اقتصادياً و.. و.. ، وسيشارك فيها بالطبع الأحبار والرهبان والطاقم الفذ من قيادات العمل الاسلامي ، خاصة أن أمامنا مثالاً سابقًا عندما استهدفت الجماعة الإسلامية بمصر قطاعي السياحة والبنوك ، نعم هي لم تستطع استهدافهم بجدية لضعف استراتيجياتها العسكرية إلا أنه ظهر بوضوح وقتها عدم قدرتها على الوقوف في وجه التشويه الإعلامي على الرغم أنها استهدفت قطاعين ممتلئين بالممارسات المحرمة فكيف سيكون حال التشويه في استهداف هدف اقتصادي كالبترول ، وهو مباح في الجملة ، ومستقر في أذهان الناس كونه مصدر رزق مئات الملايين من المسلمين في العالم العربي والإسلامي.
إذا أجبنا على المعضلات أو الأسئلة المطروحة في الفقرة السابقة سنسهل الطريقة لاستهداف أي هدف اقتصادي دون البترول بالأولى فما هو الطرح المقترح :
إذا علمنا أن فشل الجماعة الإسلامية في مواجهة التشويه الإعلامي الموجه لها عندما هاجمت السياحة والبنوك ناتج عن أنها عندما قامت بهذا العمل وضعت له تبريرين أولاً : أنها تضرب هدفاً محرماً ، ثانياً : التركيبة التبريرية السياسية لاستهدافها اقتصاد العدو ، وقد كان التبريران كافيين بقدر ما لتبرير العمل ولكن المشكلة أنهما لم يصلا بوضوح للجماهير , نعم تناقلت الألسن أن تلك الأهداف محرمة ولكن التبرير الثاني وهو الأهم لم يصل إلا للنخبة بل لبعضها مما جعل الناس لا تفهم ما غرض هذه الجماعة بالضبط وهل هي تقدم بعض الأمور الثانوية على أمور أساسية أم أن لها غرضاً غير مباشر من هذا ، لذلك أول خطوة في خطتنا الموضوعة ينبغي أن تركز على تبرير العمل تبريراً شرعياً عقلياً وأن فيه المصلحة في الدنيا والآخرة ، ثانياً : أن يصل هذا التبرير واضحاً إلى الناس والشعوب بحيث يقطع كل سبيل أو محاولة لتشويه عملنا إعلامياً ، فالجانب الإعلامي في هذه العملية سيكون ظهرنا الذي نحتمي به.
الخطوة الأولى : تقوم إحدى المجموعات الإعلامية والتي أحد كوادرها متخصص في الدراسات الاقتصادية السياسية بإعداد دراسة تثبت فيها القيمة الحقيقية والسعر الحقيقي للبترول ، وكيف أنه على الرغم من أن الأبحاث المحمومة لم تجد لها أي بديل في الوقت الحاضر إلا أنها السلعة الوحيدة الأكثر تخلفاً في الأسعار أمام مثيلاتها من السلع الأخرى ، حتى قيل أن ثمن نكتة ممثل على المسرح أغلى من ألف برميل نفط ، بحيث تشتمل الدراسة على تحديد لسعر حقيقي أو تقريبي لبرميل البترول طبقاً للمعايير الاقتصادية السليمة ، ومع بيان لأهمية البترول السياسية كذلك ، وبيان مدى الإجحاف والنهب الذي عانته الأمة عشرات السنين جراء بخس سعره ، وبعد ذلك يسلم البحث إلى عضو في اللجنة يجيد صياغة البيانات التبريرية فيقوم هذا العضو بوضع بيان ينبغي أن يخلو من تبرير أننا نضرب قطاع البترول من أجل أنه يُباع للكفار فتلك مسألة اجتهادية وستفتح علينا أبواباً من الجدل الإعلامي يصرف عملنا عن وجهته ، بينما ما ينبغي أن يشتمل عليه البيان هي العناصر التالية :
(1) ملخص - في سطور قليلة - للدراسة التي أعدها الكادر الاقتصادي مع التركيز على مدى الإجحاف الذي لحق بالأمة من جراء بخس سعر البترول ، مع بيان كيف أن الأموال المتحصلة طوال عشرات السنين - مع بخسها - لم تذهب لبناء الأمة بقدر ما ذهب أغلبها لأرصدة حفنة من العملاء ووكلاء الغرب من أنظمتنا العربية والإسلامية بحيث يبقى فتات الفتات للأمة وشعوبها لذر الرماد في العيون ، مع بيان السعر الذي ينبغي أن يكون عليه البرميل حالياً ، وأن كل ذلك محصلة دراسة اقتصادية دقيقة تم توزيعها على الباحثين الاقتصاديين والسياسيين والنخب الإعلامية في عالمنا الإسلامي.
(2) إعلان لجميع الدول التي تحصل على بترول من أراضي المسلمين أن عليها أن تدفع السعر الحقيقي المدون في الدراسة والبيان كليهما مع الاحتفاظ بحق المسلمين في المطالبة بفارق السعر عن كامل السنين السابقة ، وأننا نقول لمن يناقش في هذا السعر : أن هذا السعر هو الذي يبيع به المسلمون ما يملكون ومن لا يريد أن يدفع ذلك السعر لا يشتري ، وأن الأموال التي ستدفع مقابل بترول المسلمين لا تدخل بعد اليوم في خزانة الأنظمة المثقوبة بثقب ينفذ على بنوك سويسرا ، وإنما تتسلمها لجان شعبية وتقوم هذه اللجان بإنفاقها على الشعوب المحتاجة وذلك بعد دفع مرتبات العاملين في قطاع البترول ، هذه اللجان الشعبية تتكون من أشخاص ثبتت أماناتهم من تجار البلاد وأعيان البلدان الإسلامية ، مع بيان أن هذا البيان صادر عن طليعة من الأمة تأبى أن تظل الأمة مسحوقة مسلوبة الإرادة.
(3) إعطاء مهلة مناسبة لبيان مدى التجاوب مع البيان واتخاذ خطوات جدية وإلا سيتم ضرب المنشئات البترولية خاصة الأنابيب التي لا يصاب من ضربها بشر ، أو الناقلات التي يديرها ويعمل عليها الكفار ، كذلك ضرب المنشئات والمعامل في حال خلوها من العاملين تجنبا لإيذاء المسلمين - والتأكيد على ذلك - ، أما بالنسبة للحراس فإذا كانوا من القوات النظامية لأنظمة العملاء والردة فسيتم التعامل معهم حيث إن هؤلاء الخونة لأمتهم لا حرمة لهم عندنا ، أما لو كان الحراس من شركات الحراسات الخاصة فسيتم مدافعتهم فقط حال محاولة قتل أو أسر أحد المجاهدين لتسليمهم لأنظمة العمالة والردة.
(4) توضيح جيد للشعوب أنه في حالة تأزم الظروف واضطرارنا إلى ذلك وتوقف قطاع البترول عن العمل لن تخسر شعوبنا شيئاً إن شاء الله ، فأولاً : أغلب دخلنا من البترول يذهب أغلبه إلى الحسابات البنكية للحكام العملاء وأعوانهم ولا ينفق منه على الشعوب إلا ذر الرماد في العيون ، ثانياً : عندما يتوقف البيع يبقى البترول احتياطياً لدينا ونستطيع بيعه بعد ذلك بأكثر أضعافاً مضاعفة من سعره الحالي وأن فارق الأسعار سيغطي وزيادة - أضعافاً مضاعفة - إصلاح أي تخريب سيتم للمنشئات هذا على المدى القريب بإذن الله أما على البعيد فنأمل أن يتغير حال الأمة وقد استردت إرادتها وحقوقها وأموالها التي سلبها الغرب وعملاؤه من الحكام الخونة ، وأننا لا نفعل ذلك إلا من أجل مصلحة الأمة وأن عليهم تكذيب حملة أبواق الأنظمة التي ستنطلق لتشويه أهدافنا وأعمالنا ، وأنه اذا تحلينا بالصبر قليلاً ستسترد الأمة قرارها وهيبتها.
الخطوة الثانية : نعمل على أن تصل الدراسة الاقتصادية لأكبر قدر من النخب الاقتصادية والسياسية والإعلامية في العالم الإسلامي وخارج العالم الإسلامي ، ليعلم الجميع مدى الظلم الذي ألحقوه بالشعوب الفقيرة في أمتنا ، وكذلك لتشجيع الدول البترولية في غير منطقتنا الإسلامية على رفع سعر البترول بدورها ، أما البيان المختصر فينبغي أن يصل إلى كل بيت في أمتنا وبأي طريقة ممكنة حتى لو تطلب الأمر خطف مدير أو مهندس صليبي - ويفضل أن يكون عاملاً في قطاع البترول - ولا يطلق سراحه إلا بشرط إعلان البيان في الصحف وقنوات التلفاز كاملاً ، ويمكن أن تتم عملية الخطف مثلاً في نيجيريا أو السنغال أو أي بلد بترولي إسلامي حتى لو كانت العمليات المخطط لها بعد ذلك ستتم في أماكن أخرى كالخليج مثلاً ، وإذا تعذر خطف صليبي غربي يمكن خطف أحد نصارى العرب الذين يعملون في قطاع البترول ، كذلك يمكن أن يكون المخطوف صحفياً غربياً ونحو ذلك ممن يتيسر خطفه من غير العاملين بقطاع البترول ، إذا كان خطفه يخدم الخطة الإعلامية المتعلقة بهذه العملية ، ويمكن أن يكون بدلاً من عملية الخطف القيام بأي عمل يمكن أن يشد أنظار العالم ويجعله متشوقاً لسماع البيان الذي سيلي ذلك العمل.
قد يتعجب البعض إذا قلت أن كل المطالب التي في البيان ليست هدفنا الأساسي ، بل المتوقع بعد القيام بالخطوتين السابقتين عدم استجابة الغرب أو الأنظمة لأي مطلب من المطالب السابقة ، بل ومحاولة الاستهانة بالتهديد مع كونهم سيتعاملون معه بأعلى درجات الجدية خاصة إذا تم الإعلان عنه عن طريق عملية خطف كما ذكرنا ، بل من المتوقع أيضا أن لا تسفر عملياتنا المحدودة التي ستعقب انتهاء المهلة المحددة في البيان عن إيقاف ضخ البترول إلى الغرب ، ولكنها على الأقل ستعمل على رفع سعر البترول ولو على الأقل لتغطية النظم الأمنية الالكترونية ومرتبات الجنود والحراسات التي ستنتشر لتملأ طريق خطوط أنابيب البترول ومنشئات قطاع البترول الضخمة وملحقاتها الكثيرة ، بل ونتوقع ارتفاع سعر إضافي جراء الأزمة السياسية التي ستحدثها العمليات ، بل إننا نتوقع أيضاً ارتفاع سعر البترول قبل العمليات من جراء البيان والدراسة الصادرة فقط ، وفي ذلك مكسب إعلامي جيد أننا رفعنا سعر البترول بمجرد بيان ثم رفعناه مرة أخرى ببعض العمليات المحدودة تجاه أهداف بترولية ضعيفة التأمين.
قد يتعجب البعض أكثر إذا قلت أن كل ما سبق لا يهم ، وأن كل النتائج التي ذكرتها في الفقرة السابقة لا تهمنا سواء السلبية المتوقعة أو الاستجابة الغير متوقعة للمطالب ، ولكن ما يهمنا هو تقوقع النخبة من قوات العدو بأعداد غفيرة على المواقع الاقتصادية لحراستها ، وعندما توضع أفضل القوات لحراسة آلاف من المواقع البترولية أو الاقتصادية في البلد الواحد ستخلو الأطراف والمناطق المزدحمة من القوات ، وإن وجدت فستوجد قوات ضعيفة يسهل مواجهتها إذا لزم الأمر ، ويسهل تجنيد الشعوب في وجودها باتفاق غير مكتوب ، فنحن لا نعقد عهداً أو اتفاقاً مع جنود وضباط أنظمة الردة ، ولكن لن نتعرض لهم بالقتل إذا تركونا نتدرب وندعو ونجنِّد بحرية في المناطق المزدحمة والأطراف وإذا تعرضوا لنا ليس لهم منا غير السيف ، وبذلك نخطو خطوات واسعة نحو مرحلة إدارة التوحش والتي تبدأ بتخيير جنود الردة المهملين المتروكين في الأطراف والمناطق المزدحمة - حيث أن النخبة والقوات المجهزة موزعة بين حراسات الحكام وأهل الصليب وبين حراسات المناطق الاقتصادية ومناطق اللهو والسياحة - أقول نبدأ بتخيير القوات الضعيفة بين القتل أو الانضمام لنا أو الفرار وترك السلاح ، ويتركون لنا إدارة المناطق التي ستكون قد بدأت تعاني من ضعف السلطات فيها وقد انتشرت فيها العصابات وعدم الأمان والذي ينبغي علينا أن نعمل على علاجه وإدارة هذا التوحش.
ملاحظة : هذا التوحش وعدم الأمان بسبب بعض العصابات أفضل شرعاً وواقعاً من سيطرة السلطات على الأوضاع ووضع الناس تحت المهانة في أقسام الشرطة وإجبار الناس على قبول الكفر والتحاكم للقوانين الوضعية والخضوع للطواغيت فإن ذلك أكثر إضاعة للأمن فإن الشرك أكبر مظاهر عدم الأمن ، وكفى بعدم الأمن من النار فتنة ، لذلك قال أئمتنا : ( لئن اقتتلت البادية والحاضرة فلم يبق منهم أحد أفضل من أن ينصب طاغوت يحكم بخلاف شريعة الإسلام ) كذلك وجود بعض العصابات سيكون محدوداً وستبدأ الشعوب في التسلح للدفاع عن نفسها بدلاً من الحالة السابقة من الرضوخ لجند الطاغوت وسيعمل الأهالي بنصيحة خطباء المساجد بالتحاكم للشرع في قضاياهم بعد الفراغ القضائي الذي سيحدث نتيجة انهيار أو ضعف السلطات ، ويبدأ الأمر بالتحرك لما نريد بإذن الله ، حيث سنكون نحن أكبر قوة منظمة - بإذن الله - بين جميع الأطراف ، وأقدر شوكة قادرة على ضبط الجانب الأمني والقضائي.
كذلك أحب أن أنبه بعض المشفقين علينا من التشويه الإعلامي والحملات الإعلامية الموجهة ضدنا التي قد تنتج من مثل تلك العمليات التي ستوجه للاقتصاد أو البترول ، أقول لهؤلاء هونوا على أنفسكم واستعدوا لما هو أكبر من ذلك ، وإلا فلن يستقيم لنا جهاد ، ولنجلس في بيوتنا أفضل إذا كنا سنبدأ النحيب من الآن ، فيجب علينا عدم الاعتبار لمثل تلك الحملات ويجب الاستعداد لصدها بقدر الإمكان وإلا فمتى ؟ وليعلم من وضع رجله في طريق الجهاد أنه قد يأتي علينا يوم عندما تحتدم المعارك - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - سنرى فيه ملايين المُهجرين من المناطق هرباً من شدة القتال مع أنظمة الردة أو مع الصليبية والصهيونية كما حدث عندما احتدمت المعارك في أفغانستان والشيشان وسنواجه بحملات إعلامية - وقد يُشارك فيها الجهابذة من قادة الحركات الإسلامية - أننا نحن المتسببون في ذلك ، وقد تتسبب موجات قصف جيوش الردة والصليب لقتل الآلاف ويجب أن نحضِّر أنفسنا لذلك ، حتى إن أحد القادة الأفغان كان يجلس مع الشيخ عبد الله عزام رحمه الله فأتته رسالة فيها خبر قتل أكثر من عشرين فرد من عائلته أثناء قصف إحدى القرى والرجل يستمر في الحديث فيقول له الشيخ ما الخبر الذي جاءك فيخبره ، يقول الشيخ عبد الله ينقل لي خبر مقتل أقاربه وكأنه يحدثه أن هارون الرشيد كان يحج عاماً ويغزو عاماً ويكمل ما كانا يتحاوران فيه وكأن شيئاً لم يحدث ، وهذه هي الحرب ، ويجب أن تتعود الشعوب عليها وإلا فمتى ؟ وكيف سنخرج من التيه ؟ ويجب أن نتحضر بقدر الإمكان لرد الحملات التشويهية ، وإذا أخلصنا في عملنا وأتقنّاه فستصل كلماتنا إلى قلوب الناس وستلقف عصانا كل الإفك الذي يروجون له في حقنا ، وسيصبر الناس معنا طالما كنا طليعة الصابرين أما لو بدأنا الشكوى والنحيب والجزع من الآن فحق للناس أن يجزعوا.
أعيد التنبيه أن ما ذكرته هنا بخصوص البترول هو فقط مثال لشحذ الذهن ، إلا أن استراتيجية استهداف اقتصاد العدو بصفة عامة استراتيجية معتبرة سياسياً وعسكرياً ولا ينبغي أن تغيب عن الحركة الراشدة ، وقد نبه عليها قيادات الجهاد في أكثر من دراسة وأكثر من بيان.
(((((((
الفصل السابع
الاستقطاب
معركة ملتهبة.. الإعلام.. إتقان الإدارة.. رفع الحالة الإيمانية.. المخاطبة المباشرة.. العفو.. التأليف بالمال..
أروع الأهداف التي تحققت من سياسة حركة التجديد في المرحلة الحالية - والتي بدأت في منتصف التسعينات - هي جعلنا لا نخشى من عواقب أن يبلغ الاستقطاب في الأمة أقصى مدى له ، لا شك أن في كل المعارك السابقة على هذه المرحلة كان ينبغي علينا أن نسعى إلى الاستقطاب لتتطور المعركة التطور المأمول ، وقد حدث ذلك بالفعـل في بعض البلاد وظهرت نتائجه المشجعة ، إلا أن التحركات في كثير من البلدان تخوفت من إحداث الاستقطاب خوفاً من فقدان السيطرة عليه خاصة في ظل الجهل المتفشي في الأمة والإعلام الموجه وشبهات الأحبار والرهبان ودعاة الجماعات الإسلامية الذين باتوا وقتها دعاة للوحدة الوطنية مثلهم مثل النصارى ومثل دعاة الوطنية من الأحزاب العلمانية المرتدة والأمثلة كثيرة ، حتى وصل الأمر بالبعض بعقد الاجتماعات مع نصارى العرب والأحزاب العلمانية للتنديد بأعمال جماعات الجهاد التي ستفرق الوطن.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
نقصد بالاستقطاب هنا هو جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس - كل الناس - استقطاب ، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق وفريق إلى جانب أهل الباطل ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينضم للمنتصر ، وعلينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان ، خاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المعركة الحالية.
جر الشعوب إلى المعركة يتطلب مزيداً من الأعمال التي تشعل المواجهة والتي تجعل الناس تدخل المعركة شاءت أم أبت ، بحيث يؤوب كل فرد إلى الجانب الذي يستحق ، وعلينا أن نجعل هذه المعركة شديدة بحيث يكون الموت أقرب شيء إلى النفوس بحيث يدرك الفريقان أن خوض هذه المعركة يؤدي في الغالب إلى الموت فيكون ذلك دافعاً قوياً لأن يختار الفرد القتال في صف أهل الحق ليموت على خير أفضل له من أن يموت على باطل ويخسر الدنيا والآخرة ، وهذه كانت سياسة القتال عند الأوائل ، أن تتحول المجتمعات إلى فريقين يختصمان ، يتم إشعال معركة شديدة بينهما نهايتها النصر أو الشهادة شعارها الحرب المجلية أو السلم المخزية ، فريقين يختصمان فريق في الجنة وفريق في السعير " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " وهذه المعركة وحدها بهذه الحدة وهذه المفاصلة هي التي نستطيع فيها استقطاب أكبر قدر من الأفراد لصفنا بحيث لا نأسى بعدهـا على من يهلك في الصف الآخر ، ونفرح لمن يصطفيه الله في صفوف أهل الإيمان بالشهادة ، هذه المعركة بهذه الحدة وهذه المفاصلة هي التي ستؤتي أكلها - بإذن الله - أما لو أصغينا لترّهات أصحاب الوطنية والتراب فلنجلس في بيوتنا أفضل من فشل تأتي من بعده الأهوال.
لا شك أنه كلما زاد وهج ولهيب المعركة واشتدت وطأتها على الناس والمجتمع في جانب العدو والناس والمجتمع في جانبنا يحرك ذلك القلوب والعقول وتبلغ الحجة على الناس أقصى مدى لها ، ومن ثم يبلغ الاستقطاب مداه ، إلا أنه في مقابل هذه الشدة من لهيب معركة حامية الوطيس نجد أن كل مرحلة من مراحل معركتنا تحتاج إلى أساليب من اللين ونحو ذلك تعادل ذلك ليستقيم الأمر ، خاصة أنه في كل مرحلة من مراحل المعركة ستختلف الفئات التي ينبغي أن نركز الاستقطاب عليها - مع عدم إهمال باقي الفئات -.
في مرحلة شوكة النكاية والإنهاك نحتاج لاستقطاب الأخيار من شباب الأمة وأفضل وسيلة لذلك هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً ، أعلى درجات التبرير أن تبرر العملية نفسها بنفسها ، ولكن لوجود الإعلام المضاد يصعب إيجاد العملية التي تبرر نفسها بنفسها ، وإن كان من الممكن أن نقوم بذلك عندما نصل لمرحلة شل هذا الإعلام ، وذلك يحدث عندما ترتقي المجموعات وتتصاعد وتُكثف العمليات ، وعندها يعجز الإعلام عن متابعتها وتشويهها أو تشويه أهدافها ، أما في المرحلة التي ينشط فيها الإعلام المضاد فلا سبيل لتبرير العمليات إلا بإصدار بيانات مطبوعة ، وبيانات من خلال الإعلام المسموع أو المرئي تمهد لكل للعمليات قبل القيام بها - دون تحديد طبعاً - وتبرر لها بعد القيام بها تبريراً شرعياً وعقلياً قوياً ، يراعى فيها الفئة المخاطبة ، وينبغي أن تصل هذه البيانات لكل الناس ولا تقتصر على النخبة ، ينبغي أن تشمل أغلب البيانات أهدافنا العامة المقبولة عند الناس حتى بدون عبارات صريحة : أننا نقاتل لإخراج أعداء الأمة ووكلائهم الذين دمروا البلاد عقائدياً ونهبوا ثرواتها وأحالونا لعبيد لهم ، وأنهم كما يرى كل أحد يدمرون كل شيء عياناً بياناً ، بل ويقبضون تكلفة قتلهم وتدميرهم لنا.
أما في مرحلة [ إدارة التوحش ] فهنا يبدأ الاستقطاب بأخذ أهمية من نوع آخر :
عند حدوث التوحش في مناطق عدة - سواءً التي سنعمل على إدارتها أو ما يجاورها من مناطق أو ما يبعد عنها - أقول عندما يحدث التوحش يبدأ يحدث نوع تلقائي من الاستقطاب بين الناس الذين يعيشون في منطقة الفوضى بأن يلتف الناس - طلباً للأمن - حول كبراء البلد أو تنظيم حزبي أو جهادي أو تنظيم عسكري من بقايا الجيوش أو الشرطة بأنظمة الردة ، وفي هذه الحالة تبدأ أول وسائل استقطاب هذه التجمعات لتدخل في موالاة أهل الحق بقيام مجموعات الإدارة التابعة لنا بإحسان إدارة المناطق التي تحت سيطرتهم ، مع القيام بدعاية إعلامية جيدة بما وصلت إليها حالة مناطقنا من أمان وعدالة بتحكيم الشرع وتكافل وإعداد وتدريب وارتقاء ، سنجد - بإذن الله - مع هذه الخطوة الأولى هجرة مطردة من شباب المناطق الأخرى إلى مناطقنا لنصرتها والعيش فيها على الرغم مما يمكن أن يغلب عليها من نقص في الأنفس والثمرات أو تركيز الضغط عليها من قبل الأعداء.
القصد : أول وسيلة من وسائل الاستقطاب في مرحلة [ إدارة التوحش ] هي إحسان إدارة المناطق التي تحت سيطرتنا ، أما باقي وسائل الاستقطاب في هذه المرحلة فنلخص أهمها في التالي :
- رفع الحالة الإيمانية : رفع الحالة الإيمانية هو أقصر طريق لاستقطاب الناس الذين يعيشون في المنطقة التي نديرها ، فهناك فرق بين كون الناس يقبلون إدارتنا لهم لنحقق لهم الأمن ونحو ذلك وبين أن ينخرطوا في صفوفنا والعمل لأهدافنا والتدريب والقتال معنا ونحو ذلك ، ورفع حالة المجتمع الإيمانية في هذه الحالة يسهل استقطاب هؤلاء الناس إلى صفوفنا العاملة.
- المخاطبة المباشرة : بالنسبة لاستقطاب مناطق مجاورة تديرها تنظيمات أخرى علينا أن نوجه رسولاً للإدارة المسئولة عن المناطق المجاورة لدعوتها للدخول في ولاء أهل التوحيد والجهاد ، قد نجد منهم تخوفاً من الدخول في اتحاد تام خوفاً من أن يُعامِل العدو مناطقهم كما يُعامِل مناطقنا ، فنركز دعوتنا في هذه الحالة على الدرجة الأقل وهي الدخول في تحالف على بعض المقاصد الشرعية ، وقد نجد منهم مثل التخوف السابق ، فننتقل معهم إلى المرحلة الأخيرة وهي أننا إن تفهمنا رفضهم للعرضين الأولين إلا أننا لن نقبل بحال أن نسمع يوماً أن منطقتهم يُحكم فيها غير الشرع وإلا أصبحت إدارتهم في هذه الحالة مثل إدارات الأعداء سواءً بسواء ، وإذا استقر الأمر على الحد الأدنى سيكون الزمن كفيلاً - بتوفيق الله عز وجل - بتقريب العلاقة مع هذه المنطقة.
مما يدخل تحت هذه النقطة أننا سنجد مناطق تقع تحت إدارة قبائل , تستمد قوتها على مواجهة القوى المختلفة من حولها كبقايا قوات أنظمة الردة والعصابات المنظمة وغارات أهل الصليب من قوة عصبيتها ، ونحن عندما نخاطب هذه العصبيات لا ينبغي علينا دعوتهم لنبذ عصبيتهم ، بل علينا استقطاب هذه العصبيات وتحويلها إلى عصبيات محمودة ، فهم لديهم قوة وطاقة فلا ينبغي أن يبدد خطابنا هذه القوة - ففضلاً عن صعوبة ذلك - فإن الأفضل هو تحويل مسار هذه العصبية لتكون في سبيل الله خاصة أن عندهم استعدادًا للتضحية من أجل المبادئ والشرف الذي يعتقدونه ، وممكن أن يبدأ الأمر بتأليف المُطاعين فيهم بالمال ونحو ذلك ثم بعد فترة عندما يختلط أتباعهم بأتباعنا وتخالط قلوبهم بشاشـة الإيمان سنجد أن أتباعهم لا يقبلون منهم أي أوامر تخالف الشرع ، نعم تبقى العصبية ولكن تتحول إلى عصبية ممدوحة بدلاً عن العصبية المذمومة التي كانوا عليها.
- العفو : إذا وقع في أيدينا أحد المُطاعين أو مجموعة من الأفراد من أهل الكفر الأصلي أو أهل الردة ، ووجدنا أنه لا خطورة كبيرة من العفو عنهم ، وترجح لنا أن يؤدي ذلك إلى تأليف قلوبهم ومن ثم انضمامهم واتباعهم لأهل الإيمان أو على الأقل كف شر أتباعهم عنا - مع ملاحظة أنه لا عفو عن المرتد إلا إذا أسلم ، ونحن حال إسلامه مخيرون بين العفو أو القتل لأنه تاب بعد القدرة - أقول إذا ترجح لنا ذلك ولم يكن هناك مصالح من قتلهم تفوق مصالح العفو ، فإن ذلك يكون من الوسائل الناجعة للاستقطاب.
- التأليف بالمال : عندما نبدأ في إدارة بعض المناطق - بإذن الله - ستتدفق علينا الموارد المالية من أموال الصدقات التي يمكن تأمين وصولها في هذه الحالة بصور مختلفة أفضل من الوضع الحالي ، كذلك الأموال المتحصلة من المؤسسات المالية التي سنغنمها مما تركته سلطات أنظمة الردة عند مغادرتها تلك المناطق ، بالطبع ستكون تلك المؤسسات من الفئة الصغرى أو المتوسطة أما الشركات والمصانع والمؤسسات الكبرى والعملاقة كالبترول ونحو ذلك فكما ذكرنا من قبل ستحشد أنظمة الردة ما معها من قوات حولها لحمايتها.
بالطبع ستكون هناك نفقات وحقوق للناس ومظالم ينبغي تأدية هذه الحقوق قبل كل شيء ، إلا أننا بحسن التدبير والتعامل مع تلك الموارد يمكن أن ندَّخر منها لما يجد من حاجات العمل الإسلامي ، من هنا آن الأوان ليقوم الراسخون في العلم من أهل التوحيد والجهاد لتأصيل وبيان تفاصيل كيفية صرف بعض الأموال لبعض المطاعين من الناس ونحو ذلك لتأليف قلوبهم حتى يعطوا الولاء لإداراتنا ، وتكون تفاصيل وقواعد هذا الأمر معلنة وواضحة بحيث لا يقع شيئاً في النفوس.
بداية نؤكد على أن معركتنا هي معركة توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك وليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ، لكن علينا ألا ننسى أن من السياسة الشرعية عند مخاطبة ضعاف النفوس من طبقات الناس المختلفة بالوعد باستعادة أموالنا وحقوقنا بل غنم مال الله الذي يتسلط عليه شرار الخلق ، ونحن لا نظن أن مثل هذه الوعد حرك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان تسلية لهم وتحريكاً لضعاف النفوس من الناس ليقبلوا على الإسلام ، ولا يلبس الحال بهم بعد ذلك من خلال الحياة بين أهل الإيمان وأتون المعركة إلى انصلاح حالهم وتحركهم من أجل التوحيد قبل كل شيء.
لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن يخاطب أسرى العدو بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (.
والسياسة الشرعية في العهد النبوي فيها وقائع كثيرة تم فيها استخدام المال لتأليف القلوب بضوابط محددة ، ويدخل في تأليف القلوب بالمال التأليف بالمناصب الشكلية الغير مؤثرة على العمل التي تعطي المطاع أو المعظم في قومه أو عشيرته نوعاً من الجاه مقابل أن يدخل أتباعه ومن حوله في حركة الجهاد تحت إمرة قادة الجهاد لتحقيق أهداف الجهاد ، وقلنا أن هؤلاء بعد اختلاطهم بشباب الجهاد ستخالط بشاشة الإيمان قلوبهم - بإذن الله - ومن ثم سينفضون عن المطاع السابق - وإن بقوا معه شكلياً - إذا لم يهتد باطناً مثلهم ، ولنتذكر كيف أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنه كان على استعداد أن يقتل أباه لو طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
يتبقى أن تعرف عصابة الحق من قواعدنا الصلبة ومن الشباب المجاهد تفاصيل أحكام تأليف القلوب بالمال ومنها : أن من قاتل من أجل المال لا أجر أخروي له ، ومن كانت نية المال أو الغنيمة تابعة وليست أصلية ونيته الأصلية أن تكون كلمة الله هي العليا نقص أجره وأن من سلم وغنم عُجل له ثلثا أجره ، ومن أريق دمه وتلف ماله أخذ أجره كاملاً ، وأن الأنصار تركوا ما حضروا له أنفسهم من المال في غزوة حنين من أجل تأليف قلوب الطلقاء ، وليعلموا أنه ممكن لهم أن ينالوا المال في النهاية كما ناله الصحابة وأبناء الصحابة والتابعون إلا أن فتنته أشد من فتنة الفقر ونحن لا نملك ثبات الصحابة رضوان الله عليهم , فكما جاء في الحـديث ".. ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُفتح عليكم فتهلككم كما أهلكتهم.. ".
(((((((
الفصل الثامن
قواعد الالتحاق
عند تعثر منطقة من المناطق المدارة من إدارة التوحش أو عند الحاجة لضم وإلحاق منطقتين متجاورتين ببعضهما البعض أو أكثر من منطقتين.. أيُّ المنطقة تلتحق بالأخرى وتنزل إداراتها تحت إمرة الإدارة الأخرى ؟ وهل الذي يحسم تلك الأمور عنصر السبق في الجهاد والعمل لدين الله أو عنصر التفوق المادي والأقدر على القيادة أو عناصر أخرى ؟ وكيف نعالج البغي أو الحسد الذي قد يكون موجوداً في النفوس ؟ نسأل الله العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة.
إن معرفة قواعد الالتحاق وممارستها والتعود عليها يسهل الطريق للقيام بالخطوة الأولى في المرحلة التي تلي مرحلة [ إدارة التوحش ] وهي مرحلة [ قيام الدولة ] حيث أن الخطوة الأولى في تلك المرحلة هي قيام قائد أو مجموعة بجمع شتات المجموعات والمناطق تحت راية واحدة لتتكون بهم شوكة التمكين ، كذلك عند الانتقال من مرحلة [ شوكة النكاية ] إلى مرحلة [ إدارة التوحش ] يتطلب الأمر ممارسة قواعد الالتحاق حيث تلتحق أكثر من مجموعة من المجموعات الصغيرة التي تقوم بالنكاية ببعضها البعض لتكوين شوكة تقوم بإدارة التوحش الناتج عن النكاية.
لاشك أنه لن تكون هناك مشكلة إذا كانت كل المجموعات والإدارات في المناطق تتبع القيادة العليا - حفظها الله ذخراً للمسلمين وجعلها سبيلاً لتوحيد كلمتهم - ، فستنزل على أوامر القيادة العليا في ذلك ، ولكن المشكلة تكمن في أن تطور الأحداث قد يدفع بمجموعات جهادية لا تتبع القيادة العليا ، كذلك إذا أسلمت قيادات عسكرية في جيوش الردة ودخلت بوحداتها العسكرية في المعارك ضد الصليب والحكام العملاء وقد تتبنى اتباع الكتاب والسنة بشكل صادق إلا أنها لشهوة نفس أو ظن أنها أجدر بالقيادة قد لا تعطي بيعة للقيادة العليا الحالية بل وتطالب ببيعة وإلا تستقل بمنطقتها ، وقل مثل ذلك إذا تمكنت حركة إسلامية غير جهادية خدمتها الظروف والأوضاع من مثل ذلك بعد أن حركت قواعدها عسكرياً ، كذلك في أحوال أخرى قد يتعذر تحت ظروف شتى الاتصال بالقيادة العليا من قبل بعض الإدارات والمجموعات فكيف نضبط مثل تلك المسائل ؟
سأنقل تصوراً مبدئياً من بعض دراسات أهل التوحيد والجهاد إلا أن الأمر يتطلب أن يقوم من هم أهل لذلك بإعداد دراسة مستقلة موسعة لتأصيل ذلك الأمر ، فأعتقد أنه قد آن الأوان لذلك حتى لا يدهمنا الأمر فنتعامل معه بدون ضوابط.
في دراسة سابقة طُرح أنه عند اتحاد جماعتين جهاديتين أن يتولى الإمارة الأصلح قياماً بأعمال الجهاد والأكثر قدرة على تحقيق أهدافه كذلك ، جاء في مقالات بين منهجين : (.. على الحركة الجهادية أن تنظر لنفسها كوحدة واحدة ، ولأن طبيعة الصراع هو معركة ، فالقائد هو الذي استطاع أن يحقق هذه المكاسب ، أو أن يستفيد من الظرف الذي وقع له ، وعلى الآخر إن كان قديماً في وجوده أن يلتحق بهذا الأمل الجديد ، وأن يسانده ، بل إذا امتد الأمر وأخذ بعده المطلوب وجب عليه أن يكون جندياً لهذا القائد الجديد ، وعليه أن لا يأتي ليقول للناس : أنا الأول ، أنا السابق ، فالمسألة ليست للسابق بمقدار حصول الفضل الإلهي لأحد حصل له مقدمات مساعدة لم تحصل لغيره.. ) أ.هـ.
وأعتقد أن مدخل مسألة [ الفضل الإلهي ] هو نفس مدخل مسألة [ الأصلح ] ، ولكن لو تعارض ذلك مع مجموعة في عنقها بيعة للقيادة العليا للجهاد وكان الأفضل لها أن تدخل تحت إمرة مجموعة أخرى ليست تابعة للقيادة العليا فينبغي عليها أن تُفهم تلك القيادة أنها ستدخل تحت إمرتها بصورة مؤقتة لأن في عنقها وعنق كل أفراد مجموعتها بيعة للقيادة العليا وأنها طالما أنها متواجدة في الأرض أو المنطقة التي تقع تحت سيطرة المجموعة وتحكمها بالكتاب والسنة فهي تدخل في طاعة أميرها وتجاهد معه وتنصره في نصرة أحكام الشرع ، لحين خروجها للجهاد في أرض أخرى.
لا شك أن للمسألة جوانب أخرى ، خاصة أن كثيراً من أطرافها تأتي تحت باب السياسة الشرعية ، وتحتاج لتأصيل وتفصيلات تضيق عنها هذه الدراسة ، لذلك من خلال هذه السطور أطالب الراسخين في العلم من أهل التوحيد والجهاد إعداد دراسة تستوعب هذه القضية واحتمالاتها في الواقع قبل أن تدهمنا مشاكلها ، خاصة في ظل عدم وجود بيعة عامة حتى الآن ، نسأل الله العافية وأن يؤلف بين القلوب.
(((((((
الفصل التاسع
إتقان الجانب الأمني وبث العيون واختراق الخصوم والمخالفين بجميع أصنافهم
معركتنا طويلة ومازالت في بدايتها ، نعم ينالنا - بفضل الله - من العناية والرعاية الإلهية ما تُطوى لنا فيها بعض المراحل ، إلا أن ظواهر الأحداث وتطورها ينبئ بطول المعركة ، وطولها يتيح فرصة لاختراق الخصوم والمجاورين وتأسيس جهاز أمني قوي يكون أكبر دعامة لتأمين الحركة الآن والدولة فيما بعد ، فينبغي اختراق قوات الشرطة والجيوش والأحزاب السياسية المختلفة والصحف والجماعات الإسلامية وشركات البترول – كعامـل أو مهندس - وشركات الحراسات الخاصة والمؤسسات المدنية الحساسة.. الخ ، وقد بدأ ذلك بالفعل منذ عقود لكننا نحتاج المزيد في ظل التطورات الأخيرة ، كذلك قد نحتاج اختراق المكان الواحد بأكثر من عضو - لا يعرف بعضهم بعضاً أو العكس - لأدوار مختلفة أو نفس الدور إذا كان يحتاج لأكثر من عضو.
ستواجهنا في سبيل ذلك مشكلات منها أن اختيار العضو الذي سيقوم بالاختراق ينبغي أن يتم تحت الثقة بقدرته على الحفاظ على دينه داخل مجال قد يكون مليئاً بالمخالفات الشرعية أو الكفر في حين أنه يكون شخصية غير محروقة ولم يعرف عنه تدين سابق ، ومعنى ذلك أننا أحياناً قد نضع مسلماً حديث التدين فتصبح المعضلة أكبر ، ولكن أوضاعنا الحالية والمستقبلية أفرزت ظاهرة تحل هذه المعضلة ، وهي ظاهرة وجود شباب متدفق بأعداد كبيرة يطلب الجهاد بل يستعجل القيام بعمليات جهادية بل واستشهادية ونستطيع من قرائن الأحوال تبين صدق هذه النوعية من الشباب ، وطلبهم للاستشهاد تدل على حالة إيمانية جيدة تتطلب فقط صقلاً تربوياً وعلمياً أثناء الحركة ، بالطبـع سيتم توجيه أغلبهم لبرنامج جهادي وتدريبي يستوعب طاقاتهم وحماسهم ، إلا أنه يمكن توجيه بعضهم - تبعاً لنظرة وفراسة قادة المجموعات في سمات وقدرات هؤلاء - للعمل في الجهاز الأمني لاختراق تلك المؤسسات بعد تبيين أهمية ذلك وأن هذا الدور بمثابة عملية استشهادية بل قد ينتهي فعلاً بعملية استشهادية لتدمير الموقع المُخترق إذا كان جائز التدمير أو القيام بعملية تجاه بعض الشخصيات فيه إذا كانوا من فئة يجوز استهدافها ، مع وضع برنامج تربوي وعلمي فردي يحفظ عليه تدينه دون أن يتم كشفه ، وكلما زادت الضغوط عليه لتحركه الفعال في جمع المعلومات عمل البرنامج التربوي بجانب تلك الضغوط على رفع إيمانياته ، وفي الغالب يكون طريق الاختراق والوصول إلى مركز جيد لجمع المعلومات يتطلب وقتاً طويلاً ليتقن دوره بين المؤسسة التي يقوم باختراقها ، وفي ذلك يمكن ترك حرية الحركة للعضو بعد إعطائه برنامجاً طويل المدى للتحرك ونوعية المعلومات المطلوبة وكيفية تصنيفها وتأمينها لحين طلبها منه أو تعجله بإيصالها لوجود معلومات خطيرة لا تحتمل التأجيل.
لاشك أن اختبار المعلومات التي يتم الحصول عليها أكثر من مرة وظهور مدى دقتها وصدقها يوثق يوماً بعد يوم الثقة في ذلك العضو من حيث أمانته وقدراته ، خاصة أننا لم نكن نعرفه جيداً في البداية ، لذلك أيضاً فهو لا يُعطى إلا ما يحتاجه من المعلومات ولا يعرف إلا مندوب الاتصال من باب الحرص على العمل لأي ظرف من الظروف.
كذلك قد يفقد الاتصال بمندوب الاتصال لأي سبب كاستشهـاد ذلك المندوب أو انتقاله في ظروف قهرية لمكان آخر ونحو ذلك ، فعليه في هذه الحالة الاستمرار في عمله حتى تظهر مناطق للتوحش تديرها مجموعات المجاهدين فيقوم بزيارتها في ظروف طبيعية كزيارة أحد أقاربه مثلاً أو التجارة أو متخفياً ثم يتصل بالإدارة الظاهرة لتصله بمندوب من الجهاز الأمني فإذا كان له كود سري معروف به يبلغه له ، أما إذا كان غير معروف فيقوم بإعطاء ما لديه من معلومات للمندوب وينتظر رد الجهاز الأمني تبعاً لطبيعة المعلومات هل يستمر في جمع المعلومات أم يفر لمنطقة التوحش أو يقوم بعمل تدميري داخل المكان المخترق بنفسه أو بمساعدة مجموعة ستُرسَل إليه.
في الحالة السابقة قد تتأخر ظهور منطقة للتوحش في المنطقة التي يعيش ذلك العضو في نطاقها أو قريباً منها ويمارس دوره فيها ، وإضافة لذلك قد يضيق عليه الأمر والحال كأن يجد أن استمرار عمـله قد يؤثر على تدينه أو أنه على وشك الانكشاف ونحو ذلك ، فعليه في هذه الحالة الاستقالة من مكان عمله والعمل على الالتـحاق بالمجاهدين بالجبال أو حيثما يتوقع بصورة أو بأخرى ، أو إذا كان الأمر يسهل عليه فليقم بعمل تدميري لمكان عمله إذا كان جائز التدمير أو التخلص من عدو أو أعداء فيه ، ثم ينسحب إلى مكان آمن لحين التحاقه بالمجاهدين.
بالطبع في بعض الحالات يمكن اختراق بعض الأماكن دون أن يحدث تأثير على عمل العضو في مكانه داخل العمل العسكري أو الدعوي داخل الحركة أو المجموعة المجاهدة.
بالنسبة لاختراق الجماعات الإسلامية الأخرى بل والترقي في سلمها القيادي من خلال أفراد موثوق في تمكنهم من مدافعة الشبهات العلمية والشهوات ، ينتج عن ذلك فوائد كثيرة مختلفة ، وهناك حالات سابقة ناجحة ، وهناك إشكالية حرمة التجسس على المسلمين فكيف يمكن جمع المعلومات عنهم ؟ ، وفي هذا أعتقد بجواز ذلك تجاه الحركات التي تؤذي المجاهدين أو تتعامل مع الطواغيت ، أما اختراق الحركات التي لا تؤذي المجاهدين فلا يتم لجمع المعلومات ولكن لدعوتهم والتقرب منهم والاستفادة من تحويل مواقفهم في صالح الجهاد حال الأوضاع والمواقف الحاسمة.
بالطبع كل ما سبق تصور عام قابل للتعديل ، أما القواعد التي تنظم وتؤمن قيام كل الخطوات السابقة بدقة ، وتتناول جوانب أخرى لا تقل أهمية في بناء الأجهزة الأمنية وطرائق بث العيون وجمع المعلومات ، وعلى جانب آخر أساليب تأمين الحركة من الاختراق فعلى الدارس الرجوع لمذكرات الأمن التي تصدر عن المجاهدين ، كذلك موسوعة الأمن والاستخبارات الصادرة ضمن موسوعات الجهاد ، كذلك الحلقات التي تصدر تباعاً عن مجلة معسكر البتار ، بالإضافة للكتب العامة بالمكتبات إذا كان الدارس يستطيع كشف الأخطاء الشرعية التي فيها - خاصة في الأساليب - ، مع الحذر من الكتب التجارية التي ينفق الدارس الوقت في قراءتها دون الاستفادة من شيء أو يتعلم منها قواعد ساذجة وغير صحيحة.
(((((((
الفصل العاشر
إتقان التربية والتعلم أثناء الحركة كما كان العصر الأول
في دراسة سابقة نُشر مقتطفات منها - يسر الله نشرها كاملة - ناقشنا قضية التربية ، وبيَّنَّا فيها كيف تربى الجيل الأول بين الأحداث وسأنقل هنا بعض النقاط من هذه الدراسة فيما يرتبط بالجزئية التي نتناولها هنا :
أساليب التربية :
(1) التربية بالموعظة :
- أعظم العظات التي بثها الرسول عليه الصلاة والسلام في أصحابه كانت من كتاب الله سبحانه وتعالى ، البعض يجعل ذلك أسلوباً مستقلاً ويطلق عليه [ التربية بالقرآن ] ، وإن كنت أرى أن مفهوم التربية بالقرآن له خصوصية سنوضحها تجعلنا لا نقبل هذا التقسيم.
- ومما يدخل في [ التربية بالموعظة ] كذلك [ التربية بالقصة ] - البعض يجعلها أسلوباً مستقلاً - ، ومن القصص التي قصها رسول الله على أصحابه قصة الغلام والراهب ، وقصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة بالكهف وغيرها فضلاً عن القصص التي ساقها القرآن الكريم.
- ومما يدخل في [ التربية بالموعظة ] كذلك [ التربية بضرب المثل ] - البعض يجعلها أسلوباً مستقلاً - ، ومن الأمثال التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما جاء في الحديث الشريف " مثل المؤمنين في توادهم.. " إلى آخر الحديث , وغيرها من الأمثال فضلاً عن الأمثال التي ضربت للمؤمنين في القرآن.
(2) التربية بالعادة :
المقصود بها تعويد الأفراد على السلوك المراد تربيتهم عليه حتى وإن لم يتذوقوه كاملاً في البداية ، كما جاء الشرع بتعويد الصبيان على الصلاة والعبادة ، وهذا الأسلوب لا يقتصر على الصغار ، فإن القائد والمربي يمكن أن يمارسه مع الكبار كذلك ، بل كان بعض السلف يربون أنفسهم به.
(3) التربية بالطاعة :
رغم أن فعل الطاعات كالصلاة والصيام وبذل الصدقات يعتبر نتيجةً وهدفاً للأساليب السابقة إلا أنها أسلوب مثالي للارتقاء بالنفس البشرية.
(4) التربية بالقدوة :
إن رؤية النماذج البشرية المستجيبة لأوامر الله مهما كلفها ذلك ، والتي تبذل الغالي والنفيس من أجل دين الله ، تعتبر من أهم الوسائل في رفع مستوى الأفراد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه في زمنه ومن بعده أفضل القدوات لأمتهم وللناس في عهدهم ، بل وأفضل القدوات للناس في كل العصور ، حتى إن قادة الجيوش كانوا يطلبون مدداً كبيراً من الخليفة فيرسل لهم عدداً لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسالة أن الواحد منهم بألف مُعدِّداً أعماله ومناقبه ، وما أن ينتشر بين صفوف الجيش - وأغلبهم من سكان البلدان المفتوحة - سيرة هؤلاء حتى تدب في الصفوف روح جديدة من الإقبال على الطاعات بصفة عامة وطاعة الجهاد بصفة خاصة ، وتقديم الغالي والنفيس في سبيل ذلك ، وما كان ذلك إلا بسبب وجود هؤلاء القدوات بين الصفوف ، لذلك عندما يوجد بين صفوفنا رجال يبذلون الغالي والنفيس استجابة لأوامر الله - كل أوامر الله - سيكون هؤلاء أفضل طريق للارتقاء بصف الحركة المؤمنة وخاصة حديثي العهد بالعمل الاسلامي.
سعد بن أبي وقاص وقف يخطب في أهل البلد الذي عيَّنه الخليفة أميراً عليها فقال لهم مما قال : ( لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا طعام إلا ورق الشجر.. ) إلى أن قال : ( وما رأيت واحداً منا الآن إلا أميراً على مصر من الأمصار وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله وضيعاً ) - أو كما قال رضي الله عنه - فكان هؤلاء مثالاً وقدوةً ونماذج حية مبهرة للشعوب حديثي العهد بالإسلام ليمتثلون لأوامر الله ويبلوا بلاءً حسنا في معارك الفتوحات التي خاضوها وهم حديثو عهد بالإسلام ، كان الصحابة رضي الله عنهم قدوة ونماذج حية في الصبر والعزم والهمة العالية والشجاعة والتواضع مع العزة والقوة والعدل.
وبمناسبة ذلك كنت أتعجب من شبهة منتشرة بين عدد من فصائل الحركة الإسلامية - وإن كان مصدرها قيادات حركة الإخوان إلا أنها الآن تم نقل عدواها بين أكثر من اتجاه - تقول الشبهة : ( أننا نعمل الآن ولا نحتاج لمشاكل وجهاد وإنما نُعد لجيل الجهاد الذين هم أبناؤنا وأحفادنا.. ).
ونطرح على مبتدع تلك الشبهة ومقلديه - الفارِّ من تنفيذ الأوامر الشرعية - هذا السؤال :
أين النماذج البشرية الحية التي سيتخذها هؤلاء الأبناء قدوة ؟ فأنتم قدوة أبنائكم وإن قعدتم قعدوا ، وسيمارسون الجهاد في صورة [ النضال التنموي ] وسيتركون القتال كآبائهم.
(5) التربية بالأحداث :
إن المواقف التي تمر بالأفراد من أكبر المؤثرات لتشكيل وجدانهم ، عندما يكون يومك وحياتك هما سلسلة من المواقف العظيمة التي تتخذها أمام فتنة الغير - فتنة الولد والمال والزوجة والعدو - ، عندما ترتبط كل هذه المواقف على خصوصيتها بأحداث ضخمة تخطف اللب وتجعلك دائماً في صراع مع نفسك خشية السقوط أو تأنيباً لزلة أو سقطة وقعت فيها ، واستشعارك بارتباط كل جزء فيها بالآخر ، فما من زلة مع النفس أو المال ونحو ذلك إلا وتؤثر وقد تسبب في زلة وكبوة أمام العدو.
- لا شك في أهمية ما سبق من أساليب إلا أننا لو نظرنا بعمق إلى المنهج الرباني في الارتقاء بالجماعة المسلمة جعل من أسلوبين من الأساليب السابقة وسيلة لتفعيل أثر باقي الأساليب بل واستعمل المنهج الرباني هذين الأسلوبين في صياغة الشخصية المسلمة الصياغة المُثلى منذ أول يوم.. فما هما..؟
هما التربية بالأحداث والتربية بالقدوة :
فالأحداث والابتلاءات والفتن التي واجهها الأصحاب منذ أول يوم دخلوا فيه الإسلام ، والقدوات والنماذج الحية العملية التي ثبتت أمام تلك الأهوال هي التي أخرجت لنا هذا الجيل الفريد ، إن أثر الطاعات والعبادات التقليدية وأثر المواعظ بل وأثر القرآن تضاعف أثرها أضعاف مضاعفة في الارتقاء بالأفراد في وجود هذين الأسلوبين.
فالأحداث الرهيبة التي تلفت أنظار الناس وتعيشها الحركة المجاهدة وثبات نماذج بشرية أمام الأهوال الناتجة عن هذه الأحداث يرسخ معانٍ في القلوب لا يمكن أن يصل لها الأفراد في مئات السنين من التربية الهادئة.
إن تربية القرآن التي يظن البعض أنها كانت يمكن أن تعطي أثرها بمجرد التلاوة وتعليم الأحكام واستخراج العبر لتستقبلها النفوس وتعمل بما فيه لم تكن أبداً على هذه الصورة ، إنما نزل القرآن على النفوس وهي منصهرة وقبل أن يأمرها بالأوامر كان يحدثها عما يخالجها فكان أثره وفهمه له شأن آخر.
لذلك ينبغي علينا تعليم الناس أثناء الحركة ، واستغلال كل حدث لربط الناس بالعبودية والطاعة واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى.
ترى لو نزلت الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( لو نزلت هذه الآية على الأصحاب وهم في غرفة مغلقة أو جلوس داخل المسجد..؟ هل كان تأثيرها والاستجابة لها يكون مثل الاستجابة عندما نزلت على الأصحاب في غزوة بدر ، كيف لا يستجيبون وهم يرون بأعينهم آيات الله في القتال تتنزل وتمتنع إن هم خالفوا أمره فلن يرفع البلاء إلا الاستجابة لأوامر الله ، ومع كون الآية تقصد الجهاد كما جاء في التفسير إلا أنها عامة في أهمية الاستجابة لكل أوامر الله ففيها الحياة ، ترى لو نزلت آية تحريم الخمر أو آية وجوب الحجاب في غير جو المحنة والأهوال التي كانت تحيط بالمؤمنين ما مقدار الاستجابة ؟
ورحم الله سيد قطب فهو القائل : ( إن هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا للذين يخوضون به المعارك والذين يعيشون في الجو الذي تنزل فيه أول مرة ) , لذلك تنبه علماء السلف وأهل النظر الثاقب من المعاصرين إلى هذه القضية فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : ( من كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد.. ) وهذا شيخ الإسلام ابن القيم يجعل من يواظب على القيام والصيام والقراءة والذكر - وكل ما هو غاية أصحاب التربية الهادئة - ويعطل الجهاد والصدع بالحق من موتى القلوب وممن يمقتهم الله نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وهذا الشيخ محمد الأمين المصري يقول : ( أما القائلون كيف يمكن الجهاد والمسلمون مشتتون جاهلون بعيدون من معاني دينهم فجوابهم : علاج هذا كله بالدخول في ميادين القتال.. ) إلى أن قال رحمه الله : ( إن أعظم ميدان للتربية ميدان القتال.. ) ويقول : ( ثم إن تزكية النفوس وتربية الإخلاص في العمل يجب أن تتم في حقل الجماعة الإسلامية وفي ميادين الجهاد وهكذا كانت تربية المسلمين الأولين.. ) ويقول : ( إن النقطة الهامة التي نريد إيضاحها هي أثر الجهاد العملي في تربية الجماعة وفي نفوس أفرادها.. إن الأمة التي تواجه الشدائد وتكافح الصعاب ويعيش أبناؤها في جهد دائم وجهاد متواصل ، هي الأمة التي تستحق الحياة وهي التي يكتب لها البقاء والظفر.. ) ويقـول : ( كان الجهاد العملي لدى المسلمين الأولين مقترناً بالجهاد النفسي ، لم ينفك أحدهما عن الآخر لحظة واحدة ، وكان الجهاد العملي أكبر وسيلة لتربية المسلمين وإقرار المعاني السامية والمثل الرفيعة في نفوسهم ).
هذا الأسلوب التربوي بما يشمله من شدائد وأهوال هو الوحيد القادر على إخراج قاعدة صلبة قادرة على حمل أمانة الدماء والأموال والأعراض وقيادة العالم.
يقول صاحب الظلال رحمه الله : (.. الله - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته.. فحيثما أراد لها حركة صحيحة ، عرَّض طلائعها للمحنة الطويلة , وأبطأ عليهم النصر , وقللهم , وبطأ الناس عنهم , حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا ، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة.. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. ).
ويقول رحمه الله : (.. ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى.. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة , وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد.. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب.. وأهم من هذا كله ، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها ، وتتوارى الأوهام وهي شتى ، ويخلو القلب إلى الله وحده.. لا يجد سنداً إلا سنده.. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتتفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا قوة إلا قوة الله.. لا حول إلا حوله.. لا ملجأ إلا إليه.. والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.. (.. ).
يقول الشيخ محمد أمين المصري : ( ثم إن تزكية النفوس وتربية الإخلاص في العمل يجب أن تتم في حقل الجماعة الإسلامية وفي ميادين الجهاد وهكذا كانت تربية المسلمين الأولين.. عاش المسلمون في غزوة الأحزاب ثلاثين يوماً والعدو محيط بالمدينة من أطرافها وليل الصحابة كنهارهم حذر مستمر وسهر دائم والمسلمون يعانون من الخوف والجوع والعدو ما يعانون ، وهنالك في مثل هذا الجو المحاط بالرهبة المطبقة الذي تسلم فيه النفوس إلى بارئها وتفوض الأمور إلى مدبرها وتتيقظ الضمائر وتستيقظ العزائم ، يجد المؤمنون العون مصاحباً لا يفارق في الحركات والسكنات ، وفي هذا الجو الخاشع المخيف تتجلى معاني الإقدام في سبيل الله وتتضاعف قوة الإيمان وتمحص القلوب ، يتم كل هذا بما لا يمكن أن يتم مثله - بل جزء يسير منه - في مئات السنين في العزلة وفي أعماق الزوايا.
إن روح الإيثار تبدو في ساعات الشدة ، والمعاني الرفيعة تغرس في القلوب في الساعات التي تتعرض فيها الجماعات للأخطار ، والموت مخيم على الجميع بظله الرهيب.
وروح الصبر على الشدائد والجلد على المكاره , وروح الثقة بالله والإيمان به والإخلاص له وانتظار فرجه , وروح التعاون والتآزر ، كل هذه تبرز في ساحات الجهاد وفي صفوف المؤمنين الذين يقدمون أرواحهم خالصة لوجه الله.. وحياة القتال تلك الحياة التي يقدم المؤمن فيها المعاني الطيبة فيسهل الإيثار وتسقط الأنانية وتذهب الأثرة ، أما الدعوى مجاهدة النفس في حالات الرخاء والأمن والدعة فهي مشوبة بكثير من المغالطات.. ).
إن هذا النوع من التربية هو الذي سيخرج الجيل القادر على حمل أمانة هذا الدين وينقل الأمة للالتحاق بدرب الجهاد ، وهو الذي سيخرج من خلاله القادة الحقيقيون للأمة وذلك لأن الكلام على المنبر سهل وفي الصحف أسهل وفي الكتب أسهل وأسهل أما أن يُهدم البيت وتُشرد الأسرة وتمزق الأم والأخت إلى أشلاء فذلك لا يقدر عليه إلا الأفذاذ من الرجال ، والقيادات العظيمة والجنود الأشداء لا يخرجون إلا من مثل هذا الجو ، الأمة فقط تنتظر قائداً قادراً على اتخاذ القرارات الحاسمة الصحيحة ، لا يهاب المفاسد المزعومة مثلما فعل أبو بكر قيل له الكل ضدنا ، أمامنا المرتدون وأمامنا الروم والفرس فلا تنفذ بعث أسامة وإن كنت فاعلاً لكونه أمر نبوي فتألف مانعي الزكاة ممن لم يرتد صراحة ، فقال وقد أمسك بخناق عمر رضي الله عنهما : ( أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟ والله لو حدث من المفاسد أن جرت الكلاب نساء المؤمنين لأنفذن بعث أسامة ولأقاتلن من منع عقالاً ) هل تسلم أبو بكر القيادة لكونه عرض برنامجاً انتخابياً لم يُعرض برنامج مثله من الآخرين ؟ , وكيف كانت له القدرة على اتخاذ القرار الحاسم ؟ ألم تقدمه الأعمال في ميزان الوحي وفي قلوب وعقول الأصحاب ؟ أليس لأنه دفع تكاليف المسيرة كلها بجوار الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وخاض معه جل الغزوات مسيرة الدماء والأشلاء والجماجم ، مثل هؤلاء الرجال فقط هم الذين يستطيعون فهم القضية وتقدير الأمر والقدرة على اتخاذ القرار الحاسم الذي يقول عنه العسكريون في كتب الحرب : ( القرار الحاسم هو القرار الذي يحتمل وقد يُرجَّح من اتخاذه وقوع كارثة ولكن يجب اتخاذه لاعتبارات أخرى ولا يقدر على ذلك إلا القائد الحقيقي ) والأمة تنتظر مثل هؤلاء القادة ومثل ذلك القرار منذ سنين الذبح , وهؤلاء القادة لا يخرجون إلا عن طريق هذا النوع من التربية , وقد خرجت طلائعهم - والحمد لله - وننتظر المزيد بإذن الله وفضله.
في مثل هذا الجو سنتربى وتتربى معنا الأمة على مواجهة الأهوال العظام التي ترافق الحروب بصلابة وشجاعة ، ونحن وإن كنا تجرعنا بعض مرارتها مع الهوان الذي أصابنا ، في ظل فقه الهزيمة الذي أفرزته بعض الاتجاهات ، فقد آن لنا أن نواجه تلك الأهوال في صلابة وعزة عسى الله أن يأذن لنا بإيقافها يوماً ما ، في إحدى معارك الأفغان في مواجهة الروس قام الرجال بجمع النساء والشيوخ والأطفال في المسجد ليقللوا خسائر القصف فسقطت قذائف على المسجد فقتل جميع من فيه ماعدا طفلة بقيت في حجر جدتها التي انشق رأسها وتدلى ما بداخله أمام حفيدتها فجعل أحد المجاهدين العرب يهدئ في الطفلة التي تهذي من الذعر وهو يبكي فقال له الأفغاني : ما يبكيك ؟ قال له العربي : ألا تشعر ؟ إنهم أهلك وذووك.. قال الأفغاني : هذه هي الحرب وأنا وأنت سنمضي مثلهم في يوم ما.
وما قلناه عن رفع المستوى الإيماني نقوله عن رفع المستوى العلمي ، والمتتبع لأسباب نزول الآيات ومناسبات أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن الآيات نزلت والأحاديث قيلت - سواء في مكة أو المدينة - في ظل أحداث رهيبة فهي إما قبل البلاء أو المعركة أو أثناء البلاء أو المعركة أو بعد البلاء أو المعركة ، بل إن بعض الصحابة قد تعلموا مسائل في العقيدة أثناء المعركة ، مثل مسألة كيف يدخل الرجل الإسلام ؟ كما حـدث مع أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قتل من نطق بالشهادتين ، ومثل مسألة ذات الأنواط ، وفي مثل ذلك الجو ترسخ المعاني لذلك علينا جعل هذه الأجواء التي تمر بتجمعاتنا وأمتنا فرصة للارتقاء علمياً بالأفراد والناس.
ما أريد قوله من كل هذا أن الارتقاء بالناس إيمانياً وعلمياً هو أحد أهم أهداف مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ومرحلة إدارة التوحش ولن يتم في جو أفضل من جو وحرارة هاتين المرحلتين ونسأل الله الثبات والمغفرة.
كما أن حرارة الأحداث هي أفضل بيئة للتربية كذلك تدفع لنا كل يوم أفواج الشباب ليلتحقوا بقوافل الجهاد ، وها نحن نرى بلاداً في آسيا كماليزيا وأندونيسيا وكبلدان الاتحاد السوفيتي السابق ، وقل مثل ذلك عن مدن كالفلوجة وغيرها ، يخرج من تلك المواقع كل يوم أنصار للجهاد ، هم من جانب لا يعرفون هيئة كبار العلماء ولا تلك الأوضاع التي شكلت انحراف الشباب الملتزم في بعض أقطار العالم العربي ، وهم كالصفحة البيضاء تدفعهم الفطرة والعاطفة الصادقة لنصرة الدين ، نعم قد يكون لذلك أثر سلبي كعدم الانضباط الشرعي ، لكن هذا هو دورنا أن نملأ هذا الفراغ ، فهذا الشباب لن يترك الجهاد بفضل الله ، فقد وجد فيه فطرته البشرية ، وسيتلقى التوجيه من أي قدوة ونموذج حي للجهاد ، ومن نعم الله علينا أن القدوات المعاصرة المتمثلة في القيادة العليا للجهاد ومن حولها من القيادات منضبطون علمياً ، وحولهم لجان علمية وشرعية على أعلى مستوى ، فما علينا إلا أن نوصل توجهاتنا إلى هذا الشباب ، على أن يتم إعداد منهج علمي وتربوي للارتقاء بهم أثناء الحركة والقتال ، لعل الله أن يخرج لنا من بينهم قادة هداة فاتحين بفضله ومنته.
مع ملاحظة أن بعض هذه الأماكن كأندونيسيا وماليزيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق لها جذور حركات إسلامية ومرجعيات علمية إلا أن هذه المرجعيات - خاصة المخلصة منها - تتطلع منذ زمن إلى العالم العربي مهد الإسلام منتظرة قيادات علمية جهادية تتبعها ، والشباب بفطرته النقية هناك يتوق إلى عبق تأريخ الإسلام العظيم ، فقط ينتظر من يوجهه ويحدد له حركته وبمن من الأعداء يبدأ.
يُراجع في مسألة التربية :
- كتاب [ سبيل الدعوة الإسلامية ] وكتاب [ من هدي سورة الأنفال ] وهما للشيخ العلامة محمد أمين المصري رحمه الله.
- كتاب [ الظلال ] تفسير آيات الابتلاء وآيات الغزوات خاصة الأحزاب.
- كتب وشرائط الشيخ عبد الله عزام رحمه الله بصفة عامة.
في خاتمة المبحث الثالث ننبه لما يلي :
- لقد تعمدت تكرار خطة العمل في هذا المبحث والمبحث الذي قبله أكثر من مرة ، وذكرت ملامح لها من أكثر من جانب وذلك حتى يكون لدى قارئ هذه الدراسة تصور واضح للعمل القائم وأهدافه ، وأحب أن أنبه أن ذكر ملامح الخطة من أكثر من جانب قد يوهم القارئ سريع القراءة أن الخطة غير واضحة ، ولذلك لن يتمكن من استيعابها من القراءة السريعة ، لذلك على القارئ أن يقرأ بتركيز وتأنٍ ويتنبه إلى اختلاف تفاصيل العمل في مناطق مجموعة الدول الرئيسية عن تفاصيل العمل في مناطق باقي الدول ، وأن مناطق الدول الرئيسية تعمل بخطة مقسمة إلى مرحلتين تنقلهم لمرحلة التمكين ، وخطوات المرحلة الأولى مختلفة أحيانا عن خطوات المرحلة الثانية ومتشابهة أحيانا أخرى ، بينما مناطق باقي الدول تعمل على نظام مرحلة واحدة في الغالب حتى يأتيها الفتح والتمكين من خارجها - بإذن الله - إلا أنه لا شك أن خطوات عملهم تتأثر بالتطورات في مناطق الدول الرئيسية.
- أننا مهما أتقنا هذه القواعد ومهما أتقنا عملياتنا وحصدنا نتائجها ، فيجب ألا يصيبنا العُجب أو الغرور يوماً ، فما نحن فيه من فضل فمن الله وحده ، ومن تأمل حقيقة حالنا لعلم ما نحن فيه من ضعف وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله ، فما علينا إلا أن نسدد ونقارب ونأخذ الأسباب المُستطاعة ونتوكل في كل ذلك على الله وحده فهو مولانا ولا مولى لنا غيره ، والذي لو وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لهلكنا ، حتى أني عندما كنت أسمع خبر بعض العمليات كنت أتحسب بقدر ما أقصى أهداف من اتخذ قرار العملية إلا إني كنت أفاجأ بعد ذلك أن نتائج العملية بفضل الله فاقت كل التوقعات وأكبر مما كانت تتخيله المجموعة المنفذة أو المخططة لها ، فالحمد لله أولاً وآخراً الذي وفق رجال التوحيد والجهاد في عملهم لنصرة دينه وأنجح هذه الأعمال وبارك في نتائجها ، وأنبه أني أحياناً أسمع أو أقرأ لبعض الشباب عبارات أو مواضيع فيها شيء من العُجب بالأعمال أو الكبر وذلك محمود إذا كان من باب العزة على الكفار أو أهل الإرجاف أما لو كان غروراً أو عجباً أو كبراً محضاً فأعيذ شبابنا أن يقع في هذا.
- طريقنا طويل وشاق وما زال فيه الكثير والكثير من العمل والتضحيات ويحتاج لقدر كبير من العطاء والبذل ، ولنتذكر بذل وعطاء الصحابة رضوان الله عليهم وكيف أنهم بعد هزيمة أحد وكانوا مازالوا يدفنون شهداءهم ومازالت الدماء على ثيابهم قد استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لملاحقة القوم في حمراء الأسد فما قال أحد منهم ذرنا نرجع لبيوتنا نُبدِّل ملابسنا ونهيئ حالنا ، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا ولا استكانوا وإنما نفير وراء نفير وبذل وراء بذل وهمم طالت قمم الجبال حتى نالوا ما أرادوا من عز الدنيا والآخرة ، ونزل فيهم قول الله تعالى وقتها : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (.
ووالله لكأني أرى المجاهدين يُمكن لهم في بلاد المغرب - خاصة في الجزائر - فإذا منَّ الله عليهم بذلك في صباح ذلك اليوم القادم - بإذن الله - فلا وقت للراحة فلا يصلِّينَّ أحدهم العصر إلا في تونس على حدود ليبيا وليبدأوا في صباح اليوم التالي في التأهب لفتح ليبيا ومصر ، والعدو يعرف دفعة أعمالنا جيداً ، حتى أن وزير خارجية تونس قال للصحفيين عام 93 : ( لا يغرُّكم ما عليه هدوء الأوضاع والسيطرة عليها في تونس فإذا حدث تغييـر في الجزائر أو مصر فسيحدث تغيير في تونس بعد ربع ساعة ).
ووالله لكأني أرى المجاهدين يُفتح لهم في جزيرة العرب فإذا منَّ الله عليهم بذلك في ذلك اليوم القادم - بإذن الله - فعليهم التأهب مباشرة للانطلاق لفتح الدويلات التي تحكمها هذه الأنظمة الحقيرة في الأردن والخليج ، وبإذن الله بخروج أمريكا من العراق سيسقط ما تبقى من هالتها الكاذبة وستسقط كل الأنظمة التي تدعمها وسينقض الشرفاء في هذه الدول يأخذون حقوق الأمة التي سلبتها هذه الأنظمة العميلة ، وستفتح شعوب هذه الدول ذراعها للفاتحين بفضل الله ومنته ، فما كان الله ليضيع بذل الباذلين وإنما هو الصبر واليقين.
( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (.
(.. وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (.
ثم بعد ذلك تتوجه الجموع بعون الله لتحرير القدس وما حولها وتحرير بخارى وسمرقند والأندلس وجميع أراضي المسلمين ثم ننطلق لتحرير الأرض والبشرية من هيمنة الكفر والظلم وما ذلك على الله بعزيز ، وتلك بشارة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(((((((
المبحث الرابع
أهم المشاكل والعوائق التي ستواجهنا وسبل التعامل معها
في هذا المبحث نتناول أهم المشاكل والعوائق التي ستواجهنا ، وسنجد بإذن الله أن أغلب هذه المشاكل والعوائق تنحل تلقائياً طالما اتبعنا القواعد والأسس التي أشرنا إليها في المبحث السابق ، فقط علينا توجيه عملنا إلى حلها بدون تغيير آلية تحركنا على القواعد المشار إليها في السابق والله المستعان.
(1)
مشكلة تناقص العناصر المؤمنة
في بداية الحرب الأفغانية في سبعينات القرن الفائت مر بالجهاد فترات عصيبة حيث وُجِّهت للمجاهدين عدة ضربات حتى تبقى منهم - في إحدى الروايات - ثلاثون رجلاً ولكن بعد ذلك وعلى مدار أكثر من عشر سنوات في مواجهة النظام ثم في مواجهة النظام والروس قدَّم الجهاد هناك مليون ونصف مليون شهيد - بالطبع منهم أعداد كبيرة من الشعب المسلم مات تحت القصف - فمن أين أتت هذه الأعداد ؟ الإجابة أن ذلك حدث من خلال جر الشعب إلى المعركة وتجييشه ، خاصة عندما نقيم مناطق آمنة من الفوضى والتوحش الناتج عن القتال ويهاجر الناس إلى تلك المناطق ، نستطيع أن نجعل من هذه المناطق ساحات للدعوة والتدريب والتعليم فنحقق النتائج المثالية بالتربية التي لا تكون مكتملة إلا إذا تمت خلال المعركة فمن خلال جو المعركة سيتأهلون بل ويتفوقون على أساتذتهم ، يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله : ( والحركة الإسلامية وهي تعلن قرارها بالمواجهة المسلحة في وجه داود - الرئيس الأفغاني - لم يكن بوسعها يومئذ أن تتملى في خيالها مجرد تصور هذه القمة السامعة التي بلغتها بالجهاد المبارك ) وقال : ( لقد كان البون شاسعاً بين تلك الأيام التي كان يرسم فيها المهندس حبيب الرحمن الشهيد - الأمين العام للحركة - الكلاشنكوف على الأوراق ثم يشرحه في أعماق الغرف الظلماء للذين يربيهم على حب الجهاد وبين هذه الأيام التي يلعب فيها الأطفال بالقاذف الصاروخي [ آر.بي.جي ] الذي يحطم الدبابة ).
(((((((
(2)
مشكلة نقص الكوادر الإدارية
تلحق بالمشكلة السابقة مشكلة أخرى ألا وهي حاجتنا لعدد كبير من العناصر ذات الخبرة الإدارية خاصة في الفترات الأولى لمرحلة إدارة التوحش ، نعم نحن عندنا خبرات سابقة من إدارة مجموعاتنا التنظيمية إلا أنه عند نزولنا إلى المناطق لن تكون عناصرنا الإدارية كافية من حيث العدد لإدارة هذه المناطق بأعدادها السكانية التي ستفاجئنا ، إن مناطق التوحش ينبغي أن تدار بأيدينا وأيدي الناس الذين يعيشون فيها ، وحتى نوضح أكثر هذه النقطة سنتحدث عنها من خلال الشبهة الأم التي تدور في أذهان بعد الشباب.
كنا في وقت وظروف تبعث على اليأس وتولد الشبهات التي تدفع إلى إيثار السلامة وتجنب البلاء - وما أُبرئ نفسي أسأل الله الثبات - قال لي وقتها أحد الأخوة : إن هذا الطريق لن يصل بنا إلى أهدافنا ، هب أننا خلعنا الأنظمة المرتدة اليوم ، من سيمسك وزارة الزراعة والتجارة والاقتصاد.. الخ ؟
فقلت له بعفوية أبو سفيان وعكرمة و.. فما فهم قصدي وتركته يفكر فيها ، ولعلي وقتها قد أجبته إجابة ناقصة ، وتمام الإجابة أن سؤاله وشبهته قائمة على فرضية أن المعركة ضربة خاطفة وذلك لأمر قد يتعلق بفهم قاصر للجهاد ، كذلك قد يكون لدخن في دوافعه التي جاهد من أجلها نسأل الله العفو العافية لنا جميعا وأن يغفر لنا..
إن القيادات تبرز من خلال المسيرة الطويلة - مسيرة الأشلاء والدماء والجماجم - وثانياً : لا يُشترط أن تعد الحركة المجاهدة متخصصاً في الزراعة والتجارة والصناعة ، حتى أن المشاهد يرى أن الحركات والأحزاب التي تتسلم الحكم في العالم تحكم من خلال عناصرها السياسية فتعينهم وزراء من داخل الحزب أو الحركة لإدارة الوزارات المختلفة ، ولضبط السياسة العامة لكل وزارة بما يتفق مع السياسة العامة للدولة ، أما الذي يدير التقنيات في كل وزارة فيمكن أن يكون موظفاً براتب لا اهتمام له بالسياسة ولا ينتمي للحركة أو للحزب ، والأمثلة في ذلك عديدة وشرح ذلك يطول.
بل والأهم أنه يوجد للمشكلة حل أفضل من ذلك ألا وهو أن نقترب من الناس ، قد نُعين منهم في إدارة المنطقة التي نديرها أفراداً لإدارة بعض الأعمال برواتب وأجور في حين سيجدون رجالنا يعملون بجانبهم بدون أجر ، يجب أن يروا منا مثالاً للصبر والزهد والبذل والتضحية ، مثالاً للعدل وإنصاف المظلومين ، المظلومون في مجتمعاتنا هم الأكثرية ، لنفتح مجالس لرد المظالم السابقة على وجودنا بحيث يأتي المظلوم بالبينة فنأخذ له حقه أو نسعى بينه وبين من ظلمه ونرغبه للعفو وهو قادر مخير لإنصاف نفسه ، نؤلف بين قلوب الناس ندافع عن الضعفاء والمظلومين وهم الكثرة نقول لهم أرواحنا فداء لكم لأنكم أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، نتواضع للخلق مع القوة والعدل ، نعم ستواجهنا أهوال ومشاكل يثيرها الأعداء والمنافقون لكن في هذا الجو سترون الأعاجيب ، فعندما تهب ريح الإيمان تأتي بالأعاجيب ، عندما يرى الناس روائع الشجاعة واليقين والعفة والأمانة وروح التطوع والاحتساب والتواضع في المظهر مع كبر النفس وسمو النظر وعلو الهمة ستهون في أعينهم كل الأهوال التي ستصاحب ذلك ، والله سترون مجموعات للمجاهدين يأتيها الشباب والرجال أفواجا من المناطق المجاورة والبعيدة للبيعة والتوبة وأكثر من ذلك.
يجب أن نتعرف كيف نعيش مع طبقات الناس ماذا نفعل إذا طلبوا ذات أنواط ، ماذا نفعل إذا ارتكبوا بدعاً أو محرمات ، لو شربوا الخمر مثلاً ، متى نعاقبهم وبأي قدر ومتى نتألفهم وبأي قدر ؟ يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله : ( إن المعركة التي عركت أبناء الحركة الإسلامية اضطرتهم أن يعيشوا مع جميع طبقات الشعب ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( .. واضطرارهم للحياة مع جميع طبقات الناس من مفرط ومقصر ومخطئ ومتعثر وصادق وملتزم أعطاهم من التجربة والخبرة والحنكة من خلال المعاناة المريرة في رفع المستويات ومحاولة إيجاد التناسق بين هذه المستويات المتباينة التي تعيش في قاعدة واحدة وتواجه عدواً واحداً خلال عشر سنوات متواصلة في حياة واحدة تحت ظل سقف واحد تجمعهم مائدة واحدة ويتحركون حركة واحدة كأنهم جسد واحد.. بينما الدعوات الإسلامية في كثير من أقطار العالم الإسلامي تعيش في مجتمعات خاصة نظيفة لا تلتقي مع سائر طبقات الناس الإيمانية إلا في المحافل والندوات والخطب والاجتماعات ) كذلك قادتنا ستطور خبراتهم يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله : ( كل واحد من هؤلاء - يقصد رحمه الله قادة الجهاد - مفروض عليه أن يجد حلاً للمشاكل الاجتماعية ولقضايا الجفاف التي تعض المنطقة بنابها ، وعليه أن يوجد حلاً لقضايا الجراح التي لا تكف عن النزيف ولمشاكل الأيتام والأرامل ، ولا بد أن يبحث عن وسيلة لإيجاد مخرج لمئات الألوف من الأولاد الذين لا يعرفون القراءة ، فلا جرم أنه مضطر لفتح بعض المدارس ولو في كهوف الجبال أو تحت الشجر ، فكل واحد منهم إنما هو حكومة قائمة بذاتها.. فهو رئيس الوزراء ، وفي نفس الوقت فهو وزير الصحة والتربية والتعليم والدفاع والشؤون الاجتماعية والزراعة والإعلام والإرشاد , إن القادة قد تمرسوا على الحكم خلال فترة الحياة بين فكي الموت وإذا كان بعض العسكر قد وصلوا إلى الحكم من خلال البيان الأول في الدول العسكرية الثورية دون أن يعرف عنه سابقة حكم ولا صبغة إسلامية ولا نشأة حركية ولا ذكاء ملموس ولا خلق آسر أخاذ , أفلا يستطيع هؤلاء القادة الحكم ؟!!.. ).
يقول أحد الصحفيين الغربيين بعدما التقى بعض القيادات الشابة من الأفغان في التسعينات : ( كنت أحسبهم شباباً أغراراً جهلة متهورين يعشقون القتل ، ولا يفهمون غير ذلك وعندما جلست معهم فوجئت أن الواحد منهم وإن كان لم يتعدى الرابعة والعشرين يملك من الاتزان والحكمة السياسية ما لا يملكه أعضاء الكونجرس المخضرمون في أمريكا ) - ذاك كان معنى كلامه -.
(((((((
(3)
مشكلة الولاء القديم لعناصر الإدارة
( خاصة لاتجاهات إسلامية أخرى )
عند حدوث الفوضى واشتعال الجهاد وخلو الفراغات سنجد أحزاباً وجماعات إسلامية وغير إسلامية تسعى لركوب الموجة واستغلال الموقف ، وهنا احتمالان.. الأول : أن تتمكن هذه الكيانات من إدارة بعض المناطق ، وقواعد التعامل مع تلك المناطق قد ذكرناه في المبحث الثالث خاصة ما يخص تفهم قواعد اللعبة السياسية كذلك ما يتعلق بالاستقطاب ، الاحتمال الثاني - وهو ما يواجهنا في هذه المشكلة - : إذا كنا ندير منطقة ونطوع أفراداً كانوا كوادر سابقة في جماعات أو أحزاب إسلامية للمشاركة في الإدارة أو الجهاد وإعطاء الولاء للإدارة.. بداية : نحن لم نؤمر بالتفتيش في قلوب الناس أو امتحانهم ، الذي يعطينا الولاء نتولاه الولاية الكاملة ، إلا إذا أظهر في كلامه أو أحواله استمرار ولائه مع تنظيمه السابق أو تبنى بعض القضايا أو المفاهيم لذلك الحزب.. فلنا هنا وقفة : فمثلاً لو وجدناه يتصل بقيادات في جماعة مثل الإخوان أو تيار إرجائي فنسأله : هل تعتقد ما يعتقدون في دخول المجالس البرلمانية الشركية أو عدم الكفر بالطاغوت ؟ فإن قال نعم أو على جانب آخر بدون أن يعلن ولاءه لتلك الجماعات ولكن يناقش الأخوة بأن إذا عرضت علينا قوات الأنظمة من حولنا الدخول في ائتلاف أو مثلاً إقامة استفتاء أو انتخاب ونحو ذلك فكل ما سبق - في الجانبين - داعٍ لنا لفصله من الصف ، نعم : قد لا نستطيع إنزال حكم عليه بسبب مانع التأويل إلا أننا لا نقبل في صفنا هذه النوعيات ، بل ينبغي منعه من المجاهرة بهذه القضايا وإثارتها في مجتمع التوحش بكل وسيلة مشروعة وتبعاً لخطورة ما يثيره.
وفي مشكلة شبيهة بهذه المشكلة يقول الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر فك الله أسره : ( عند اشتعال الجهاد في مكان ما تواجه الحركات الإسلامية مشكلة ارتفاع أصوات الجهاد عند القواعد - خاصة من لم تتلوث كامل فطرتهم - فيسمحوا لهم بالجهـاد إلا أن المشكلة موجودة في ذلك الرجل الذي يكون معك في التّنظيم وهو يرقب إشارات المشايخ وفتاويهم من خارج السّرب فإن هذا النوع من الشباب خطير جداً ومُذهِب للقوة والريح لدى أي تنظيم من التنظيمات في أي ظرف من الظّروف.. ).
إلا أن الشيخ ينبه كذلك أن الذي يأتي من هؤلاء في مراحل البلاء والعسر عددٌ لا يُخاف منه في الغالب : ( نعم هذا أمر لا يُخاف منه - وأعني لحوق أفراد عديدة من جماعات البدعة معك بالجهاد في وقت الفتنة والابتلاء - فإنّ هذه القواعد لا تلتحق بك لصعوبة هذه القنطرة ، ولكن يُخاف حين يكون للجهاد الصَّوتُ العالي والمدُّ الشَّعبيُّ الواسع ، فإن مشايخ هذه التنظيمات قد يسمحون لأفرادهم بالجهاد وقد يسكتوا عنهم فحينئذٍ يكون هذا المحذور الذي نتكلَّم عنه.. ).
(((((((
(4)
مشكلة الاختراق والجواسيس
من نعم الله علينا أن حركتنا الكثيرة والأهوال التي نخوض تكشف لنا أولا بأول العملاء في صفوفنا بينما الحركات التي لا تواجه الأحداث والبلاء والقتال والقتل من الممكن أن يعيش العميل في صفها السنوات الطوال بل ويرتقي ليصل إلى أعلى المناصب فيها دون أن يشعر به أحد ، أما حركات التوحيد والجهاد فنبئوني عن ذلك العميل الذي يقبل أن يشارك في عملية قتالية ويُعرِّض نفسه للموت - والتعرض للموت واحد من أهم عناصر الترقية في الحركة الراشدة -.
إلا أن وجود الجواسيس قد يتأتى عند اتساع الحركة خاصة عند اختلاطنا بالناس في مجتمعات المناطق التي نديرها ، ولكن إذا أحسنَّا علاقاتنا بالناس فيصعب أن يخرج منهم من يتجسس علينا بل سيكونون خير عين ودرعاً لنا ووقاية من الجواسيس ، فضلاً عما ذكرنا في السابق من إتقان بث العيون واختراق الخصوم مما يتيح لنا التعرف على الجواسيس ورصدهم أولاً بأول خاصة إذا وصلت عيوننا إلى المؤسسات الأمنية للعدو ، كذلك يجب أن يترسخ بين الناس عن طريق إعلامنا التوعية بحكم التجسس وموالاة أعداء الله في الدنيا والآخرة وأجر موالاة الله ورسوله والذين آمنوا.
وقواعد كشف الجواسيس موجودة بالمذكرات الأمنية التي يصدرها المجاهدون عادة.
ولكن ما نريد أن نؤكد عليه أن اتباع قاعدة الشدة التي ذكرناها في المبحث السابق يدخل في مجال استعمالها معاملة الجواسيس فمن يثبت عليه التجسس بالبينة يجب معاملته بما يكون رادعاً لأمثاله وإذا كان فاراً فيجب تعقبه وعدم تركه حتى ولو بعد سنوات ، ويجب إعلان أنه سينال عقابه ولو بعد سنين طويلة ، مما سيجعل ضعاف النفوس يترددون في فعل ذلك كثيراً ، كذلك ينبغي إصدار بيان كل فترة وأخرى - خاصة بعد الكشف عن جاسوس ومعاقبته - بفتح مجال التوبة لمن يتقدم مختاراً بالاعتراف بأنه تحت ضغط معين أو زلة معينة تعامل مع العدو ، مع ترويج أن ذلك حدث ليصل ذلك الخبر للعدو بصورة أو بأخرى - حتى وإن لم يحدث حقيقة - مما سيربك العدو وجواسيسه لشكِّه فيهم.
كما يجدر التنبيه أن اتباع الشدة والغلظة وعدم الرحمة مع من يثبت - بيقين - القيام بهذا العمل في حقه قد يستنكره محبو المجاهدين ممن لم يمارس الجهاد عملياً تحت دعوى التركيز على أئمة الكفر وعدم إهدار الجهود على أغمار العدو من صغار الجند والمخبرين والمرشدين وقد قرأت بعض ذلك ، وهؤلاء أصابوا في جانب وغاب عنهم جوانب , فقد أصابوا في جانب عدم إهدار الجهود في استهداف صغار الجند ، اللهم إلا إذا كان لغرض [ تكتيكي ] وبدون خسائر مقابلة ، إلا أن استهداف المخبرين والمرشدين لا يدخل تحت هذا الباب , وذلك لأن كبار القادة والضباط لمباحث العدو وجنده لا يستطيعون التحرك بدون هؤلاء - سواءً في بحث المهمة أو تنفيذها - ، فهم لا يستطيعون التحقيق في قضية أو نزول منطقة لتنفيذ عملية مداهمة أو اعتقال أو هجوم على موقع بدون هؤلاء المخبرين والمرشدين ، والعمل على إفناء هؤلاء يشل حركة ضباط العدو تماماً ، بل والعمل على إفنائهم بمنتهى الغلظة والبشاعة يردع من يحاول أن يفكر في القيام بمثل ذلك ، مع أهمية التغطية الإعلامية لنشر الأمر وتبريره للناس وأحياناً لتبريره فقط ،كما أسلفنا عند الحديث عن دور الإعلام ، وذلك إذا كنا سنعلن المسئولية عنه.
إحدى المشكلات التي تلحق بمشكلة الاختراق والجواسيس أنبه عليها هنا لأهميتها وغالباً ما تقع في مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ].. وهي : عندما يقع أحد المجاهدين في الأسر - نسأل الله العفو - ( سيأتي في المقالات الملحقة بالدراسة أهمية وأسباب القتال حتى الموت وعدم الوقوع في الأسر ) وبعد الضغط عليه وتعذيبه يضطر للكلام وأحياناً يريد تضليل المباحث فيقوم بذكر اسم أخ أو إخوة لا شأن لهم بالجهاد ، يزين له الشيطان ذلك تحت مبررات شتى ، منها أن ذلك أخف الضررين وأن المباحث لن تحصل من هؤلاء الصنف على شيء ، وأن ذلك سيؤدي إلى تنبه المقصودين وأخذهم احتياطاتهم ، وأن المباحث ستتركه بعد ذلك وستكتشف الحقيقة ، وإذا اعتقل لعل ذلك يُعرفه ظلم وكفر النظام ويتعرف بالإخوة بالسجن وينضم للمسيرة بعد خروجه..! بعض هذا قد يحدث بالفعل إلا أن هذا غير مبرر ليفعل ذلك الفعل فهو أولاً : قد أوقع الإيذاء والظلم على مسلم بل وليس له علاقة بالموضوع.. ثانياً : أحياناً يكون عند ذلك الأخ - الذي لا شأن له بالجهاد - معلومات مهمة أو غير مهمة ولكنها تصلح لأن تكون خيوطاً للمباحث - وذلك أحد أسباب أخذهم الشباب بالجملة عند نزولهم منطقة ما - كذلك قد يتطوع هذا الأخ حنقاً على ما فعله المجاهدين به بإفشاء أمور عرفها بالمصادفة قد تكون من ورائها أضرار خطيرة ، كأن يكون شاهد بعض المجاهدين يترددون على مكان ما أو مسكن ونحو ذلك ، وهذا الأخ في الغالب تكون حياته أثناء التحقيق وفي السجن إذا لم يفرج عنه مأساة له ولمن حوله ، والقصص والمآسي في ذلك كثيرة ، وأحيانا تخرج هذه النوعية من السجون فيصبحون عيونا على الأخوة الذين كانوا السبب في مأساتهم ، والمباحث في الغالب يتبين لها حقيقة أن هؤلاء لا علاقة لهم بالجهاد إلا أنها تستغل ما حدث لأغراض عدة ذكرنا بعضها هنا ، بل في أغلب الحالات لا يذكر المجاهد الأسير جاره الملتزم بأي شيء ولكن خبثاء المباحث يقومون بالقبض على الجار وادعاء أن المجاهد اعترف عليه بأشياء للتحريش بينهما ، ولاحتمال أن يدلي الجار في هذه الحالة - تحت ضغط الاتهام والحنق على من يظن أنه افترى عليه - بمعلومة لم يكن ليدلي بها في الظروف العادية.
لكل ذلك يجب أن يبتعد الأخوة عن ذلك الأسلوب خاصة أن فيه ظلم للناس الذين نجاهد لرفع الكفر والظلم عنهم ، بل ينبغي ألا يستسلم مجاهد للأسر أصلاً , بل يقاتل حتى الموت ولا يقع في الأسر ، بل يجعل من تلك المقاومة مجزرة للقوات المداهمة.
(((((((
(5)
مشكلة التفلت أو الانقلاب من أفراد أو مجموعات أو مناطق بأكملها تغير ولاءها
كيف نتفهمها ؟ وكيف نتعامل معها ؟
جاء فيما سبق بمبحث القواعد أن هناك بعض من مناطق التوحش ستقع تحت سيطرة إدارة عشائرية أو أحد التنظيمات المسلحة من بقايا الأنظمة - بعد أن قطعوا صلتهم بالأنظمة - ، أو تنظيم لأحد الأحزاب ونحو ذلك ، وإننا تغليباً لحكم الإسلام سنعاملهم على أنهم مسلمون ، وعلينا مراسلتهم والتأكيد على أمور وبيان أهميتها ألا وهي أن يحكموا بينهم بالشرع والدخول في الولاء - أي تبادل الولاء والنصرة - والاتحاد أو مقدمة للاتحاد ، وأحياناً قد يفعلون كل هذه الأمور أو قد يكتفون فقط بتحكيم الشرع فيما بينهم لاعتبارات لديهم ذكرناها فيما سبق ، ثم حدث بعد ذلك أن نكثوا عهودهم ودخلوا في أمر كفري كتحكيم قوانين طاغوتية اختياراً أو الدخول في موالاة الكفار والمرتدين ، فأولاً علينا تذكر أن ذلك الانقلاب والنكوص من طبائع النفوس وأن ذلك لا يطعن في أمير أو قائد قد قَبلَ هؤلاء القوم من قبل وضمهم إلى الصف أو لم يحترز منهم وذلك لأننا لم نُرسل على البشر حافظين ، ومن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه وما ندري ماذا يفعل بعد ذلك ، فهذا الصديق رضي الله عنه جاءه رجل - الفجاءة - وطلب منه رجالاً وأموالاً لقتال المرتدين ، فأعطاه مالاً وجعله أميراً ، فإذا به يصبح قاطع طريق يقتل المسلمين والمرتدين ويأخذ أموالهم حتى أنه أغار على أقوام جاءوا يبايعون أبا بكر ، وقد حرقه الصديق رضي الله عنه بالنار بعد ذلك كما جاء بالأثر ، فما كان ذلك ليطعن في بصيرة الصديق ومعرفته بالرجال والأحوال وهو خير البشر بعد الأنبياء ، بل وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه أقوام وعين منهم من عين عمالاً وأمراءً على قومهم ثم بعد وفاته ارتد منهم من ارتد ، وجروا قومهم معهم إلى الردة وقتل منهم من قتل في حروب الردة - كافراً - ومات واستشهد في تلك الحروب جمع من القراء ، فهل يُسأل بشر عن ذلك ؟ وهل كان رسـول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من بعده حفيظاً على الناس ؟! ، هذه هي طبيعة البشر ، والله يريد أن يعلم منا - علم حدوث - حال الثابتين الذين يحبهم ويحبونه ويجزي الشاكرين الذين يواجهون الأهوال والخطوب بصبر ويقين.
ووالله إن هذا الطريق بمرارته وأحداثه سيكشف لنا أسرار آيات في القرآن لو عشنا عشرات السنين نقرأ تفسيرها في الكتب ما اكتمل إحساسنا بها وفهمنا حقيقة معناها تمام الفهم بمثل أن نخوضها عملياً أثناء ترتيلنا لها أو سماعنا لها في الصلاة ، طبعاً مع تعلم تفسيرها من كلام أهل العلم.. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (.
وما علينا في هذه الحالة أن نواجه ذلك بما يتناسب مع قوتنا وقوتهم ، فأولاً أصبحت الإدارة التي تشرف على هذه المنطقة مرتدة وأهلها الخاضعين تحت سيطرتها مسلمون ما لم يدخلوا في أمر مُكفر طوعاً ، ويُعرف ذلك بقرائن الأحوال والحكم عليهم عن طريق الراسخين في العلم كما ذكرنا في السابق ، قرائن الأحوال والأوضاع كذلك نستطيع معرفتها عن طريق عيوننا ومن أعطانا الولاء في السر ممن يعيش في هذه المنطقة.
إذا كان كيان إدارة هذه المنطقة المنتكسة إدارتها قوياً فهي حرب نحضر لها بما يناسبها ، وإذا كان ضعيفاً فعلينا إرسال من يستأصل زعماء الشر فيهم قبل استفحال أمرهم ، مما يسهل بعد ذلك سقوط هذه المنطقة واحتمال دخولنا لإدارتها.
وفي معالجة رؤوس الشر الصغيرة قبل استفحال أمرها - خاصة عندما نصل لمرحلة إدارة التوحش لمناطق عدة - يقول الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر في ذلك : (.. وقد كان بمقدور الشّباب المسلم أن يعالجوا الشيخ الضال الحبشي برصاصةٍ رخيصة الثّمن في لبنان من بداية أمره ، ولو فعلوا لكان الآن أثراً بعد عين ، ولكن هذا الحبشي وأمثاله الآن قد اشتدّ عودهم وقويت شكيمتهم حتّى صاروا أكبر من معالجتهم بالأبحاث والدّروس ، وأهل السنّة في هذا الزّمن من أبعد الناس عن الأخذ بالطريق السنني لمعالجة مثل هذه الانحرافات ، ولا يعالجونها كما عالجها الصحابة رضي الله عنهم ، فأمثال هذه الانحرافات وهؤلاء الشيوخ يجب القضاء عليهم بالذّبح في بداية أمرهم ، وهم لا شهرة لهم ولا حساً ولا خبراً ، ولكن أهل السنة الآن وللأسف يعالجون عامة مشاكلهم بالتّباكي ويبدأ صراخهم على الأمور بطريقة جنائزية كأنهم في محفلٍ كربلائي شيعي.
ولعل هذه الفقرة وإن كانت لا تدخل في صلب موضوع الأحباش لكن لا بدّ من معالجتها ولو بطريقة عابرة ، تكشف لنا عن عمق الخلل في التنظيمات والأحزاب والتّجمّعات التي تنتمي لأهل السنّة ، فلو أخذنا مثلاً جمال عبد الناصر وجماعـة الإخوان المسلمين لرأينا مثلاً صارخاً لما نقول ، فماذا كان يحتاج عبد الناصر ليُقضى عليه وينتهي أمره وهو في بداية أمره ؟ الجواب : لا شيء.
ولو سألنا عن علي عبد الله صالح الحاكم اليمني الآن ، وقدرة الحركة الإسلامية على القضاء عليه في مظاهرة التصويت على الدستور ؟ لو قضي عليـه لن يبكي عليه أحد ، ولن يذكره أحد ، وهو الآن سيشتدّ عوده ، وسيجعل الحركة الإسلامية هناك في اليمن في الأيام القادمة من مقبِّلات ومشهِّيات طعامه.. والأمثلة كثيرة كثيرة ، وهذه الأمثلة هي التي تبين أن أهل السنّة يخافون الدماء ، ويتّقون إراقتها فزعاً وخوفاً تحت باب المصلحة ، ولكنهم بعد حين يدفعون الثّمن غالياً وأضعاف أضعاف ما اتّقوه وخافوه ، ورضي الله عن أبي بكر الصديق حين استنفر الصحابة لقتل المرتدّين واجتثاثهم من جذورهم قبل أن تقوى شوكتهم ، وتتهيأ لهم أحوالهم.
ولنعلم أن الكفار هم الآخذون حقّاً هذه الأيام بهذه السنّة القدريّة ، إذ أنهم يعالجون رموز أعدائهم بالقتل والإفناء ، وهم يعملون بقاعدة [ الكبار لهم القبور والصّغار ينسون ] ) أ.هـ.
وما نريد أن ننبه عليه كذلك أنه أحياناً - ونستعيذ بالله من ذلك لنا ولغيرنا - قد يحدث الانتكاس في عمق المجموعات المقاتلة فما ينبغي لنا أن نستغرب أو نتعجب من ذلك ، والوقاية من ذلك أن تعمل كل مجموعة على أن تقارب وتسدد ، فلا ينبغي لها أن تتشدد فيما يجوز فيه التيسير ، أو تتراخى فيما ينبغي أخذ الأمر حياله بقوة ، ويجب أن يكون توكلها دائماً على ربها ولا تغتر بنتائج أو قوة منهج أو كثرة أتباع وأنصار فما صحة وقوة المنهج إلا أثراً من آثار الكتاب المنزل والسنة ، وما كثرة الأتباع والأنصار كانت لتحدث لولا أن الله ألف بين القلوب ، وما النصر إلا من عند الله ، ولو شاء الله لما تحصل لها شيء من هذا.
(((((((
(6)
مشكلة التحمس الزائد عن الحد وملحقاتها
( كالتعجل بالعمليات أو الحماقة أو الغلو )
التعجل بالعمليات : بالنسبة للتعجل فعلاجه التفهم والجلوس مع الشباب وتوضيح السياسة العامة للعمل وأهمية التريث في بعض مراحل المعركة لاستنزاف العدو مثلاً ونحو ذلك من الاعتبارات ، نبين لهم أن هذا الأمر لا يسلم إلا لمن يكون ثقيلاً كالجبال الذي لا يخضع لاستفزاز العدو بسهولة ، نعم لا ينبغي أن يكون المؤمن بارد الحس ويجب أن يغضب لله ويتحرك للدفع عن الحرمات بكل قوة إلا أنه ينبغي أن يعلم متى وكيف يتحرك حتى يحقق ما يريد ، وكذلك نبين أهمية السمع والطاعة خاصة في الأمور التي لا نستطيع كشف الحكمة من ورائها لسريتها ، والتركيز على المواقف الكثيرة للسيرة النبوية في ذلك ، وأننا لا نفعل ذلك تراخياً ولا ضعفاً ولا نكوصاً وإلا لما أعلنَّا الجهاد أصلاً ، وأننا نعمل على المقاربة والتسديد ما استطعنا والمحافظة على جذوة الحماس من خلال معارك تحقق النكاية في موضعها ووقتها ، فمدخلنا لذلك غير مدخل القاعدين ، كذلك يمكن تفريغ شحنات الحماس الزائدة عند هذه النوعية في النافع من الأعمال ، مع توضيح أهمية وخطورة أي عمل داخل في منظومة العمل الكلية وأهمية إتقانه مهما ظهر للناظر من صغر حجمه وعدم أهميته وذلك لأنه يغلب على نفسية بعض هؤلاء المتحمسين الرغبة في الأعمال الكبيرة خاصة القتالية ، وتلك سمة جيدة تدل في الغالب على الهمة العالية إلا أنه من مضارها أنها قد تدفعهم إلى الاستخفاف بما دونها من الأعمال مما قد يوقعهم في الفتور أو القيام بتلك الأعمال بدون إتقان.
إضافة لكل ما سبق أنه إذا أحسنَّا اختيار قادة العمل بحيث يكونون محل ثقة الأفراد كلما قل من يخرج عن أمرهم بأمر متعجل ونحو ذلك.
أما الغلو : فعلاجه الأساسي العلم وكلما تم رفع المستوى العلمي للشباب كلما تم الحد من هذه المشكلة ، أو على الأقل وجود كادر علمي متمكن في كل منطقة لدحر هذه المشكلة في مهدها.
أما من يصر على أسلوب العجلة أو إثارة قضايا الغلو فيجب استبعاده من الصف مع عدم قطع الموالاة ، ومعاملته بما يناسب نوع غلوه وقدره وبما يناسب ما يصدر منه ، ومنعه من إيقاع الضرر بالمجموع بما يناسب من السياسة الشرعية في مثل ذلك.
الحماقة : أما المتحمس التي تصدر منه تصرفات حمقاء وعُلم بالفراسة أو بالقرائن أن علاجه غير ممكن فهذا يجب استبعاده تماما من الصف خاصة في مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] لأنه قد يؤدي إلى كوارث ليس لمجموعة يعرفها فقط ولكن لمجموعات وتقع بسببه مشاكل لا حصر لها ، والتجارب في ذلك يعرفها كل من تعامل مع هذه النوعيات ، ومن ذلك أن بعض القضايا الكبرى التي تتناقلها الصحف ووسائل الإعلام تكون في حقيقتها أن أحد هؤلاء الحمقى تخيل خطة لعملية كبرى - على قدر تقديره - غالباً غير صالحة للتنفيذ بالمرة - وقام بكتابتها على الورق ووضعها في درج مكتبه..!! ، ولأنه في الأصل كثير الكلام والعلاقات تأتي المباحث إلى بيته للتفتيش فتعثر على الورقة التي عليها رسم المخطط الخطير..! وتطير بها وتبدأ معه التحقيقات ويبدأ هو - تحت الضغط - بذكر أسماء لا رابط بينها بعضها أحياناً ممن لا صلة لهم بالجهاد بل أحياناً من العوام ، إلا أنه أيضاً بسبب علاقاته المتعددة وثقة البعض به لحماسته يكون على معرفة ببعض الأفراد في مجموعات جهادية عدة فيدل عليهم ، وتتسع القضية بمجموعات جهادية لا صلة بينها واتهامات وقصص جديدة ، ويتم نسج قضية من ذلك الـ لا شيء وغالباً ما تعلم المباحث أن هذه القضية مفبركة إلا أنه يتم تقديم العشرات للمحاكمة وتتناول وسائل الإعلام قصصهم الوهمية طبعاً تصدر أحكام بسجن طويل عمن له صلة بالجهاد وتُدخر أحكام البراءة للعوام ومن ليس لهم صلة بالجهاد من الملتزمين بعد أن يكونوا قضوا فترة المحاكمة - أحياناً أكثر من عام - في السجون ، والقضية وأحكامها كلها متفق عليها بين المباحث ومحاكم أمن الدولة وما أحكام البراءة فيها إلا ليُثبت الكلاب للناس أنهم أهل عدل ، وأحيانا يُحكم على بعض من لا صلة له بالجهاد من العوام أو الملتزمين بأحكام سجن بالخطأ أو لغرض خبيث من المباحث وكل ذلك من جراء الحلم الذي كان يحلم به ذلك الأحمق والذي في الغالب يأخذ حكماً مخففاً أو براءة فهو فخ جيد لهم بالخارج بدون أن يقصد - نحن لا نرضى له أو لغيره السجن بالطبع -.
في حالة أخرى طُلب من أحد هؤلاء أن يقرأ أوراقاً ورسائل معينة ثم يقوم بحرقها , ولكنه لم يحرقها وأخفاها جيداً ، وعندما تم تفتيش بيته أثناء عشوائيات المباحث تم الوصول للأوراق وتم فتح قضية بل قضايا كبيرة وحقيقية هذه المرة ، وعندما قيل له - في السجن - لماذا لم تحرق الأوراق ؟ قال : لم تطاوعني نفسي أن أحرق أوراق بخط المشايخ والقادة..!!
القصد : الحمقى - خاصة الذين لا علاج لهم - يجب استبعادهم من الصف في مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ] خاصة.. ولتتذكر أخي الكريم دائماً تلك الأبيات وتطبقها أفضل من أن تسمعها كنشيد يترنم به الأخوة حولك خلف أسوار السجن :
لا تصحبن الأحمق
عدو سوء عاقل
لا يحفظ الأسرارا
وربما تمطى
وربما نظر
كفعل ذاك الدب
يروي أولوا الأخبار
عمائم الشمقمق
ولا صديق جاهل
ولا يخاف عارا
فكشف المغطى
أراد نفعاً فأضر
لخله المحب
الخ الأبيات...
هذا بالنسبة للحماقة في مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ، أما في مرحلة إدارة التوحش فيمكن تلافي أضرار الحماقة بتفريغ شحنة الحماس التي يحملها من فيه ذلك الداء في أعمال كثيرة لا ضرر من إشراكه فيها على رجال الإدارة أو الناس في منطقة الإدارة ولكن يجب الحذر من محاولاته التطلع أو المشاركة في أعمال لا شأن له بها.
(((((((
المبحث الخامس
الخاتمة
هل توجد حلول أخرى أيسر من ذلك الحل ؟
قد يتساءل البعض هل توجد حلول أخرى أيسر من ذلك الحل الصعب وأحقن للدماء ؟ وقد يطرح البعض شبهات حول ذلك الحل كذلك وفي تلك الخاتمة الهامة سنناقش ذلك.
بداية أود الإشارة إلى ملاحظة هامة وهي أنه لا توجد طريقة فاسدة أو شبهة واهية إلا ومجرد تصورها في الذهن كافٍ لتبين فسادها دون الحاجة للنظر إلى الدليل - إلا أن الأصل متابعة الدليل الشرعي -.
يطرح البعض حلولاً سلمية - كالانتخابات والاقتصار على الدعوة السلمية - ويطرح الأكثر عقلاً حلولاً تستخدم القوة من خلال ضربة خاطفة سريعة تنهي كل شيء في وقت قصير دون إراقة الكثير من الدماء ، وتلك الضربة تتم على ضربين تبعاً لمنهجية القائم عليها وطريقة تفكيره ، فيطرح البعض ضربة سريعة عن طريق انقلاب عسكري ويطرح آخرون ضربة تتم بعد إعداد سري لا يعلم به أحد - وهو في حقيقته لا إعداد لأن الذي لا يعلم به أحد هو اللاشيء - ويطرح البعض الضربة الخاطفة عن طريق تربية طويلة سلمية تتم تحت أعين الطواغيت يتم خلالها تكوين المؤسسات الإسلامية السياسية والاقتصادية والعلمية الشرعية والتقنية.. الخ ثم بعد ذلك تتم الضربة الخاطفة من خلال هذه المؤسسات ، ويطرح بعض الرقعاء أن يقوم بالضربة أبناؤنا وليس نحن - ولا أدري كيف سيقاتل الأبناء وهذا حال الآباء ؟! -.. القصد : ( ابتداءً علينا أن نعلم أنّ النّصر الكبير الضّخم مجموعة من سلسلة انتصارات صغيرة ، ولا يمكن أن يقع شيء في مجال النّصر والهزيمة بصورة طفرةٍ مفاجئة تباغت المنتصر أو المهزوم ، إذ الطّفرة التي لا مقدّمة لها لا وجود لها إلاّ في عقول مشايخنا وقادتنا فقط ، فإنّهم يحملون في كلّ ما يقولون ويرتّبون لضربة يحضّر لها تحضيراً تامّاً وكاملاً ، بعيداً عن أعين الخصوم وبهذه الضّربة المفاجئة المباغتة نقضي فيها على الخصوم ، وبها نتجنّب الكثير من الدّماء التي تراق ، والأرواح التي تزهق ، ومشايخنا يدندنون على هذه الفكرة كثيراً ، وعلى ضوئها يتراجعون عن الصّراع تحت شعارات التّربية والإعداد ، وهذه الفكرة تجد صدىً وقبولاً في النّفوس ، لأنّها جميلة جدّاً ، ورائعة جداً ، وورديّة جدّاً ، وهي مع ذلك كلّه هشّة جداً جداً ، أمّا أنّها جميلة وورديّة ، فكيف لا تكون كذلك وهي تقدّم للإسلاميين النّصر والعزّة والسّؤدد على طبق من ورد ؟ ثمّ كيف لا تكون ورديّة وهي من صنع أوهام الحالمين ، والحلم عندما يختلط في ذهن المرء مع الحقيقة فإنّه لا يناقش مناقشة العقلاء والأذكياء.
إنّنا نحلم بترتيب رفيعٍ جدّاً لشوكةِ التّمكين دون المرور بشوْكة النّكاية ، وهي الشّوكة التي يقع فيها : ( إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ ( ، ويقع فيها : ( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ( ، وهذا مع عدم إمكانيّة حدوثه فإنّه يفرز ولا شكّ فِقهاً أعوجَ ، وأحكاماً فاسدة ، وما هذا الفقه الذي نسمعه من مشايخنا من جواز التّعدّديّة السّياسيّة ، وجواز التّداول على السّلطة ، وعدم جواز الجهاد الهجومي ، وجواز تولّي الكفّار المناصب السّياسيّة والعسكريّة والقضائيّة في الدّولة الإسلاميّة إلاّ بسبب هذا الحلم الفاسد الناشئ عن تُخمةٍ مردّها خلط الأفكار غير المتجـانسة ، وتفسير هذا : أنّ واقعنا بسبب عوامِل البناء الشّيطانيّ فيه قد امتلأت جوانبه بالشّرور ، وأصابت الأمل الإسلامي بالإحباط ، فحين يأتي الشّيخ ليعالج هذا الواقع بهذه التّركيبة بأحكام فقهيّة ، فإنّ هذه المعالجة وعلى ضوء هذا الواقع ستجعله يتنازل عن كثير من [ تشديدات السّلف ] - كما يسمّيها - إلى [ ميوعات الخلف ] - اعتدالهم كما يسميها - وهذا لأنّه تمّ له التّمكين دون تحضير أرضية التّمكين بما يناسبها ، وهذا التّحضير لا يقع إلاّ من خلال شوكة النّكاية..).
هذا مع تقدير أن حركة التغيير الجذري التي نقصد وبطريقتها السننية التي أوضحناها يصعب التنبؤ والتحكم بنتائجها المرحلية ، لأنها حركة تشترك فيها كل عناصر الوجود وهي ( من أعقد ما يجابه الإنسان في حياته ، وأنها من أصعب وأعوص ما يعتري البشر في حركة حياتهم ، فحركة التغيير هي حركة تختلط فيها الحياة بأسرها ، وتتقاطع بدايتها حتى يخيل للمرء أنه في دوامة من الأمواج لا يحسن تمييزها أو الفصل بينها ، وهي بحق كذلك ، فألوان الطيف متداخلة مع أنها متباينة ) ، فكيف لعقولنا القاصرة أن تدرك كل شيء وتتوثق من النتائج المرحلية ، فـ (.. المسلم لا يعلم الغيب لكن إن قُدِّر لبعضنا أن يعيش ويرى الثّمرة النّهائيّة وهي تسقط على أصحاب الفضل الإلهيّ سيدرك أنّه ما من حركة قام بها أهل التّوحيد والجهاد إلاّ وكانت لبنة في البناء النّهائيّ : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (.. ) ، فما علينا فقط إلا التزام الأوامر الشرعية آخذين بالأسباب المشروعة ما استطعنا وننتظر وعد الله بالنصر والتمكين ما دمنا ثابتين لم نُبدل.
قد يقول قائل سنطبق طريقتك السابقة مع الحل المطروح في الدراسة فنقلب الأمر عليك ، أي أن هذا الحل عند تصوره في الذهن يثبت فشله.. أقول : أولاً : لقد قلت أنه بالإضافة إلى أن الحلول الأخرى يكفي تصورها في الذهن - كما سنفصل أكثر - ليحكم العقل على فسادها إلا أنها أيضاً في الأصل تخالف الأوامر الشرعية في كثير من تفاصيلها ، بينما الحل الجهادي المثالي لم يستطع أحد طرح دليل شرعي - يستحق النظر والتوقف - لنقضه ، خاصة أننا لا نقول إنه حل من الحلول بل نقول إنه فريضة شرعية. هذا ، وثانياً : التجارب التأريخية والمعاصرة للمسلمين وغير المسلمين - وذلك لأن كلمة دولة لفظ كوني وكل الدول حتى الديمقراطية قامت بعد بحور من الدماء - تثبت نجاح هذا الحل الذي طرحناه ، بل إن كل مرحلة لهذا الحل تسلم للأخرى طبقاً لحالات مماثلة تأريخية بل ومعاصرة ، فهو ليس استنتاجًا ذهنيًّا ابتداءً ، وأي إخفاق في حالة سابقة راجع لخلل في الأخذ بالأسباب الكونية والشرعية مما أدى لتخلف هذه الحالة ، ولا يرجع الأمر لخلل في الحل نفسه الذي هو فريضة شرعية أيضاً كما قلنا.
أغلب الحركات الإسلامية تستبعد ذلك الحل لأنه شاق ولا يقدر على اتخاذ القرار باتباعه في بدايته إلا قلة ، وهم لا يعترفون بذلك فيتعللون بحجج ما أنزل الله بها من سلطان أو يرفعون شعارات خادعة ، وكان يجدر بهذه الحركات ألا تجمع بين كذب وهزيمة ، فلو صدقوا مع أنفسهم لقالوا : ( إن الطريق طويل ، والأشواك كثيرة ، والجمر لا تستطيع أرجلنا تحمله ) ، لذلك فأزمتنا أزمة صدق في أصلها للأسف.
وجدت من أحد المتخصصين في الدراسات السياسية - والذي انتقل أثناء فتنة التسعينات في مصر إلى جانب التيار السلمي - مقالاً يعيب فيه على حركات الجهاد دعوتها إلى عسكرة الحركة الإسلامية - لأن الحركة الإسلامية في مجملها في نظره حركة دعوية - قلت : وماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه ألم يُعسكرهم - بأبي هو وأمي - ؟ من أعلم منه بالسنة الشرعية والكونية ؟ ،كيف لا والله سبحانه وتعالى يأمره كما جاء في الحديث القدسي في صحيح مسلم : " قاتل بمن أطاعك من عصاك " ، إن الدعاة بالمعنى المصطلحي اليوم كانوا معروفين بالاسم كمصعب ومعاذ والقراء رضي الله عنهم أجمعين ولكن أغلب الأصحاب كانوا مجاهدين بل حتى الدعاة كانوا مجاهدين شهداء ، ومع كون أكثر الأصحاب كانوا مجاهدين إلا أننا يمكننا أن نطلق عليهم خير الدعاة إلى الله ، على اعتبار أن جهاد الطلب هو سبيل نشر الدعوة للأقوام من خلفنا بحرية وفاعلية وجهاد الدفع هو سبيل تحرير الدعوة لبني قومنا ممن يحتلنا من الكفار أو المرتدين وما يقومون به من التشويش لجعل الدعوة غير فعالة الأثر.. فيا له من دين يتفق مع السنن الكونية لو فقهناه..
إن دور الدعوة في مرحلة البدايات هي جذب القلة الممتازة ، أما استجابة الناس فبعد التمكين وبعد نصر الله والفتح ، وذلك لأنه إذا أنصت الناس للدعاة دخلت الدعوة إلى قلوبهم ، ألا ترى أن النفر من الجن الذين استمعوا إلى القرآن فلما أنصتوا لم يستجيبوا فقط بل انطلقوا منذرين ودعاة.. لذلك يقوم الطغاة من خلال شغل الناس عن الإنصات بجميع أنواع الملهيات حتى لا يستجيبون.
ولذلك لا تعجب أن أحد الصادقين من الدعاة كان يقول : ( كل ما أبنيه في عام تأتي راقصة فتهدمه بظهورها على التلفاز ) لذلك ما كان دين الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل يأمرنا بأوامر لا تأتي من ورائها نتائج ، لذلك أمرنا الشرع بإزالة تلك العوائق والملهيات أولاً حتى يسهل استجابة الناس.
إن مقدار الاستجابة للصادق الأمين صلى الله عليه وسلم تفوق مقدار الاستجابة لأي إنسان أو داعية من دعاة اليوم فقد كان الرجل الكافر بمجرد أن ينظر إلى وجهه عليه الصلاة والسلام يقول ما هذا بوجه كاذب ويؤمن به ، وكان عليه الصلاة والسلام مؤيداً بالوحي ينصره ويوجهه ويرد له على كلام وشبهات الكفار بأبلغ ما يكون مما يفهمه المدعوون ، حيث كان بلغتهم التي يفهمون مدلولاتها جيداً ، وكان يحارب كفراً يمكن أن يستجب أهله للإيمان سريعاً مقارنة ببعض الأفهام الآن فلو قيل لرجل منهم ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( ونظر لصنمه الذي صُنع من الحجارة لكان من السهل أن يستجيب ولكن لم يستجب الناس لرسول الله ولم يحصل على كثرة ولكن لما دعاهم مع هؤلاء القلة والسيوف خارج أغمادها استجابوا فما بالنا ونحن ليس معنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضوان الله عليهم ، ونحارب فكراً مرتداً يدَّعي الإسلام فالاستجابة فيه تكاد تكون معدومة ، أو أدياناً وأفكاراً كافرة تدَّعي أن الإسلام يقرها وأنها قمة التطور الفكري المتقدم للإنسانية المعاصرة ، والعدو يضع بيننا وبين الناس حواجز رهيبة تحول بيننا وبينهم ، وهذا هو منهاج الملأ الكافر على مر الأزمان ، فما بالنا نظن أنه يمكن الاستجابة والحصول على كثرة أو المحافظة على القلة في ظل هذه الظروف.
هؤلاء الذين يقولون الارتقاء عن طريق بناء المؤسسات تحت رعاية الطواغيت ، نسوا أو تناسوا أن الطواغيت يتناقلون الخبرات فإذا كانوا لا يسمحون بنوَّاب لا قيمة لهم في برلمانات صوريـة ، فكيف سيسمحون بمؤسسات وقوى وأعداد من الشباب داخلها ، ما الذي يمنع الطاغوت بعد فترة ليفبرك قضية قلب لنظام الحكم أو حتى يتبجح دون حياء ويسميها [ جمع تبرعات لفلسطين والشيشان ] ، ويترك باقي الأرقام العددية - التي لا قيمة لها بغير فكر ومنهج عملي قتالي - لتتلقفها ملهيات الحياة ليأتي الجيل الذي بعدهم يبدأ من جديد ويدور في نفس الحلقة المفرغة لا قدوة له في الجهاد ليجاهد كما يحلم البعض ، هذا إذا كان سيرثهم جيل ملتزم أصلا..!
لذلك عندما تستمع إلى هؤلاء عن توقيت إعلانهم للجهاد تسمع الأعاجيب ، لأنهم يخططون لبدء القتال في مرحلة يمتنع وجودها قدرًا بدون قتال يسبقها..!! ، وهم إن كانوا يدركون ذلك فهذا دليل على سوء الطوية واستمراء القعود لأنهم يدركون أنه لن يأتيَ اليوم الذي سيجاهدون فيه.
هذه الحلول تُطرح للمحافظة على مكاسب هزيلة كبقاء مؤسسة خيرية تحت رعاية طاغوت ، أو ليهنأ بضعة آلاف من الملتزمين في التزام هادئ دون منغصات ومشاكل وبلاء ، هذه الحلول محصلتها إخماد جذوة الحماس والشعلة الإيمانية المتقدة في القلوب المسلمة هذه الأيام ، وهي فرصتنا التي قد لا تتكرر ظروفها المهيأة إلا بعد زمن طويل ، وحينها سيخوضها جيل آخر بنفس المسيرة التي تحدثنا عنها مع مفارقة أنهم سيوجهون لنا اللعنات على ما ضيعنا من العمل ، هذه فرصتنا التي إذا ضيعناها سيضيع أجيال من المسلمين في حمأة التحاكم للمحاكم القانونية الطاغوتية والغرق في الشهوات المتلفزة وباقي شهوات الحياة التي يسر الطغاة سبلها للكبير والصغير ولعله يُختم لأغلبهم بالموت على فسق مغلظ أو كفر مغلظ - بغض النظر عن أحكام الدنيا - ، في حين لو هلكت الأمة عن آخرها في هذه الحرب فهم شهداء كأصحاب الأخدود وذلك إحدى الحسنيين ولا شك ، وكما قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله : ( لو اقتتلت البادية والحاضرة حتى يذهبوا ، لكان أهون من أن ينصِّبوا في الأرض طاغوتاً يحكم بخلاف شريعة الإسلام التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.. ).
الطغاة يخططون ويتآمرون للاستمرار في إذلال ونهب الأمة وإخماد الجهاد وشراء الشباب والحركات لذلك علينا جر الجميع إلى المعركة ليحيى من حي على بينة ويهلك من يهلك على بينة ، علينا أن نجر الجميع الحركات والشعوب والأحزاب إلى المعركة ونقلب الطاولة فوق رؤوس الجميع ، وبتكتل مجموعاتنا , وحسن تنظيم وتنسيق انتشار مجموعاتنا , وتولي بعضنا لبعض , ونصرة بعضنا لبعض من أقصى الأرض إلى مشرقها , وبتفرق أعدائنا , وتفرق مصالحهم وغاياتهم , سنكون نحن القوة الوحيدة - بإذن الله - التي تستطيع أن تفرض حكم الشريعة وتأخذ حقها وحقوق البشرية التي يتلاعب بها طواغيت الكفر والردة ، فعلينا أن نحرق الأرض تحت أقدام الطغاة فلا يطيب لهم بالعيش إلا بالتوحيد وإنصاف المظلومين أو نهلك دون ذلك.
إن الذين أتعبتهم رقابهم وهم ينظرون إلى حضارة الشيطان المعاصرة تصور لهم أذهانهم العليلة أن دولة الإسلام المنتظرة هي دولة ممثلة في الأمم المتحدة وتتعايش وتتبادل المصالح مع جيرانها ، والحقيقة أن دولة الإسلام تقوم على أنقاض كل ذلك ، ونحن بفضل الله أعلم بالسنن الشرعية والكونية ونأمل أن يتغمدنا الله برحمته ويكلأنا برعايته حتى نبلغ آمالنا التي هي وعد حق وصدق ، (.. إنّها الوعود الإلهية ، إن أخطأَتْ بعضنا فهي واقعة لا شك فيمن ثبـت على الطريق ، وواصل المسير ، ولم تُضعفه الأيام والشهور ، بل ازداد ثباتاً ويقيناً ، وما شدة الصعوبات إلا دليلٌ على صواب الطريق.. ).
الانقلاب العسكري :
بقي حل قد ينجح كوناً بصورة جزئية وذلك لأن عناصره ناقصة فينتج عنه نتائج ناقصة لا تلبث أن تنتكس ، وهو حل يمكن القيام به كجزء مكمل لحركتنا لكن لا تُبنى عليه أساس الدولة الإسلامية كما حدث من العبد الصالح فيروزٍ الديلمي رضي الله عنه مع الأسود العنسي ، وهذا الحل هو الانقلاب العسكري ، نعم هو حل يأخذ بجانب من السنن وقد يقيم دولة للقائمين عليه كأفراد لكن يصعب استمرار هذه الدولة على صورة إسلامية متكاملة إلا إذا كان هذا الحل جزءً من خطط وأعمال الحل السنني المتكامل الذي طرحه البحث ، فقد كانت حركة أبي فيروز الديلمي رضي الله عنه جزءً من حركة الجماعة المسلمة ولم تكن عماد التحرك لها.
يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله : ( إن الذين ينتظرون من حفنة من الضباط أن يقيموا لهم دين الله في الأرض وهم يصدرون الأوامر للناس عن طريق البيان الأول في الإذاعة بعد معركة لا آلام ولا معاناة فيها ، تسبقها مراحل من السرية والمداهنة وكتم الحق ، هؤلاء يظنون أن إقامة المجتمعات وتغيير النفوس والأشخاص والقلوب وبناء الأرواح وصقلها يتم بهذه السهولة وبهذا الرخص من التضحية !!
إن نصر الله لا يتنزل إلا بعد طول البلاء وشدة المحنة ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ( فالذين ينتظرون أن يتنزل النصر عليهم وراء مكاتبهم وهم جالسون على مقاعدهم ، هؤلاء لا يدركون سنة الله في المجتمعات ولا قانونه في الدعوات.
قال لي أحد الدعاة : لقد مكثت في مكتب سنتين مع موظف آخر لم يعرف اتجاهي خلالها ، فقلت : إذن لم تتكلم خلال السنتين كلمة واحدة عن الحق الذي تحمله بين جوانحك !!
ترى لو فعل الصحابة كما يفعل كثير من الدعاة السريين اليوم ، هل تظنون أن الإسلام خرج من حدود مكة ؟!
لو سكت بلال , وراوغ ياسر وسمية , واستسلم ظاهراً عثمان بن مظعون , وقبل أبو بكر بشرط ابن الدغنة الذي أجار أبا بكر - ألا يرفع صوته في القرآن لأن صوته مؤثر بأبناء الحي من قريش - أقول : لو سكت هؤلاء أمام طغيان الجاهلية وجبروتها ، فإن الإسلام لا يمكن أن يخرج من بطحاء مكة ولا يتجاوز الحروراء.
إن إصبع بلال التي تشير إلى السماء وهو تحت العذاب الشديد مردداً : أحد.. أحد.. لهو زلزلة للكفر من أعماقه ، وهز لشجرة الجاهلية من جذورها.
إن صوت العقل يقول لبلال : اخدع أمية بن خلف وقل له : أنا على دين اللات والعزى ، وفي الليل تعال إلى محمد صلى الله عليه وسلم قائدك الحقيقي وواليك ورائدك وقل له : لقد ضحكت على أمية وخدعته فحسبني معه وتركني وشأني , ولكن الدعوات لا تنتصر بهذه الكياسة والسياسة ، إنها تنكس وتتحطم إذا لم تجد من يغذيها بالدماء ويبنيها بالجماجم والأشلاء.
إن الصبر الطويل على ظلم الجاهلية ، وكبت الأنفاس الحارة من أن تخرج من الأعماق ، والزفرات من أن تفرج عن الصدور ، أقول إن الصبر الطويل قد يظنه البعض مفيداً للدعوات ، ولا يعلمون أنه قاتل للنفوس ، خاصة إذا صاحبه هلع شديد ، وحذر بالغ يصل إلى حد الهوس ، وجبن خالع يؤدي إلى الموت البطيء التدريجي.
إن الغيرة قد تكبت أولاً ، ثم تذوي ، ثم تضمحل ، ثم تموت ، فإذا ماتت تحول الإنسان إلى جثة هامدة لا تنكر منكراً ولا تعرف معروفاً ، أو كما جاء في الحديث إنه لم يتمعر - أي يحمر - وجهه يوماً غضباً لله.
يرى الجبناء أن الجبن حزم
وتلك خديعة الطبع اللئيم
إن الصبر الطويل على الكفر وأنت غارق في سريتك القاتلة يؤدي إلى الاستئناس يومياً بالجاهلية الطاغية ، وأخيراً يؤدي إلى الألفة التي تمسخ الفطرة وتعكس النظرة.
السرية في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لها وقت قصير سرعان ما تجاوزته إلى الإعلان , والسرية والحذر لا بد منهما مع النفر ( خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ( ، ليس السرية والحذر اللذان يؤديان إلى الشلل والجزع والموت.
كذلك إن المعركة والجهاد في سبيل الله هي التي تفرز القيادات وتبرز الرجال من خلال التضحيات ، إن قدر أبي بكر بين المسلمين بحيث كان انتخابه بشبه إجماع لم يأت مصادفة ولا اعتباطاً ، إنما أبرزت أبا بكر الأحداث ، وميزته التضحيات ، ورفعته المواقف والمحن والملمات ، ولذا قال عمر يوم تبوك بعد أن جاء بنصف ماله ورأى أن أبا بكر جاء بماله كله ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأل ماذا تركت لأهلك قال : ( تركت لهم الله ورسوله ).
وعندها قال عمر : ( ما تسابقت أنا وأبو بكر في مسألة إلا سبقني أبو بكر ).
ولم يكن أبو بكر بحاجة إلى دعاية انتخابية ، ولا للاشتراك في قائمة مرشحين ، لأن قدره قد برز أثناء المسيرة ، وعلى طول الطريق ، فلم يعد بحاجة إلى شراء الضمائر بالأموال ، ولا إلى تضليل النفوس ببريق الإعلام وتلميع الأعمال.
وقانون التدافع : هو التفسير الإسلامي للتأريخ والأحداث ، وسواءً تحركت الجاهلية أم لم تتحرك فلا بد للإسلام أن ينطلق بحركته الذاتية التي لا بد منها لقانون التدافع ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ (.
إن المجتمعات الراكدة كالماء الراكد لا يطفو عليه إلا العفن والطحالب والأشنات ، فقيادة المجتمعات الراقية التي لا تتحرك للقتال تطفو متعفنة فاسدة ، وأما المجتمع المجاهد فإنه كالماء المتحرك والنهر الجاري يأبى أن يحمل العفن أو يطفو على وجهه الخبث.. ولابد أن تأتي القيادة من خلال المعركة الطويلة ، والجراح العميقة ، وإلا فالبلاد تضيع ، ولن يزيد الأمر إلا سوءً ، ولا تزيد مصائب الشعب إلا عمقاً.. لابد للقيادات الحقيقية أن تدفع الأثمـان ، وتتجرع الغصص ، وتتحمل الجراحات ، وتبذل التضحيات ، وتفقد الأب والأخ وما إلى ذلك ، حتى تشعر بقيمة المسألة التي تحملها ، والعقيدة التي تتبناها ، والأفكار التي ضحت من أجلها ، وبدون هذا لن تقوم للإسلام قائمة.. ) انتهت مقتطفات كلامه رحمه الله مع بعض التعديلات والإضافات.
ما ينبغي أن نؤكد عليه أن الكلام المنقول هنا لا يعني رفض السرية فنحن نقول أن السرية مأمور بها في الحرب وشئون المعركة كما ذكرنا في النقل السابق ( والسرية والحذر لا بد منهما مع النفر ( خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ( ، ليس السرية والحذر اللذان يؤديان إلى الشلل والجزع والموت ).
وبإذن الله سأتناول قضية الانقلاب العسكري والسرية في مقال منفصل عن السنن الكونية في المقالات الملحقة بالدراسة.
عودة إلى أصحاب نظرية المؤسسات :
هذا الكلام للشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - الذي ينبغي أن يُكتب بماء الذهب يشير كذلك إلى هؤلاء الذين يدعون أنهم يعملون بأحكام المرحلة المكية وما لهم منها نصيب ، حيث قلبوا أحكام المرحلة المكية إلى ركون ومداهنة ودعوة للتعايش مع الكافرين في حين أن المرحلة المكية كانت مرحلة صدع بالحق في وجوه الكافرين ومفاصلتهم وإنذارهم بالذبح وتسفيه أحلامهم وآلهتهم ، والأهم من ذلك كانت مرحلة إعداد مادي صريح بجمع الأنصار المسلحين وتهيئة الأمر لذلك حتى لو تطلب الأمر ترك الديار والأهل والأموال والمصالح المزعومة ، فهم قد علموا أن القتال والجهاد يأتي بالأموال والأراضي والمساجد ومعها تلك المصالح , أما التمسك بتلك المصالح على حساب الجهاد والركون إليها فهو أكبر عائق عن الجهاد وهو الطريق لضياع تلك المصالح بعد ذلك بدون أي نكاية في أعداء الله ، والقوم يسمون هذه المصالح مكتسبات الدعوة أو العمل الممكن ويزهدون في مطلق الأمر بالاستعداد لترك الأموال والديار فهي عندهم تدخل أيضاً في المصالح المرعية ! ويعطلون الصدع بالحق كاملاً , ويعطلون العمل على جمع الأنصار المسلحين , مدعين أن قول الحق كاملاً , وجمع الأنصار المسلحين سيقضي على مكتسبات الدعوة , فماذا أبقوا للمرحلة المكية بعد ذلك ؟ وكيف ينسبون ذلك لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة..!
وهؤلاء كلما تحصل لهم جزء من المصالح المكتسبة يأتي الطاغوت بجنده كل عشرة أو خمسة عشر سنة فيحصد بدون عناء تلك المكتسبات متبعًا سياسته المعروفة [ سياسة خلع الأنياب ] تاركاً هذه الجماعات تدور في حلقة مفرغة سوداء مظلمة لتبدأ من نقطة البداية من جديد وأحياناً من خلف نقطة البداية وأحياناً لا تستطيع المعاودة ولننظر إلى تونس كمثال.
والطاغوت يقوم بتلك السياسة [ سياسة خلع الأنياب ] سواءً خرج عليه من يُطلق عليهم لقب المتهورين أو بدون سبب البتة أو بافتعال سبب والأمثلة كثيرة كثيرة في العديد من البلدان ومجموعات الشباب تُساق للذبح دون حتى نكاية كبيرة في الطاغوت تجعله يفكر مرات قبل تكرار ذلك وكيف تحدث تلك النكاية والشباب غير مستعد لها بمعيار السنة الكونية التي هي شرعية أيضاً.
سياسة خلع الأنياب هي سياسة درج عليها الطواغيت ، وهي جزء من سياسات المواجهة المباشرة التي يتبعها الطواغيت في مواجهة الحركة الإسلامية بكل فصائلها حيث يقوم الطاغوت كل عشرة أو خمسة عشر عاماً بحملة على الحركة الإسلامية في بلده بسبب أو بدون سبب أو بافتعال سبب يقتل فيها من يقتل ويسجن فيها من يسجن ويغلق أو يمنع الدعاة عن كثير من المساجد والمنابر الدعوية والخيرية ، يقصد بها تقليم الأظافر وخلع الأنياب التي نبتت للحركة الإسلامية حتى لا تستخدمها ضده ولما كانت الحركة خلال هذه السنوات مستأنسة أصلاً - في أغلب فصائلها - فهي تقبل ذلك مستسلمة تحت شعار الابتلاء.
وهؤلاء يفهمون الابتلاء بمعنى غير الذي يفهمه أهل الإسلام الصحيح ومعناه عندهم ( أن تسلك الطريق التي أمرك بها الشارع فتصل إلى ضدّ أهدافك ابتلاءً لك.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.. ).
لذلك فالذي يُتابع ما يصدر عن القوم يجد مسخاً للفطرة وفهماً مقلوباً للسنن ، فتجدهم ينكرون ما يصدر من نفسية الإنسان السوي بما تمليه عليه فطرته ويقره عليه عقله ، لقد قرأت لأحد رموزهم عن ظاهرة تُحيره أن يتكلم عنها بتحسر ألا وهي أنه يرى كثيراً من الشباب الذي يحمل همة عالية وطاقة للعمل في سبيل الله ينصرف إلى الأعمال ذات النفس القصير - على حد وصفه - فهو يريد من الشباب - كما يقول - أن يوجه جهاده وقتاله وجهده إلى النضال التنموي !! والتأني والنفس الطويل لبناء مؤسسات قادرة على مواجهة الكفر - كما يزعم - ، لذلك فما أخطأنا عندما قلنا عن هؤلاء الرموز أنهم يعالجون الأمة من الاتجاه الخطأ ، فهو يريد من الفرد منا أن يُخالف فطرته التي فُطر عليها ويُلغي عقله ، الذي يقول أن هذه المؤسسات يستحيل أن تنمو في ظل سيطرة الكفر إلا إذا كنا سنبنيها ليرثها الكفر أو كرصيد لدولة الكفر في الأساس ، هذا إذا كان سيسمح لك الكفر بذلك أصلا ، وصدق من قال :
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ولله در الصحابة الذين هم خير من فهم السنن ، هذا فضلاً عن المغالطة بتعريضه بالعمل الجهادي على أنه عمل أصحاب النفس القصير ، إنه لا يستطيع أن يتصور أن يتعامل مع هؤلاء الشباب وأن ينزل إلى الساحة بينهم ويرشدهم ويعلمهم ويربيهم ويجاهد معهم ، هو لا يتخيل نفسه خارج مسجده المكيف أو مكتبه تحت المراوح ، أما أن يعطي درساً داخل مسجد قد تهدم أجزاء من سقفه من جراء القصف أو يهاجر لينشُر العلم بين الشعوب المجاهدة ، فذلك من أبعد الأمور عن تفكيره ، هو فقط يريد النضال التنموي - على حد تعبيره -..!!
بالطبع الاعتراض موجه إلى هذه المؤسسات عندما توضع كبديل عن الأوامر الشرعية الصريحة التي فرط فيها البعض لمشقتها ، بل للأسف لم تُطرح فقط كبديل بل قامت خيانات متعددة من بعض المحسوبين على الحركة الإسلامية لإيقاف الجهاد في سبيل إقامة هذه المؤسسات ، ومنهاج أهل التوحيد والجهاد يشمل ويدعو ويحرض على إقامة أي مؤسسة لخدمة الدين طالما لا تشتمل على وسيلة محرمة أو شركية وطالما تم وضع ذلك العمل المؤسسي في ترتيبه طبقاً للواجبات الشرعية ، ووقته تبعاً للسنن الكونية.
نخلص من كل فصول ومباحث الدراسة إلى أن حركـات الجهاد السلفية هي المتقدمة عن غيرها في فهمـها لدين الله تعالى - فهم السنن الشرعية والكونية - ، وهي الأمل إن شاء الله تعالى ، إلا أن سنة الله تعالى لا تحابي أحداً ، فحيث حصل الإيمان حصل النصر ، وحيث تخلف الإيمان الواجب فليس لأحد أن يلوم إلا نفسه ، والإيمان الواجب في الحالة المخصوصة هنا ، حالة الذلة التي تعيشها الأمة هو واجب الدفع والمدافعة , ( فإذا قام عباد الله بواجب الدفع والمدافعة ، وشرعوا بالجهاد ، واستكملت لهم أدواته ، فلا بد أن يقع الوعد الإلهي لأن السبب والأثر - في حياة المؤمن - لابد من تلازمها والتلازم مطلق في باب الوعد بخلاف باب الوعيد فالتلازم غير مطلق ، والنتيجة : إذا تخلف الوعد دل لزوماً على تخلف الأمر في نفس المكلف.. ).
وسبحان من كانت سنته الشرعية تتفق مع سنته القدرية وتتناغم مع حركة الكون والحياة.
في النهاية أكرر التذكير بأمرٍ هام ذكرته من قبل في المقدمة أن هذه الدراسة هي عبارة عن خطوط عريضة وأن ما بها من تفاصيل إنما ذُكرت لأهميتها أو كمثال لشحذ وتنشيط الأذهان ، بل إن تلك الخطوط العريضة ينقصها الكثير فضلاً عما قد يعتريها من خطأ كعمل بشري ، لذلك على من هم أهل لاستكمال تلك الدراسة من المتخصصين العناية بذلك وعلى أهل الواقع من أمراء المجموعات والمناطق تنزيل كامل التفاصيل ، وتعديل ما في هذه الدراسة بما يناسب واقعهم.
أسأل الله أن يتوب علينا ويغفر لنا خطايانا ويثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين ، وأن يُبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعته ويُذل فيه أهل معصيته ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة الأولى :
معركة الصبر
(.. وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ.. (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
" إنما النصر صبر ساعة " هذا الأثر يُلخص الطريق إلى النصر في أي معركة نخوضها مع الأعداء ، وقد سيق لشرحه مثال لطيف يُجلي معناه أكثر : تخيل نفسك وقد وضعت إصبعك تحت ضغط أسنان خصمك ، ووضع خصمك إصبعه تحت ضغط أسنانك بحيث يكون المنهزم هو من يصرخ أولاً ، فكان أن صرخت أنت أولاً فقال لك عدوك وقد انتصر : لو أنك صبرت لحظة واحدة لصرخت أنا قبلك ورفعت الضغط عن إصبعك وفي هذه الحالة تكون أنت الذي انتصرت.
في اليوم واللحظة التي قرر فيها الروس الانسحاب من أفغانستان لم تكن عدتهم من السلاح أقل من عدة الأفغان وقتها , بل كانـت أضعاف ما لدى الأفغان كماً ونوعاً ، كذلك لم يكن عـدد جنودهم المدربين أقل عـدداً أو كفاءة من جنـود الأفغان ، وكذلك عندما انسحب الروم من أراضي إمبراطورياتهم في الشام ومصر في بدايـة الفتوحات كان عددهم وعدتهم أكثر كماً - بأضعاف - وأفضل نوعاً من عدد وعدة المسلمين ، فما الذي حدث ؟ وما السبب في هزيمتهم ؟
أحيانا يصدر مثل ذلك القرار بحيث لا يمكن لمحلّل عسكري أن يتوقعه قبلها بيوم !!
الذي حدث يطلق عليه في كتب الحرب [ انهيار الإرادة القتالية ] وانهيار الإرادة القتالية يحدث في أحد حالتين : عندما يرى الطرف المُنسحب - إذا كان عاقلاً - أن الخسارة المادية أو المعنوية - ولها صور - من جراء استمراره في القتال أكثر من مكاسبه إذا استمر في القتال ، والحالة الثانية هي نفاد صبر الطرف المنسحب ، ويُمكن أن نُدخل الحالة الأولى في الثانية بحيث يمكننا القول :
إن انهيار الإرادة القتالية ينتج عن نفاد صبر الطرف المُنهار.
في هذه المقال سنتناول كيف يعمل عدونا على التعجيل بنفاد صبرنا ؟ وكيف نعمل نحن على التعجيل بنفاد صبره ؟
ستتناول الإجابة أهم ما يقوم به العدو للعمل على تعجيل نفاد صبرنا ، وكيف أن مفتاحنا للتعجيل بنفاد صبر العدو هو مقاومة ما يقوم به وهي الأهم لاعتبارات ستأتي ، وكذلك علينا المبادرة ببعض الأعمال لتحقيق غرضنا.
نسجل في البداية نقطة هامة : وهي أنه لطبيعة نفسية الطواغيت ونفسية جندهم لا يستطيعون أن يبقوا تحت الضغط والتهديد مدة طويلة ، وذلك أحد الأسباب - ليس كل الأسباب - التي لا تدفعهم لاستئصال متوالٍ أولاً بأول للحركة الإسلامية بل يعمدون إلى ضرب الحركة كل فترة زمنية طويلة نسبياً ، بل وعند ذلك القرار يتم وضع خطة تنهي الأمر بسرعة لأنهم يعلمون أنهم وجندهم مهما بلغ عددهم وعدتهم ليس عندهم صبر لمعركة طويلة ، ومما يطيل أمد المعركة ويضع العدو تحت ضغط آخر أشد هي مقتل أفراد العدو خصوصاً بأعداد كبيرة ، فهي أولاً : تجعل منه يراجع خطواته مما يطيل من أمد المعركة ، ثانياً : تعمل على وضع الجند والقادة في حالة نفسية سيئة لا يطيقون الاستمرار عليها مدة طويلة فيبدأ الجند والضباط في التململ أو عدم تنفيذ الأوامر أو الفرار ، ومن ثم يعمل الطاغوت على سحب جنوده وتجنيبهم المعارك ، ويبدأ هو - إذا لم يرحل إذا كان عنده الشجاعة لقرار الرحيل - في إطالة فترة المعركة عن طريق تجنب الصدام وهو يعلم أنه بذلك يُعطي المجاهدين فرصة لترسيخ قواعدهم العسكرية وتنمية قدراتهم ولكنه يلجأ لذلك على أمل أن يتمكن من دعم قدراته عن طريق الداخل أو الخارج في المستقبل ، وفي أسوأ الظروف يقوم بذلك من أجل نهب أكبر قدر من الأموال قبل أن يرحل أو لتنفيذ أوامر أسياده في البقاء أكبر فترة ممكنة لحين النظر في بديل له من قبلهم أو تدخلهم ونحو ذلك.
لذلك نستطيع القول أنه يريد :
(1) تقصير أمد المعركة بقدر الإمكان.
(2) تجنيب جنوده الدم بقدر الإمكان لأنه يعلم أن ذلك سيرعب جنده وسيكون عاملاً من عوامل إطالة المعركة.
لذلك يضع العدو لتحقيق هذين الهدفين خطة خبيثة ، وهي أنه يتجنب في البداية الدم قدر الإمكان بل يعمل على جمع أكبر عدد من الشباب في السجون ، ويرسم صورة أن من لا يقاوم عند الضبط لا يُطلق عليه النار ، وهو في الأصل لا يتمنى أن يصل الأمر لذلك ، وفي الفترة الأولى من مرحلة السجن طالما أنه ما زال هناك أعداد كبيرة بالخارج يجعل الضغط داخل معظم السجون بسيطاً إلا على قلة من الأخوة الذي لديه غرض من الضغط عليهم ، ثم عندما يجمع أكبر قدر من الإخوة في السجون يبدأ بالضغط على جميع الإخوة داخل السجون وعلى ذويهم خارج السجون فيبدأ في جعل السجون جحيماً ، ويعمد إلى منع الزيارات تقريباً ، ويعمل على متابعة الدعم والمساعدات التي تصل لذويهم وتصبح الصورة سوداء ، فيبدأ الناس يمنعون ذويهم من الانضمام للمجاهدين أو مساعداتهم لما يرونه من أمثلة كثيرة ، وتبدأ حالة المجاهدين في التدهور ، فضلاً عن أن الطاغوت يبدأ في هذه المرحلة في تغيير استراتيجيته من تقليل الدم وإكثار الاعتقالات إلى استراتيجية الحسم والاستئصال بعد أن يكون هيأ الجميع لها إعلامياً ، فيقوم بعمليات قتل في المداهمات ، وهنا يقترب الأمر من نهايته ويبدأ صبر المجاهدين في النفاد - لا قدر الله - ، بعد أن يكون بدأ الأمر بنفاد صبر من في السجن من الشباب.
كذلك من الاستراتيجيات التي يتبعها العدو هي [ استراتيجية الحشد ] حيث يعمد إلى تهدئة بعض المدن والمناطق ويستعين بجندها في حشد قواته في منطقة أو منطقتين يكثر من الاعتقالات والمواجهات فيهما ، وذلك حتى يُشعر جنده بالاطمئنان لأنهم أكثر عدداًً أضعاف أضعاف المجاهديـن ، ثم بعد أن ينتهي ويُحكم قبضته على تلك المنطقة ينقل قواتـه للمناطق الأخرى الهادئة.
وتقريباً كل ما سبق حدث من النظام المصري الخبيث وقت مواجهة الحركة المجاهدة حيث كان يخطط بداية التسعينات في بدء حملة لضرب الكيانات الإسلامية بصفة عامة والمجاهدة بصفة خاصة التي نَمَتْ في العشر سنوات التي تلت حملة بداية الثمانينات والتي بدأت قبل قتل السادات وانتهت بعد الانتهاء من المحاكمات التي تلت مقتله القصد : أنه عندما بدأ في حملة أرادها سريعة للقيام بذلك ، فقامت الجماعة الإسلامية برد قوي بقتل المحجوب - رئيس مجلس الشعب - ، دفعه لتأجيل حملته عامين ، وبدلاً من أن تستغل الجماعة حالة تردده تركت له الفرصة كاملة لترتيب أوراقه فتباطأت لمدة عامين لبدء المواجهة الشاملة ، فقد كان يمكنها حزم أمرها والبدء بعد عام على الأكثر ، وعندما بدأت سهلت له القيام بعملية حشد لقواته حتى أنه قام بالقضاء على كيانات الجماعة بمدن ومحافظات تواجدها واحدة وراء أخرى ، ثم حدث بسبب طريقة تفكير بعض قادتها حيث كانوا يضعون أعينهم على المفاوضات من بداية المعركة !! بل وظنوا أن نظاماً كنظام مبارك يمكن أن يرضخ للمفاوضات إذا قُتل له بضع مئات من الجنود وبعض القيادات ، ونسيت أن هذه الأنظمة لا اعتبار للأعداد عندها إلا بقدر خوفها من تفلت هذه الأعداد ( والتفلت والفرار يحدث عندما يكون القتل بأعداد كبيرة مع دعاية إعلامية جيدة وتبرير إعلامي جيد كذلك ) ، ثم عندما وافق النظام كانت أوراق الضغط كلها في يديه ( أعداد هائلة من أعضائها رهائن بالسجون ) مما أتاح له أن يفرض شروطه ، فالذي بيده أوراق أكثر يفرض شروطه ويقدم الطرف الآخر التنازلات بالطبع ، هذا مع تحفظنا على مشروعية مفاوضة المرتد أصلاً خاصة التي تفضي إلى إقراره وتركه على ردته ، أما جماعة الجهاد فهي لم تكن قد اتخذت قرار المواجهة أصلاً ، لكون سياستها كانت تقوم على إعداد مادي طويل يسبق التحرك ( وتلك سياسة تم شطبها من خطط الحركات الجهادية بعد ذلك لأنها أفضت إلى كوارث وتم وضع سياسات بديلة ) ، وفوجئت بكشف نصف خلاياها على الأقل بسبب أخطاء أمنية ، هذه الأخطاء يصعب جداً معـالجة آثارها الضارة في ظل نظام يتبع سياسة المداهمات العشوائية خاصة إذا كانت الجماعة لم تتخذ قرار بدء المواجهة بعد ، ولكن على الرغم من الضرر البليغ الذي لحق بكيان جماعة الجهاد حتى أنها أوقفت العمليات فترة - دون أن تغير من موقفها من النـظام - إلا أن ثبات قياداتها وعملهم على معالجة ما حدث أبقاها حتى الآن شوكة في حلق النظام وأسياده بفضل الله ، مما جعل النظام لا يقدر على استكمال سياسته باستئصالها ومن ثم استئصال الجماعات الإسلامية الدعوية كما يأمل بعد ذلك.
خلاصة هذه النقطة : أن سبب هزيمة الجماعة الإسلامية أنها لم يكن لقيادتها تصور جيد وواضح للاستراتيجية العسكرية ، عطلت أربعة أخماس قوتها تحت ما يسمى بالجناح الدعوي بل وجعلته مكشوفاً مما مكن النظام المصري من أخذهم كرهائن وأوراق ضغط للتعجيل بنفاد صبر الجماعة ، وتم ذلك في فترة زمنية طويلة ولم تتخذ الجماعة أي إجراء عملي تجاه ذلك مع أنه كان أمامها فرصة ، أما انهيارها العقدي وتراجعاتها فيرجع لأنها اتخذت مواقف غير شرعية في تعاملها مع الهزيمة العسكرية ولهذا الأمر جذور وظروف يطول شرحها ، أما جماعة الجهاد فلا أدري كيف يجرؤ الجهال على جعل القتال سبباً لما حدث معها في حين أن ما حدث معها تم أغلبه قبل أن تقرر هي أي مواجهة !.
عودة للموضوع : ماذا علينا أن نفعل للتعجيل بنفاد صبر العدو وإبطال هدفيه واستراتيجياته ؟
نحن لو كان عندنا القوة التي عند العدو لكان عندنا القدرة على حسم المعركة من البداية لأن جنودنا لا تخشى الدم والموت بل تطلبه ، ولكننا ليس عندنا هذه القوة - وذلك من سنن الله في الدعوات - ، لذلك ستكون خطتنا بالنظر لكل المعطيات السابقة هي العمل على إطالة فترة المعركة عن طريق مقاومة أهداف العدو والمبادرة بتوجيه ضربات قوية وموجعة له ، على أن يكون تركيزنا في البداية - بحكم إمكانياتنا - على رد الفعل المتمثل في مقاومة أهدافه أكثر من المبادرة بتوجيه ضربات له ، ثم بعد فترة إذا نجحنا لن تكون أعمالنا إلا المبادرة بضربه لأنه بحكم التجارب المرصودة ستكون أيامه في المرحلة الثانية هي عبارة مقاومة غاراتنا إلى أن نصل إلى مرحلة إسقاطه بإذن الله.
- فعلينا إبطال استراتيجية الحشد عن طريق جعل عملياتنا منتشرة على أكبر رقعة من الأرض - على الرغم من محدوديتها في البداية إلا أنه يجب أن تكون منتشرة على أكبر رقعة ممكنة -.
- وعلينا منعه من تحقيق هدفه بجمع أكبر عدد من الإخوة في السجون ليضع في يده أكبر أوراق للضغط عن طريق :
(1) تلافي التسيب الأمني قدر الإمكان ، وتنفيذ التعليمات الأمنية بدقة ، وبمناسبة هذه النقطة تنتشر بين الأخوة قصص من نوعية أن أخاً تعرض لكمين وكان معه اسطوانات [ سي دي ] أو أوراق وكانت التعليمات أن يقوم بكسرها حتى يمر على الكمين بدون مشاكل ، إلا أنه احتفظ بها لغرضٍ ما وعمل على قول الدعاء والأذكار حتى مر الأمر بسلام ، وجميعنا بالطبع يصدق بحقيقة مثل تلك القصص والحمد لله ، إلا أنه ينبغي أن نعلم أن ما فعله الأخ يأثم بفعله فقد خالف التعليمات وعرض نفسه ومجموعة من إخوانه - الذين يعرفهم - للخطر ، وذنبه هذا مع ذنوب أخرى قد تجعل الأذكار لا أثر لها في المرة القادمة كذلك من التسيب الأمني محاولة معرفة ما لا يخصك ، وتوجد مظاهر عدة للتسيب الأمني فلتراجع في مظانها.
(2) الطريق الثاني الذي يُبطل تلك الاستراتيجية هو جعل مداهماته لاعتقال الإخوة تتحول إلى جحيم ويسقط فيها أكبر عدد من قواته ، وذات تكلفة عالية في الدم والإنفاق واتخاذ وقت طويل في الإعداد لها ، بل إذا تم اعتقال أو قتل أفراد في مداهمة يتم المبادرة بتوجيه ضربة ردع ودفع ثمن يتم الإعلان إعلامياً أنها بسبب اعتقال أو قتل الأخ فلان ، والمبادرات القليلة في البداية بمهاجمة قواته أو قوات العدو الصليبي يُعلن إعلامياً أنها ردود فعل على ممارساته في السجون أو اعتقالاته ، وأننا نقوم باستهداف أسياده الصليبيين نكاية فيهم وفيه - نكاية مُسببة - على أن نبين أننا لن نوقف استهدافنا أهل الطغيان إلا أن ممارساتهم تدفعنا أكثر وتجعل عملياتنا أكثر شراسة.
وكل ما سبق - تقريبا - يمثل السياسة التي يتبعها إخواننا أسود جزيرة العرب نسأل الله لهم الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد.
وينبغي أن نتذكر جيداً أيضاً أن عقيدة الصراع عند أهل الكفر والردة عقيدة مادية دنيوية في أغلب بنائها ولهم دوافع دنيوية يسترونها بدوافع دينية أو حضارية كاذبة ومزعومة ، وأن العامل العقدي التقليدي فيها ليس العامل الوحيد فهو يُعتبر أحد عوامل دفعهم للمعركة ودفع الأتباع الجهال عندهم ، أما وقود تحركهم فهو المصالح المادية والبقاء ، فهم يصارعون من أجل ذلك ، وليس أي بقاء بل البقاء الذي يضمن لهم حياة الرفاهية والترف بدون منغصات ، وحلفاؤهم ومن يدعمهم ليستمروا ويصبروا يتحالفون معهم ما دامت المصلحة متحققة بذلك التحالف ، فيجب أن نعي ذلك جيداً.
فان إطالة أمد الصراع وإيجاد قوة تستطيع توجيه ضربات قوية تجنح بالعدو إلى الموادعة من طرفه فقط بالطبع ، وتوجيه ضربات لمصالحه الاقتصادية ، وتهديد مصالح واقتصاد ومادة رفاهية من يدعمه - بتبرير إعلامي جيد كما بينا في دراستنا المفصلة - تجعل العدو يتقوقع على ما في يده من مصالح ، وهذه القوة الرادعة كذلك تدفع جنده للتفكير في أن القتال تحت راية قادتهم لا يضمن لهم البقاء فهاهم يموتون من أجل لا شيء ، فتبدأ مرحلة التفكير في الانتقال أو على أقل تقدير الفرار وانتظار انقلاب الموازين ، لذلك وجدنا أن أشد الناس عداوة لهذه الدعوة أصبحوا فيما بعد جنداً مخلصين لها يقدمون أرواحهم في سبيلها ، وذلك سيكون بعض حديثنا في المقالات القادمة بإذن الله ، القصد : أن تطور المعركة باستراتيجية صحيحة هام حتى لا تكون إطالة المعركة وبالاً علينا أكثر من العدو فينفد صبرنا قبله.
نختم هذا المقال بهذه الواقعة من غزوة بدر : عندما أرسل المشركون عمير بن وهب الجمحي عيناً لهم على المسلمين فقال بعد أن تأكد أنه ليس للقلة من المسلمين كمين أو مدد : ( لقد رأيتهم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً.. ولكني قد رأيت يا معشر قريش , البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتـل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم , فما خير العيش بعد ذلك ؟ فَرُوا رأيكم ! ).
نخرج من هذه الواقعة أنه إذا استطعنا أن نسرِّب للعدو هذا الشعور بحقٍ بل ونؤكده بزيادة - كما فعل سلفنا وقتها - سيكون ذلك بإذن الله بداية هزيمته ، وليرجع القراء إلى كتب السيرة لقراءة أثر تلك الكلمات على صف قريش.
وسيكون ذلك الشعور بإذن الله هو أول الطريق للتعجيل بنفاد صبره ، فان معركتنا معه هي معركة الصبر.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (.
والحمد لله رب العالمين
(((((((المقالة الثانية :
الابتلاء بين النفس البشرية وسنن الله في الدعوات
( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
منذ أن تُشرق شمس الهداية على نفس المسلم في مجتمعنا إلا وتبدأ معها سلسلة من الابتلاءات ، وتتنوع مظاهر الابتلاء والفتن التي يواجهها المرء ، وتبدأ تمر بالمرء مشاكل وأحداث عادية أحياناً كان يواجه أصعب منها قبل الهداية إلا أن إحساسَه بها بعدما خالطت بشاشة الإيمان قلبه إحساسٌ مختلفٌ تمامَ الاختلاف ، فهذه فتنة الزوجة وهذه فتنة المال وهذا ابتلاء له في عمله ومصدر رزقه وهكذا ، وكلما نجح في مواجهة فتنة نكتت في قلبه نكتة بيضاء بقدر حجم الفتنة التي نجح في تخطيها فما زال إيمانه في ارتفاع.
قبل أن ننتقل إلى القضية الهامة التي سنتناولها في هذا المقال ينبغي تسجيل ملاحظة هامة هنا سيكون لها أكثر من دلالة في موضوع المقال , ألا وهي أن كثيراً منا عندما يراجع نفسه يجد أن أفضل حالاته الإيمانيـة كانت في الفترة الأولى من الهداية ، لا يشترط أن تكون منذ اليوم الأول - وإن كانت تحدث أحياناً منذ اليوم الأول - وإنما في الفترة الأولى بصفة عامة ، ولعل ذلك يفسر لنا كيف أن البلاء العظيم كان ينزل على الجيل الأول منذ اللحظة الأولى ، وذلك ما دفع بعض المربين أن يُطلق عبارة [ أن الإيمان يُولد جبلاً في كثير من الأحيان ] هذا مع افتراق أن الجيل الأول كان يولد إيمانهم كبيراً إلا أن ما يواجهونه من الابتلاء وثباتهم في مواجهته يرفع من مستواهم الإيماني أكثر وأكثر بينما نحن للأسف نتعلم من كثير من المشايخ والمربين أن نتهرب من أي عمل يؤدي إلى ابتلاء فنبدأ في مرحلة النزول والهبوط ، كذلك نسجل أن من اهتدى من الجيل الأول في مكة واجه الوقوع تحت فتنة ظهور واستعلاء الكفر ، ومن اهتدى بالمدينة واجه فتنة الجهاد وبارقة السيوف.
في هذه الحلقة سنتناول أهم الفروق بين فتنة السجن والتعذيب وبين فتنة الجهاد وبارقة السيوف ، وكذلك سنتناول موقف النفس البشرية منهما ومدى تقبلها لهما وإلى أي مدى يمكنها تحملهما ودلالة ذلك.
القائلون بأهمية مرحلة الابتلاء بالسجن والتعذيب قبل القيام بالجهاد تتفاوت درجاتهم ما بين فريق يغالي في هذا الأمر حتى أنهم ينصحون أتباعهم بتقبل ذلك والسعي إلى السجن والابتلاء وانتظار الفرج حتى بدون السعي الواقعي بأمر عملي يحقق الفرج ، ولولا أني قرأت لمن يقول بذلك لما صدقت بوجود هذا الصنف من البشر ، وهناك فريق يعتدل في هذا الأمر بأن يقوم بالصدع بالحق في وجوه أهل الباطل وبالإعداد المادي والمعنوي وجمع الأنصار المسلحين لا سعياً وراء السجن والتعذيب ولكن إذا حدث صبروا وعدوا ذلك تربية للأفراد ، أما الفريق الثالث فهو الفريق الذي فرّط في الأمر حتى إنه يبعد عن أي أمر يؤدي إلى مشاكل مثل الصدع بالحق في وجوه أهل الباطل أو الإعداد المادي ، ولكن لا ينسى هذا الفريق أن يتبجح ويكون أكثر هذه الأصناف صياحاً : إنه في المرحلة المكية ومرحلة الصبر ! ولا أدري ماذا ترك للمرحلة المكية من أحكام ، فسبيل هذا الفريق جلّه مخالف للمرحلة المكية ، فهو بين مداهنة وتعايش وتخبيص وتلبيس.
القصد : ما نريد قوله أن هذه الأصناف الثلاثة - على اختلاف حالهم - واقعون لا شك تحت فتنة ظهور واستعلاء الكفر وأهله وسيطرتهم على حركة المجتمع الذي يعيشون فيه بدرجات متفاوتة.
وما نريد أن نحذر الأصناف الثلاثة منه - بما فيهم الصنف المعتدل - أن إطالة مدة البقاء في الفتنة تحت أيدي الظالمين مدة طويلة يؤدي إلى تفلت الأتباع فالنفس البشرية - غير المعصومة - مهما بلغت من القوة لا تستطيع أن تصمد مدة طويلة في مواجهة الباطل المُستعلي ، فإن طول الأمد بدون مواجهة فعلية للباطل تظهر له آثاراً لا ينكرها من خالط شباب الإسلام مدة طويلة ، فمنهم من انتكس كلياً ومنهم من ترى عليه فقط علامات الهداية الظاهرة من ثوب ولحية ، وفي هذا تفسير لما حدث لجماعات كان يُضرب بها المثل في الثبات والصدع وكانوا يدخلون السجن ويخرجون أكثر ثباتاً ، إلا أنه عندما غُيب أتباعها في السجون فترات طويلة ظهرت التراجعات والرضوخ للجاهلية ، بل حتى الصنف المفرِّط في الصدع بالحق والذي لا يواجه ابتلاءً شديداً كالسجن ونحوه إلا أنه خاضع بدرجة ما كما ذكرنا إلى فتنة استعلاء الباطل وسيطرته على المجتمع فتجد أن دفعة المراحل الأولى له قوية ثم لا يلبث أن تجد فتوراً ، ولا تنشط حركته إلا بحدث يدفع للحركة شباباً يحمل دماء جديدة ويدخل الدائرة المفرغة من جديد ؛ لذلك على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحث أصحابه على الصبر والثبات ومزيد من الصدع بالحق ، إلا أنه كان يعمل على عدم إطالة فتنة هذه المرحلة لقسوة طبيعتها عليهم ، ففتح لهم باب الهجرة للحبشة ثم إلى المدينة ، كذلك أذن لهم بالنطق بكلمة الكفر تحت ظروف معينة ، كذلك عمل على الترتيب لمواجهة الباطل وجمع الأنصار المسلحين ، فإن القائد الحصيف لا يترك أتباعه نهباً للأعداء فترة طويلة من الزمن وإلا أدى ذلك إلى تفلت الأتباع ، فيجب عليه أن يسعى حثيثا أن يخرجهم من الظلم الذي يرضخون تحته ، ويعمل على استرداد حقوقهم ، لذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فترة بسيطة من استقراره بالمدينة أرسل سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه لترصد عير قريش لاسترداد بعض حقوقهم مع ما في ذلك العمل من فتح باب للمواجهة قد يلوح للبعض أنها كان يمكن أن تكون ذات عواقب غير محمودة ، إلا أن هذه هي النفس البشرية السوية لابد أن تستخلص لها حقوقها وإلا فإن صبرها يوشك أن ينفد ، حتى إن بلالاً رضي الله عنه عندما شاهد أمية بن خلف وقد كان أسيراً لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لم يتحمل أن يتركه وعبد الرحمن بن عوف يذب عن أمية ويصيح ببلال : إنه أسيري وبلال يردد فقط : ( لا نجوت إن نجا ! لا نجوت إن نجا !! ) ، إن النفس البشرية من لحم ودم وأعصاب ولها طاقة محدودة ينبغي مراعاتها وإلا لا يلومن قادة الحركات إلا أنفسهم إذا فوجئوا بتفلت الأتباع وانفضاضهم من حولهم واحداً بعد الآخر أو سقوطهم على أقل تقدير في الفتور وانعدام العطاء ، وساعتها ستنحل الحركة بالتدريج أو على أقل تقدير سيلجأ القائد إلى تحويلها إلى حركة مسخ باهتة حتى يحافظ على كيانها العددي بأن تتوقف الحركة عن أي عمل فيه تضحيةٌ كبيرة بالوقت وبالنفس وبالمال والمسكن ونحو ذلك ، ويقوم بجعل الأحكام التي تصلح أن تكون استثناءً في حق أفراد مخصوصين أو حالات معينة إلى قاعدة ومنهاج يسير عليها أتباعه ، هذا فضلاً عن لجوء البعض إلى لبس الحق بالباطل وإلباس الأوضاع الجاهلية لباساً إسلامياً حتى يستطيع أن يجيش أكبر عدد من الأتباع بدون إحساس بضغوط ويقوم في سبيل ذلك بلي أعناق نصوص الشرع.
إن الثبات في مواجهة هذه الفتنة والثبات في مواجهة فتنة الجهاد والقتال يرفعان من المستوى الإيماني للفرد وهما من أكثر ما يؤثر في تربية الفرد والجماعة المسلمة ، لكن لماذا جعل الشرع مخارج من فتنة السجن والتعذيب واستعلاء الباطل - كالهجرة والتقية على تفاوت درجتهما الشرعية - ولم يجعل مخارج من فتنة القتال ( وهو فتنة بنص الحديث : " كفى ببارقة السيوف فتنة " ) بل جعله ماضياً إلى يوم القيامة ، وجعل التخلف عنه أو عن الإعداد المادي الجدي له - خاصة عند وجوبه - من علامات النفاق.
أما بالنسبة لفتنة السجن والتعذيب فهو ما قلناه أنه مع أهميتها خاصةً في البدايات إلا أن طول مدتها يؤدي إلى تفلت الأتباع ، أما فتنة الجهاد فهي :
أولاً : مشروعةٌ لدفع فتنة أكبر (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه (بل إن أعظم الفتن وهي الفتنة عن الدين بالسجن والتعذيب لا تُدفع إلا بالقتال.
ثانياً : إن فتنة القتال - على ما فيها من بلاء عظيم - يتخللها من العزة والمشاعر العظيمة ما يُذهب كثيراً من أثرها على النفس حتى إنها باب لذهاب الهم والغم.
ثالثاً: القتل في سبيل الله - وهو أمنية يتمناها الكثير تحت التعذيب - يناله الإنسان بسهولة في الجهاد ، وإذا فتحنا الحديث حول هذه النقطة لن ننتهي ، فعلى الرغم من الفتنة الشديدة بالدماء والجماجم وتطاير الأشلاء إلا أن النفس البشرية تستطيع أن تتقبله لمدة طويلة بل تزداد حباً له وطلباً له على عكس فتنة السجون.
كذلك فتنة استعلاء الباطل وما يصاحبها من أذى كسجن وتعذيب تعالج جوانب محدودة في النفس البشرية كالكبر وككيفية دفع النفس لأن تذل في سبيل الله وكيفية تحويل النفس الرخوة إلى أن يصلب عودها ، لكنّ طولَها أكثر مما ينبغي قد يؤدي إلى أن تنكسر عزة الإنسان خاصة إذا صاحبها إذلال شديد من الباطل المُستعلي يقابله جبن خالع من الأفراد الذين يحملون الحق وسلبية في تدبير المُعالجة بالسنن الصحيحة ، بينما الجهاد يعالج جميع جوانب النفس : النفس عند النصر ، والنفس عند الهزيمة ، والنفس عند العُجب ، والنفس عند الفتح والعلو ، فهو يصوغ الشخصية المتكاملة ، لذلك تجد قلة من الصحابة هم من مر بالفتنتين بينما معظم الصحابة مر فقط بفتنة الجهاد ؛ لأن مراحله تكفي في جملتها في صياغة الشخصية المؤمنة والفئة المؤمنة التي ستتحمل بعد ذلك أمانة الدماء والأعراض والأموال ، دماء الناس وأعراض الناس وأموال الناس.
فالجهاد فتنة وفيه دواء هذه الفتنة يخيفك أعداء الله وتخيفهم ، ويكفيك عزة أن تحمل سلاحك متحرراً من كل أغلال العبودية للباطل خاضعاً لأوامر الله وحده خالقك ورازقك.
الخلاصة : أن الابتلاء بالسجن والتعذيب والصبر لفترة تحت استعلاء الكفر وأهله والابتلاء بجهاد الكفر وأهله كلاهما مهم لتربية الجماعة المسلمة والفرد المسلم ولرفع المستوى الإيماني ، إلا أن الابتلاء بالسجن لا ينبغي أن يُسعى إليه حتى ونحن نفعل ما يؤدي إليه حتماً كالصدع بالحق ، فنحن نصدع بالحق ونسأل الله العافية ، كذلك إذا حدث ينبغي ألا تطول مدته ، بينما الابتلاء والفتنة بالجهاد وبارقة السيوف يؤمر بالسعي إليه ، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة فلا ضرر معتبر على النفس من أن تطول مدته.
وعندما قلت إنه لا ينبغي أن تطول فتنة استعلاء الباطل قصدت أن نسعى لمخرج جدي لنخرج منها ، أي تعمل الحركة على أن تُخرج أفرادها منها ولا يقول مسلم يفهم دين الله فضلا عن من يستحق أن يكون قائد حركة أن يكون ذلك بكتم الدين أو تبديله ليرضى الباطل فيُخفف من ضغطه ، نعم قد يجوز ذلك كاستثناء لفرد ونحو ذلك كعمار رضي الله عنه ، أما أن تتحول الحركة كلها إلى مرحلة استثناء داخل الأحكام المكية التي هي في الأصل استثناء - أي استثناء داخل الاستثناء ! - فذلك يدل على أنها حركة مريضة عاجزة أن تحمل أمانة هذا الدين وأكرم لها أن تحل نفسها وتُحلل أتباعها من أي بيعة أو عهود حتى يدخل المخلصون منهم في نصرة من يستطيع حمل أمانة هذا الدين بقوة.
هذا ما أردت أن أنبه له ، وأرجو أن يتأمله القائمون على التربية في عالمنا الإسلامي.
وسبحان من كانت سنته الشرعية تتفق مع سنته القدرية وتتناغم معهما حركة الكون والحياة ، والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة الثالثة :
رجالنا وأفراد العدو تحت النار
( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبه ومن والاه ، أما بعد :
في مشهد تكرر كثيراً في كل أرض قام بها جهاد في سبيل الله ، هناك في جزيرة العرب حوصر أحد المجاهدين ومن معه بين عددٍ من سيارات ضباط وجند الطواغيت ، فترجل من سيارته وتقدم دون أن يحتمي بأية سواتر وبدأ في رش جنود العدو الذين كانوا في المقدمة ، علماً بأنهم كانوا أعداداً كبيرة ، ولو أن أحدهم ثبت قليلاً وأطلق على الأخ المجاهد لأصابه في مقتل - لأنه كان مكشوفاً وبدون أية سواتر - لكنهم هربوا كالفئران ، ومما له دلالات هامة أن الفرقة التي في المؤخرة عندما رأت ما حدث هربوا على الفور مع أن الأخ المجاهد لم يطلق عليهم ولا رصاصةً واحدة ، والأمر لم ينته بعد ذلك ، فقد تقدم الأخ وأصبح يطارد فلول الضباط والجنود !! وأخذ يلاحقهم برشاشه وهو مكشوف وهم بعضهم في السيارات وجميعهم يرتدي السترات الواقية !! ، حكايات وقصص متواترة من عمق التأريخ بدأت يوم بدر وامتدت إلى كل معارك المجاهدين طالما استكملوا عدة الإيمان من صلاح النية والغاية والراية وتمام التوكل بعد الأخذ بالأسباب المستطاعة ، يروي أحد الإخوة أنه قبل فتح خوست بأفغانستان وقد حاصرها المجاهدون مدة طويلة من الزمن انتظاراً لوصول بعض المدرعات - التي تحصل المجاهدون عليها غنيمة من معارك سابقة - لتساعدهم في فتح الحصن الذي تحصن فيه جند الروس ، ولسان حالهم لن نغلب عندما تأتي هذه المدرعات ، وعندما أتت المدرعات وبدأوا الهجوم أتت قذائف ودمرت المدرعات وفر المجاهدون وقتل منهم من قتل ، ثم تجمعوا بعدها بفترة وحاصروا الحصن مرة أخرى وتوكلوا على الله فلم يعد لديهم مدرعات واقتحموا الحصن بأسلحتهم الخفيفة فقط ، يقول الأخ وقد كان يرصد بالمنظار من فوق الجبل لقد رأيت نفس جند العدو الذين دمروا المدرعات من قبل يفرون لا يلوون على شيء تاركين أسلحتـهم الخفيفة والثقيلة ، وفتحت خوسـت ، كيف نزلت السكينة على المجاهدين وهم أضعف وكيف فر جند العدو وهم في موقع أفضـل (.. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (.
يرجع بعض الأحبة ذلك إلى شجاعة المجاهدين وجبن أعداء الله ، وقد يكون ذلك أحد الأسباب في مرات كثيرة ، إلا أنه أحياناً يكون المجاهد يعلم من نفسه أن شجاعته غير كافية لمثل هذا الموقف المذكور أعلاه ، وعلى الجانب الآخر قد يكون جند العدو ممن مروا من قبل بمعارك مع غير المجاهدين وثبت فيها أنهم يتمتعون بشجاعة فطرية ، فماذا حدث عندما واجهوا المجاهدين ؟ لماذا شعروا بالرعب ؟ ولماذا وجد المجاهد نفسه قد نزل عليه من الثبات أضعاف أضعاف ما كان يتوقعه من نفسه ؟ كيف يجد أفراد العدو شللاً في الأطراف عند الرمي ولا تفسير له عند أهل الدنيا ، كيف يضيق الأمر على الرامي من المجاهدين فيرمي باسم الله وهو شبه واثق أن وضعه لن يبلِّغه الهدف ولكنه يرمي مضطراً فيجد بعد ذلك رمايته قد استقرت في مقاتل جنود العدو ؟ بل أحياناً يكون مدى السلاح لا يبلغ الهدف نظرياً لبعد المسافة ، كيف ينتصر المشركون في معركة من المعارك وعندهم القدرة على الاستمرار لتصفية بقايا المؤمنين ثم يصرفهم الله ليبتلي المؤمنين هل سيثبتون على أمر الله بعد ذلك أم سينقلبون على أعقابهم ؟ كيف أن موازين الصراع تتغير بما لا يد للمجاهدين فيه ماداموا قد استفرغوا الوسع ونفذوا أوامر الله الشرعية والكونية ؟ حتى أنها لحظة واحدة فارقة بين وضع الصحابة خلف الخندق - وأحدهم لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وقد بلغت القلوب الحناجر وظن البعض بالله الظنونا - لحظة واحدة بين ذلك وبين إرسال الله الريح على جانب المشركين تطفئ نارهم وتقلب قدورهم فقط فعلت الريح ذلك ، ولكن الأهم وَجَدَ قادة المشركين أن جندهم قد انهارت إرادتهم القتالية ولا يريدون الاستمرار أكثر من ذلك ، فاتخذوا القرار بالعودة بالجيش وانقلبت موازين الأحزاب وتركوا حلفائهم من حقراء الخونة وقد أكل الرعب قلوبهم غنيمة باردة للمؤمنين لحظة واحدة بين كل ذلك وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " لذلك نحن نبشر المجاهدين في العراق ما داموا ثابتين لم يبدلوا أن تلك اللحظة آتية حتى لو وصل بهم الحال إلى الزلزلة بل لعلها لا تأتي إلا عند الزلزلة عندما يقول المؤمنون من أعماق قلوبهم : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، قد يتخذ العدو هذا القرار لأي سبب والأسباب كثيرة بسبب عملية أخرى كذبح الأمريكي أو فضيحة جديدة كفضيحة أبي غريب أو آية جديدة كآية ما حدث في الفلوجة أعزها الله عندما حاصر أعظمُ جيش في العالم بما يمتلك من أسلحة فتاكة وتكنولوجية متطورة وغطاء جوي مكثف مدينةً صغيرةً لا يملك المجاهدون فيها إلا الأسلحة الخفيفة والتي حتى لا تقارن بالأسلحة الخفيفة للعدو ، هذه لحظة آتية يا مجاهدي العـراق - بإذن الله - فقط الثبات الثبات ، فقط عليكم عند حدوث ذلك بإذن الله أن تتحضروا لشكر هذه المنة والنعمة ، وشكرها بأن لا يكون هناك وقت للراحة فلا يصلين أحدكم العصر إلا عند حصون الخونة في دياركم وتأكدوا أن الرعب الذي سيكون في قلوبهم وقتها عند انسحاب إلههم [ أمريكا ] لا يُوصف فعليكم أن تفعلوا بهم وبوزراء حكومتهم العميلة وبجند شرطتهم ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة ولا تستمعوا وقتها إلا لمثل رأي سعد بن معاذ رضي الله عنه فلنعم الرأي ذلك الرأي ، ولا تلتفتوا للرأي القائل وقتها [ أمريكا والحلفاء والأحزاب لم يذهبوا أو سيعودون مرة أخرى ] فإنما هؤلاء سيكونون الذين خذلوكم أول مرة ووقفوا يتفرجون عليكم ( يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( فالأحزاب عندما يخرجون في مثل هذه الظروف لا يرجعون ، ثقوا من ذلك ، أسأل الله أن يمن عليكم بذلك اليوم ويمكنكم من هؤلاء الخونة وممن وراءهم ممن دعموهم من أقزام وحكومات دول الجوار.
قلت : والشواهد المتواترة كثيرة بقرب حدوث ذلك الأمر بإذن الله ، وها نحن نسمع ما يروى عن بكاء وصياح جندهم حتى يبلغ صوتهم أعلى من صوت قرقعة القتال !! وعن غبائهم حتى أن المجاهدين يضربونهم من موقع واحد لعدة مرات ، أما عن انخلاع قلوبهم وأنانيتهم فيحدث المجاهدون أنه عند ضرب سيارة من رتل سياراتهم العسكرية فإن من ينجو منهم يلوذ بالفرار دون أن يأبه لما أصاب أفراد تلك السيارة ، ولا شك عندي أن الجندي منهم عندما أتى من بلاده كان يتمتع بالذكاء والشجاعة وكل ما يظن أنه سينجده عندما يحارب المجاهدين الصادقين.
ألم نفطن بعد إلى أن الله هو الذي بيده نواصي العباد وبين إصبعيه قلوبهم يقلبها كيف يشاء ، وإذا شاء أعمى أبصارهم وشل أيديهم وخيب رميهم ، وأنه يحفظ بحفظه المؤمنين ويدافع عن الذين آمنوا فماذا يملك العدو من ذلك أو تجاه ذلك ، بل إذا شاء جعل قلوبهم مع المؤمنين ، أما عن الآيات العديدة الأخرى فها نحن رأينا وسمعنا عن العناكب الضخمة التي تهاجم جند الأمريكان وحلفائهم في العراق ونشرت في قلوبهم الرعب ، والبعوض الذي يلسعهم ويتورم الجلد ويتساقط ولا علاج له ، وجاءت الروايات في صحف الكفار بكتائب مثل الأشباح تقاتل أثناء قتال المجاهدين ولا تصيبها أسلحة الأمريكان المتطورة ولله الحمد والمنة.
إنَّ من تابع عشرات التقارير الإخبارية التي تناقلتها الصحف والقنوات الإعلامية في الغرب والتي تنقل مثل هذه الأخبار والقصص يستطيع أن يتحسب ويدرك أثر تلك القصص بتفاصيلها المتشعبة على الغرب [ شعوب وجنود العدو ].
إن مثل تلك الآيات ومن قبلها غزوة نيويورك وواشنطن وما بينهما من الآيات تدخل أخبارها الآن كل بيت من بيوت الكافرين لا تترك بيت مدر ولا وبر إلا دخلتـه لتمهد الطريق بإذن الله لمرحلة فاصلة من مراحل جهاد المؤمنين في العصر الحاضر ، تلك المرحلة التي يدرك فيها العدو ويستيقن أنه يحارب الله ولن تعجب وقتها عندما ترى بعض من فيه خير وعقل من رجال وشباب جيوش الكفار الأصليين ومن رجال وشباب جيوش الردة ينضمون إلى قافلة الجهاد وكيف نعجب وقد حدثتنا كتب التأريخ عن انضمام العديد من قادة جيوش الصليبين لجيش صلاح الدين لما رأوا مثل تلك الآيات وهذا خالد بن الوليد عندما كان قائداً من أكبر قواد جيش الكفار يذهب بعد غزوة الأحزاب إلى المدينة فيلقى في الطريق قائداً آخر يسير إلى نفس الوجهة وهو عمرو بن العاص فيقول له إلى أين تذهب فيجيب : ( لقد اتضح الميسم.. وبان الطريق.. ما رأينا من أمر هؤلاء القوم وعون الله لهم وصبرهم إلا آيات شاهدة تثبت أن هؤلاء يحملون دين الله خالق السماوات حقيقة ).
لا تعجبوا إخواني فذلك سمة وهدف وبرهان في منهاجنا الرباني وطريقنا الدعوي والجهادي أن أعدى أعداء هذا الدين يمكن بقدرة الله الذي بيده نواصي وقلوب العباد وتدبيره للمؤمنين أن يتحولوا في لحظات إلى أتباع مخلصين له يريقون دماءهم في سبيله ويسبقون إلى الجنان الآلاف المؤلفة من شباب الحركات الإسلامية باردي التدين الذين عاشوا السنين الطوال بين المسلمين عيشاً كعيشة المخلفين من الأعراب نسأل الله العفو والعافية والمغفرة والتوبة لنا جميعا.
لا تعجبوا إخواني فعندما شج الكفار وجه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قال : لن يفلح قوم شجوا وجه نبيهم فأنزل الله عليه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ( ويقول الله عز وجل ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (.
يا الله.. فتنوا المؤمنين ويمكن أن تكون لهم توبة وحياة جديدة !!..
إنَّ ما قدمته أجيال المجاهدين من الهجرة والجهاد وترك الديار والمنافع والمصالح الدنيوية وإراقة دمائهم وهلاك نفوسهم في الجهاد وما لاقوه من أهوال لن يذهب هباء وسيعمل أثره ولو بعد حين.
فهذا عكرمة بن أبي جهل وسفيان بن حرب يحدث أحدهما الآخر بعد إسلامهما مباشرة : ( لقد سَبَقَنا القوم ، لقد عُذِّب وقُتِل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجروا وتركوا الديار والأهل وقدموا الأنفس والأموال والتضحيات الجسام فما بالنا نحن ) فكانت الإجابة : ( قم لننهض نقاتل أهل الكفر لعل الله يرزقنا الشهادة فيغفر لنا ويرفع درجاتنا ) فسبحان الله فهذه التضحيات والأهوال التي واجهت المجاهدين والمؤمنين لها مردود على الأجيال التي ستدخل الإسلام في المراحل القادمة بإذن الله ، ولها مردود آخر وهو أن الله أذن لها أن تقع حتى يبلغ العدو من الإجرام ما يستحق أن ينزل الله به عليه العذاب كاملاً غير منقوص ، فبالأمس يهبط الروس بمروحياتهم على قرية أفغانية رجالها في الجبال يجاهدون ولا يوجد بالقرية إلا الشيوخ والنساء والأطفال فقتلوا الشيوخ والأطفال وأركبوا النساء الطائرات وجردوهن من ملابسهن وألقوا بهن أحياء من الطائرات وعندما عاد المجاهدون خلعوا ملابسهم ليغطوا نساءهم وأخواتهم وأمهاتهم ورفعوا أكف الدعاء على الروس وبعد برهة قصيرة محق الله منهم الخلق الكثير في كارثة تشرنوبل ومكن الله المجاهدين من أن يكونوا أحد الأسباب الرئيسية في تمزيق الاتحاد السوفيتي شر ممزق ، وتابت جيوش من المرتدين من بلاد الاتحاد السوفيتي السابق والتحقوا بقافلة الجهاد في طاجيكستان والشيشان وأبخازيا وغيرها بل في روسيا نفسها حتى أننا في الشيشان رأينا جنرالاً روسياً من أصل شيشاني كجوهر دوداييف يقود الجهاد ضد أشرس جيش في العالم ولا يبالي ملقياً رتبته ومركزه ، كيف جاء أمثال هؤلاء ؟ أليس لما رأوا نماذج الصابرين أمامهم وثباتهم أمام أكبر ترسانة أسلحة في العالم ، وآيات الرحمن التي تتنزل عليهم وحقيقة القوى العظمى المزعومة.
نعم إنَّ من جوانب أحداث الأعوام الأخيرة أن يمحص الله الذين آمنوا ويظهر ثباتهم وصدق إيمانهم للناس ويمحق الكافرين ويتوب على من شاء منهم ويرينا آية ودليلاً على أن بيده وحده قلوب ونواصي العباد.
إنَّ الموازين بإذن الله ستتغير بمعدلات لا يصدقها العقل ، فسيفر جنود العدو من أمامنا ولن يرغب أحد منهم في مواجهتنا بل سنرى أخيارهم ينضمون إلينا بإذن الله ، فقط إذا أدركنا مفاتيح القلوب والعقول بما علمنا الله سبحانه وتعالى.
تلك المرحلة التي نأمل أن نكون على أبوابها يجب أن نستمر في التمهيد لها بما أمرنا الله ، كما جاء في الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم ".. إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " وقال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث : " وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة " - كأنه يقول عليه الصلاة والسلام : يا رب ، إني ضعيف ومن حولي لا يقدرون على أن يدفعوا عني ذلك - قال عز وجل : " استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نُغْزِك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك.. ".
إن الشرط والطريق الذي يجب أن نسلكه حتى نصل إلى تلك المرحلة وما يليها من أن نعيد القطعان الضالة من الكافرين إلى فطرتهم التي اجتالتها الشياطين بما يهيجون من غبار وشبهات وشهوات حتى يمنعوا الكافرين من رؤية الآيات في الكون وفي أنفسهم.. أقول : إن الطريق أن نعمل على أن نحرق على الكافرين ديارهم وبلادهم وأن نقاتل بمن أطاع الله من عصاه فإما أن يُمحقوا ويريح الله الأرض والبشرية منهم أو يسوق الله لهم الآيات والحجج لهدايتهم ، وهي أحب إلينا كما حدث مع قريش.
ولن تأتي الآيات كاملة إلا إذا دفعنا بالمؤمنين في أتون المعركة (.. اغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك.. ).
فأي تباطؤ أو تراجع أو مراجعات في ذلك الأمر خاصة أو ضن بالشباب الذين يتعين عليهم ذلك سينقص مقابله خمسة أضعافه من الملائكة وما يصحبها من الآيات الربانية.
إنَّ الدعوة بجهودها التقليدية لن تؤتي ثمارها المرجوة إلا إذا صاحبتها آيات وحجج ونماذج بشرية معاصرة تثبت المؤمنين وتلفت أعين الكافرين ولن تظهر تلك الآيات إلا إذا كان طريقنا الدعوي على منهج الصحاب الكرام وديدنهم الذي غلب على أعمالهم وهو الجهاد فبينما كان الدعاة معروفين بالاسم مثل مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وغيرهم من القراء رضي الله عنهم أجمعين كان أكثر الصحابة دعاة مقاتلين ، بل حتى هؤلاء الذين تخصصوا في الدعوة كانوا مقاتلين شهداء.
ما أريد أن أقوله من هذه المقالة :
إنَّنا في ساحة المعركة الكبرى التي نتربص فيها بالعدو ويتربص بنا فيها العدو ، وفي ساحة المعارك الصغرى عندما ترتفع قعقعة القنابل وهدير الرصاص عندما يدنو الموت من الرؤوس - عندما يحدث ذلك - تنقشع الغمامة عن الأعين وينكشف الغطاء ، أما من يرجو لقاء ربه فلا يعبأ بها ولسان حاله يقول ( مرحى بهذا الهول يا مرحى إن كان فيما يرضيك يا مولانا ) أما من لا يرجو لقاء ربه فهي لحظة الحقيقة فإما يهلك ، أو أن ينجيه الله فيجب أن نستغل حالته قبل أن تبرد حرارة اللحظة من جسده وعقله - ولعلها في عقله تكون ممتدة لفترة طويلة - إننا في هذه الأجواء الساخنة التي تمر بالعالم في أجواء المعركة الكبرى وبعد المعارك والعمليات الصغرى يجب أن نكثف خطابنا للبشرية لندعوها لوقفة تأمل لحقيقة الصراع ، ولنوقن أننا إذا فعلنا ذلك بأن زدنا نار المعركة وكثفنا خطابنا أثناءها.
( طريقة مباشرة وغير مباشرة ) أقول : إذا فعلنا ذلك فلنوقن أن الموازين ستتغير بمعدلات لا يصدقها العقل ، وكل ذلك ليس أوهاماً حالمة وإنما قصص تكررت على مدار الزمان حدثت مع كل فئة مؤمنة أيقنت بموعود الله وتوكلت على ربها حق التوكل طالبة منه المغفرة وتثبيت الأقدام.
أسأل الله أن يتوب علينا ويغفر لنا خطايانا ويثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين ، وأن يُبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعته ويُذل فيه أهل معصيته ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة الرابعة :
السنن الكونية بين الأخيار والأغيار
( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
ذكـرت في مقال قديم أن حقيقة المنهج السلمي الذي عليه جماعات كف الأيدي إنما هو مأخوذ من المنهج المعروف بمنهج غاندي ، بل لقد صرح بعض مفكري هذه الجماعات بذلك محاولاً الإيحاء أن منهج غاندي نموذج معاصر لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرحلة المكية ، تعالى دين الله عن إفك وبهتان هؤلاء.
علَّق أحد أدعياء الفهم نافياً أن تياره الإصلاحي يتشبه بغاندي قائلاً : ( أنه يمكن أن يتهم الحركات المجاهدة بالمقابل أنها على منهج مشابه لمنهج الجيش الأحمر الايرلندي ..!! لأن هذا الجيش يتبنى المقاومة المسلحة..!! ).
قد يستغرب هذا الدعي وكثير من القراء أن الرد عليه أن كلامه عن الحركـات المجاهدة صحيح بقدر ما !! مع بعض التحفظات.
وحتى نحل الإشكال الذي يظهر من هذه الإجابة كان هذا المقال :
بداية كان المقال المشار إليه يهدف إلى تبيين أن حركات كف الأيدي باتباعها منهج غاندي قد اتبعت منهجاً مخالفاً للسنن الكونية ولن يحقق الأهداف التي يسعون إليها ، وأن منهج غاندي المخالف للسنن ليس هو ما أسلم له ولحزبه مقادير الأمور في دولة الهند ودفع عنه غائلة الإنجليز ، والحقيقة أنَّ السنة التي دفعت الإنجليز أن يسلموا مقادير الأمور لغاندي كانت الجهاد الذي قام به المسلمون بالهند والمقاومة المسلحة التي قامت بها بعض الطوائف الأخرى التي قامت بإنهاك الإنجليز قرابة قرنين من المقاومة المتواصلة والتي كانت كلما خبت عادت أشد بدون يأس حتى نفد صبر الإنجليز ، مما دفعهم للقيام بتسليم مقاليد البلاد بطريقة سلمية لرجل له شهرة بطبيعة شخصيته ، تحفظ لهم مصالحهم بعد ترك الهند وتؤمن عدم قيام دولة مسلمة في هذه البلاد هذا على أحد التفسيرين لما حدث وعلى التفسير الآخر أن ذلك حلقة من مسلسل الخروج من المستعمرات وتسليمها لحركات عميلة سواء في قيادتها أو في الملتفين حول القيادة ، وترجيح أحد التفسيرين يطول شرحه ويخرجنا عن موضوعنا.
لذلك أهل العقل الصحيح مجمعون وعلى يقين أن حركة غاندي لم تخرق السنن ولم يظهر من خلالها سنة جديدة لم تعرفها البشرية ، وأن قيام الدول والتمكين لا يكون إلاَّ من خلال القوة وسُنَّة التدافع ، حتى الدول الديمقراطية قامت بعد حروب أكلت الأخضر واليابس ، حتّى تمّ غلبة أحد الفريقين على الآخر، فتواضع المنتصرون على هذا الشَّكل من النّظام السياسي ، وهذه الصورة من الحياة.
السُنَّة التي مكَّنت من قيام الدولة الإسلامية في المدينة هم الأنصار المسلحون من الأوس والخزرج الذين حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيجادهم طوال فترة وجوده بمكة ليبدأ بهم مرحلة التمكين حتى لو تطلب الأمر ترك الديار والأهل والمال لأنه يعلم أن الأنصار المسلحين هم من سيأتون بالمساجد والديار والأهل والمال وجميع المكتسبات ، وأوضح من ذلك دخول الكثرة في الإسلام واتساع الدولة حدث بعد الفتح والنصر تبعاً لسنن كونية لا تنخرم ، بينما منهج جماعات كف الأيدي يتجنب جمع الأنصار المسلحين بحجة أن ذلك سيؤلب عليهم الأنظمة الطاغوتية مما يعرض مكتسبات دعوتهم للخطر زعموا !! ، ويتجنب الهجرة إلى بلاد أو أراضٍ أو جبال بها أنصار وتؤمن التدريب على الجهاد حتى لا يُتهموا أنهم يسعون لتقويض دولة الطواغيت !! وتحت حجة أنهم لا يريدون أن يفرغوا الديار من الدعاة - زعموا - ، وهم بذلك خالفوا السنة الشرعية بالمرحلة المكية التي هي سنة كونية أيضاً ، وسهلوا على الطاغوت أن يقوم كل فترة - بدون عناء - بحصد تلك المكتسبات الدعوية متبعاً سياسته المعروفة [ سياسة خلع الأنياب ] تاركاً جماعات كف الأيدي تدور في حلقة مفرغة سوداء مظلمة لتبدأ من نقطة البداية من جديد وأحياناً من خلف نقطة البداية وأحياناً لا تستطيع المعاودة ولنا في تونس عبرة.
لقد وقفت كثير من الحركات الإسلامية التي نشأت بعد سقوط الخلافة طويلاً أمام الإجابة على سؤال : ما هي الطريق الشرعية لإحياء دولة الإسلام ؟ وقد أخذ هذا السؤال شوطاً بعيداً من الوقت والجهد للوصول إلى الجواب الصحيح ، أو لتحديد معالمه خاصة في وجود أسئلة أخرى عجزوا عن الإجابة الواضحة عليها سواء في توصيف الواقع أو حكم الله فيه.
ومن يتأمل في الأمر يجد أن دولة الخلافة سقطت ، والدول الاستعمارية كانت منهكةً من كثرة المقاومة التي كان كثير من فصائلها حركات إسلامية ، لكن للأسف أكثر هذه الحركات لم تتوصل للإجابة الواضحة على كثير من التساؤلات الهامة التي كانت الإجابة عليها ستجعلهم يقفون الموقف الشرعي الصحيح المتفق بالتأكيد مع السنن الكونية ، مما كان سيمكنهم من تغيير الواقع طال الزمن أو قصر ، فقط على الأقل كانوا بالإجابة الصحيحة سيضعون أنفسهم على أول الطريق المستقيم الصحيح بدلاً من هذه الحلقة المفرغة التي وضعتهم فيها الوساوس الشيطانية التي تملأ عقولهم.
عند سقوط الخلافة كانت جميع الأحزاب اليسارية واليمينية في مجتمعاتنا في طور النشوء ، إلا أنَّ هذه الأحزاب وخصوصاً اليساريّة شدّت الخطى وسعت بتقدّم ناجح نحو أهدافها في بناء دولهم ومجتمعاتهم بينما كان المسلمون في تنظيماتهم يتناظرون فيما بينهم على الطريقة النبويّة في إقامة دولة الإسلام ، وهو أمر مشين معيب ، وعلى الرغم من أن أهل الإسلام كانوا يملكون الرصيد الأكبر لتحصيل الغلبة في امتلاك الدولة ، لكن بكلّ سهولة ويسر تحوّل مَن لا يملك الرَّصيد إلى حاكمِ دولةٍ ومن يملكُ الرصيد إلى مُهاجر مُطارد لا يملك مترَ أرض يموت فيه مرتاحاً.
لقد بنى النّاس دولهم وأقاموا لها الأساسات والعُمُد ووثّقوا أركانها وجَنَوا خيراتها وربّوا الأمّة على ما يريدون ، وكسبوا مواقع متقدّمة ، وما زال أهل الإسلام يتناظرون ويتشاجرون حول الطّريقة المثلى لإقامة الدّولة الإسلاميّة ؟!! وكلّ المتناظرين يزعمون أنّ دليلهم فيما يقولون من إقامة الدّولة الإسلاميّة مشتقّ من الطّريقة النّبويّة.
وللأسف ما زال بعض الناس يظنُّ أن هذه الطريقة تحتاج إلى مزيد من الكشف والدراسة ، ومازال الكثير من أهل الدين يجمع الناس ليحدّثهم عن الطريقة المُثلى في إسقاط الطواغيت ، أو الطريقة المثلى في إحياء دولة الخلافة.
الإخوان المسلمون في مصر أيام حسن البنا بلغ تعداد جماعتهم قرابة المليون كما تقول الروايات ، في بلد تعداد سكانه وقتها حوالي عشرين مليون ، أما تنظيمهم الخاص [ العسكري ] فقد كان يشتمل على جهاز مخابرات أقوى من جهاز مخابرات الحكومة المصرية حتى أنهم رصدوا مجموعات الشباب للأحزاب الأخرى التي كانت تتدرب للقيام باغتيالات للإنجليز وأعوانهم من الحكومة المصرية ، بينما مخابرات فاروق لم تكن تدري شيئاً عن ذلك ، وليرجع القراء إلى كتاب [ النقاط فوق الحروف ] لأحمد عادل كمال ، وهو واحد من أبرز أعضاء الجهاز الخاص للإخوان في الأربعينات والخمسينات ، ويشرح فيه أحمد عادل كمال بكل صراحة مدى التخبط المنهجي والخلل الذي أضاع منهم الفرصة وقتها ، وقد بين فيه أن جمال عبد الناصر كان يعتمد على تنظيم أضعف بكثير من تنظيم الإخوان بل كان دعم الإخوان له قبل وبعد الثورة عامل نجدة له في السنوات الأولى للثورة ، بالطبع الإخوان وقتها أخذوا جانباً غير مكتمل من سنة المدافعة ولكن حرفوا مسارها وأهدافها ، ثم بعد ذلك تنكروا لها بالكلية ، ونبذوها وراء ظهورهم مع أن الجزء الذي أخذوه وقتها من هذه السنة كان تقريباً الشيء الوحيد المستقيم في منهجهم.
لقد كان الشيخ الطنطاوي - غفر الله لنا وله - يستطيع أن يحرّك دمشق كلّها بخطبة واحدة من خطبه ، وكان يستطيع أن يحشد أهل دمشق إلى أيّ قضيّة يريد ، بالرغم أن عدو الله ميشيل عفلق - أحد مؤسسي حزب البعث - لم يكن يستطيع أن يجمع حوله مائة شخص من أجل تنظيم مظاهرة أو درس ، بل لم يكن يستطيع البعثيّون والشّيوعيّون أن يكسبوا أصوات الجهلة في قرى سوريا حتّى يضعوا أمام أسمائهم لقب شيخ أو حاج.
المسلم المهتدي معه توفيق الله تعالى وبالتّالي هو أقرب إلى تحصيل أهدافه من الكفّار ، ومن أسماء الشرع عندنا : الهداية ، ومعناها البصيرة في إدراك المطلوب ، فبالتّالي ما هو شرعيّ أقرب إلى غيره في الوصول إلى الهدف فمُمْتَثِل الطّريقة الشّرعيّة أقرب من العاصي في إدراك المراد.
لماذا حتى الآن لم يسأل المشايخ أنفسهم : لماذا وصل الكافر إلى هدفه وجنى المسلم ضدّ مراده ؟ لماذا بنى البعثيّون دولتين وشيوخ الإسلام لم يجدوا مأوى لهم ؟ مع أنّ كلّ أدوات المعركة كانت بين أيدي المسلمين ومشايخهم كما قدّمنا وكان القليل منها بيدِ أعدائهم خلافاً لواقعنا الآن.
أليس هذا السؤال يوجب عليّ وعلى كلّ عاقلٍ -لم يؤجّر عقله لغيره - أن يعتقد أنّ ما قاله المشايخ عن الطريقة النبويّة في إقامة الدولة الإسلاميّة هو خطأ على الطريقة النبويّة ، وليس خطأ من الطريقة النبويّة ؟
إنَّ الطريقة النَّبوية هي عينها الطريقة الكونيّة في إقامة الدُّول إلاّ أنّ الخطاب الشرعي لا يَثبُت إلاّ بدليلٍ شرعي ، وبالتّالي فإنّ مِن الخطأ الشّنيع أن يظنّ أحدٌ أنّ السّيرة النّبويّة لها نظام خاصٌّ وقواعد مستقلّة خارج نظام وقواعد وسنن التّغيير السّننيّ في البشر جميعاً ، وهذا فيه ردٌّ على أولئك الذين يجعلون الطّريقة النّبويّة طريقة خاصّة لا يعرفها إلاّ أهل الإسلام في إقامة الدّولة.
إنَّ الطريقة الكونيّة التي يسلكها عقلاء البشر في بناء دَولتهم هي عينها الطريقة النبويّة في إقامة الدولة الإسلاميّة ، لأنّ الدَّولة شيءٌ وجوديٌّ كونيٌّ واسمها يُطلق على شيء واحد عند البشر جميعاً ولكن المضاف إلى هذه الدولة هي الأحكام والقِيَم التي تحكم بها هذه الدولة ، فهذه دولة إسلاميّة لأنها تحكم بالإسلام وقِيَمُها مستمدّة من الإسلام ، وهذه دولة شيوعيّة لأنها تحكم بالقيم الشيوعية ، وهذه دولة بعثية لأنها تحكم بقيم حزب البعث ، ولكن اسم الدولة مشترك بينها جميعاً وهو يُطلق على شيءٍ وجودي واحد ، والشيء الوجودي [ السُنَّة القدريَّة ] شيء جامع للبشر جميعاً بغضِّ النظر عن دينه وقيمه.
من الممكن أن أدلل على ما جاء بالمقال بكلام لعلماء السلف كابن القيم وابن تيمية ، ولكن ما فائدة ذلك إذا كان القوم عقولهم لا تدرك ذلك بدون أقوال هؤلاء الأعلام.
من مجمل ما سبق يتضح للقارئ كيف أني عقبت على كلام المعترض على المقال السابق أن كلامه صحيح بقدر ما ، ولكني ذكرت أن هناك بعض التحفظات منها :
- أن أهداف الأغيار قد يختلط فيها أهداف مشروعة في ديننا وأهداف غير مشروعة ومن ثم تكون السنن الكونية التي تحقق لهم أهدافهم مختلطة بما هو جائز وما هو غير جائز.
وذلك لأن كل السنن الشرعية والوسائل المشروعة أو المأمور بها شرعاً لتحقيق هدف ما ؛ هي أنجع السنن الكونية لتحقيق ذلك الهدف ضرورة لأن الله أكمل لنا الدين وأنزله لنا يهدي للتي هي أقوم ، بينما القدر الكوني لا يلزم أن يكون شرعياً ، فإن السرقة تحصل بها على المال إلا أنها غير مشروعة.
للأغيار أهداف تشابه الأهداف المشروعة للمؤمنين وأهداف مغايرة ، فمثلاً هدفهم إقامة دولة لكن مثلاً تجد العزة فيها لعنصر طائفي معين ، أما المؤمنون فالناس عندهم سواسية والدولة عندهم من أهدافها رحمة جميع الخلائق ، لتؤمن فيها الدعوة لهداية البشرية التي أضلها الشيطان ، وعدم إهدار أموال وإزهاق أنفس بدون داعي ، لذلك حتى تتحقق لهم أهدافهم تحتاج لما ينال بها من أسبـاب كونية ،فأخذهم بالقتال كسبب كوني يحيطونه بأسباب أخرى كونية - وهي شرعية بالطبع - تحقق مجموع أهدافهم ، فهم يتجنبون تقصد الأطفال والنساء ما دام لا توجد مصلحة شرعية أكبر في استهدافهم - كردع العدو على القيام بمثل ذلك في مذهب بعض أهل العلم - ، وهم لا يتقصدون العدو لعنصره وجنسيته فمن تاب من العدو وأصلح يأخذ بعمله مكانة في الدنيا والآخرة أكبر من المؤمن السابق ، ما دام عمله أفضل.
بينما الأغيار قد لا يراعون هذه الضوابط إلا لحاجتهم لأهداف أخرى أو أهداف تشابه أهداف أهل الإيمان.
كذلك الأغيار لا مانع عندهم من الاتحاد الكامل مع من يخالفهم كلياً في اعتقادهم ضد عدو مشترك ، في حين أن من أهداف أهل الإيمان صفاء المبدأ والعقيدة عن الخلط والفساد ، فلا يعملون بهذه السنة في هذه الصورة ، ولهذه النقطة الأخيرة درجات وتفصيل.
كذلك انتصار المبدأ والأجر الأخروي مقدم على المصالح المادية عند المؤمنين ، لذلك فقد يستمرون في المعركة على الرغم من تحقق الهزيمة رغبة في نيل الشهادة أو عدم الرضوخ أمام الأعداء ، بينما الأغيار قد يرضخون أمام الأعداء لتحقيق هدف معين ، أو لتحصيل بعض المصالح المادية أفضل من لا شيء.
أهم ما نريد أن نخرج به من هذه التحفظات :
(1) أن أخْذَنا بالأسباب الكونية ينبغي أن يتحدد طبقاً للأهداف الشرعية التي نسعى إليها ، فلا يحدث منا تجاوز ، فعند استفادة الحركة المجاهدة من كتب الأغيار في فنون الحرب كحرب العصابات وغيرها من كتب فنون وأساليب الحروب والقتال ينبغي الحذر ومراعاة أنهم وضعوا في هذه الكتب أساليب يحققون بها أهداف تشابه أهدافنا الشرعية مع أهداف لا تشابه أهدافنا الشرعية.
الحمد لله انتشر في العقد الأخير في ظل الانترنت أبحاث كثيرة لأهل التوحيد تم فيها تنقية لكتب فنون الحرب عند الأغيار مما لا يجوز ، إلا أن الأمر لا يسلم من احتمال الحاجة لاستعمال بعض كتب الأغيار عند تعذر الحصول على الكتب المنقحة لذا لزم التنويه ، ولقد كانت الساحة في العقود السابقة مشحونة بكتب لبعض الجماعات تضفي - بالتدليس والخلط - الشرعية على أغلب المنهاج السياسي والعسكري للأغيار - خاصة السياسي - مدعية زوراً وبهتاناً أن ذلك من السياسة الشرعية النبوية ، بينما الأبحاث المنضبطة وقتها كان من الصعب الحصول عليها ، ونحن نحذر هنا أنَّ الكتب السياسية والأمنية والعسكرية التي وضعتها الحركات البدعية - كالإخوان - هي أكثر خطورة من كتب الأغيار من حيث كونها تخلط بين سطورها أدلة الكتاب والسنة ووقائع السيرة بعد تحريفها ، بينما كتب الأغيار الكل يقرأها وهو يعلم أن واضعها كافر ، إنَّ اختراق الفكر الإخواني للبنية الفكرية للجماعات الجهادية خطيرٌ ومدمر ، وإذا كانت الجماعة دعوية جهادية كان التدمير أشد ، خاصة أن في الكتابات القديمة لبعض رموز الإخوان دعوة للجهاد يظن القارئ لها أن كاتبها متأصل في الفهم ، في حين أنهم يخلطون في المفاهيم وتقريباً لم ينج من ضلالاتهم - ممن انتسب إليهم - إلاَّ الشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - وشرح ذلك يطول.
القصد : يجب أن نعتبر بما حصل في الجهاد الأفغاني الأول من حكمتيار هدانا الله وإياه وسياف ورباني ، ولولا خشية الإطالة لنقلت كيف أن الأصول التي تربى عليها هؤلاء كانت الكتابات الإخوانية المنحرفة ، مع عدم المقدرة على التمحيص خاصة لكون أصولهم أعجمية ، لذلك قيل إذا أراد الله بأعجمي خيراً هداه إلى صاحب سنة.
(2) الأمر الثاني : الذي يجب أن نتنبه إليه - وهو مرتبط بالأمر الأول كذلك - وهو أن السياسة الشرعية عند أخذها بالسنن الكونية التي أخذ بها الأغيار أخذت بها في صورتها المثلى.
فمثلاً الحركات اليسارية تركز على أهمية المال وتضع له تأثيراً كبيراً في حركتها وحركة أعدائها ، بل تعتبره أكبر دافع يحرك الصراع والمعارك بين البشر ، أما السياسة الشرعية عندنا فهي لا تغفل دور المال وتأثيره على البشر لكن لا تجعله المحرك الوحيد أو الدافع الرئيسي للصراع خاصة بالنسبة للمؤمنين ، والشرع يؤكد على أن حاجة نفس المؤمن للعبودية للخالق أكبر دافع ومحرك للصراع وأنَّ ذلك ما تمليه الفطرة السوية على أي إنسان لم تنتكس فطرته ، كما يؤكد على دور المال في الصراع بما يتفق على حجمه الحقيقي ، قد يكون عند أغلب قادة الأعداء وكثير من الجند والأتباع محرك أساسي ، لذلك كان الضغط الاقتصادي على الأعداء من السياسة الشرعية ، إلاَّ أنه عند صف المؤمنين فالأمر مختلف فالسياسة الشرعية لا تغفل عن كون المال محركاً لبعض المؤلفة قلوبهم ومحركاً ثانوياً وتابعاً لبعض الصف المؤمن ، إلاَّ أنه غير أساسي لتحريك القاعدة الصلبة من المؤمنين ، كذلك الشرع يجعله عنصراً أساسياً كوقود للمعركة والصراع عند الطرفين ، لذلك تجد الآية تشير إلى أن المال عصب المعركة وأن نضوب النفقة على المعارك والنفقات الضرورية العادية يؤدي إلى انفضاض من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلاَّ أنَّه يطمئن المؤمنين أنه إذا انقطعت أسباب المنفقين على تكاليف المعركة والنفقات الضرورية للمؤمنين فإن لله خزائن السماوات والأرض ، كل ذلك مع حث المؤمنين على النفقة في سبيل الله والتأكيد على أحكام شرعية تجعل موارد للمال كالزكاة والغنيمة ونحو ذلك.
نأخذ مثالاً آخراً لذلك الأمر ألا وهي السرية فنجد أن الشرع لم يغفل أهمية السرية كسبب كوني في الأمور العسكرية لكن لم ينس الشرع أننا في الأصل حركة هداية فعندما نغالي في الأخذ بالسرية نخرج من حيز حركات الهداية إلى حيز عصابات المافيا أو طرائق الحركات الباطنية ، بل إن المبالغة في السرية بهذه الصورة المغرقة قد تعوق تنمية الكم بأن تجعل الحركة يمر عليها السنين الطوال ولم يتحصـل لها إلا أعداد هزيلة ، وتعوق تنمية [ الكيف ] وقد بينت ما يتعلق بالـ[ كيف ] في خاتمة الدراسة التفصيلية ، ولذلك وضع الشرع هذه السنة الكونية [ السرية ] بصورة مُثلى تناسب طبيعة الحركة والمنهاج الإسلامي.
ومن الأمثلة أيضا لهذا الأمر ما ذكرناه في خاتمة الدراسة التفصيلية فيما يخص الانقلاب العسكري ، وبينا أنه قد ينجح كسبب كوني لقيام دولة الإسلام بصورة جزئية وذلك لأن عناصره ناقصة فينتج عنه نتائج ناقصة لا تلبث أن تنتكس ، وهو حل يمكن القيام به كجزء مكمل لحركتنا لكن لا تُبنى عليه أساس الدولة الإسلامية كما حدث من العبد الصالح أبي فيروز الديلمي رضي الله عنه مع الأسود العنسي ، نعم هو حل يأخذ بجانب من السنن وقد يقيم دولة للقائمين عليه كأفراد لكن يصعب استمرار هذه الدولة على صورة إسلامية متكاملة إلا إذا كان هذا الحل جزءاً من خطط وأعمال الحل السنني المتكامل الذي طرحته الدراسة المفصلة ، فقد كانت حركة أبي فيروز الديلمي رضي الله عنه جزءاً من حركة الجماعة المسلمة ولم تكن عماد التحرك لها ، مع ملاحظة أنه قد يكون حل سنني متكامل لحركة غير إسلامية هدفها فقط الوصول للحكم أما المنهج الإسلامي فله أهداف متعددة.
ومن الأمثلة أيضا للنقطة الأولى والثانية معاً : المؤسسات التي يتكون منها كيان الحركة أولاً وكيان الدولة ثانياً ، من مؤسسات سياسية واقتصادية وعلمية فقهية وعلمية دنيوية ، يدخل هذا الأمر في الواجبات التي يأمر بها الشرع تحت نصوص عامة وخاصة ولكن محاولة البعض للقفز بإقامة هذه المؤسسات قبل أوانها أو دون الطريقة الشرعية الكونية المثلى ومحاولة تقليد الأغيار كاليهود والشيعة الروافض والأحزاب السياسية الطاغوتية يؤدي حتماً إلى الوقوع في المخالفات ، فاليهود يتقربون لأصحاب القوة والسلطان حتى لو كانوا يعتقدون بكفرهم ، فهم يعتقدون بكفر النصارى ولكن بنوا مؤسساتهم قبل دولتهم بالتقرب لكل كافر يملك القوة والسلطان ، لذلك أحيانا نقرأ لبعض الاتجاهات الإسلامية كلاماً يبين أهمية السنن الكونية ولكن عندما ننظر إلى التطبيق نجد الخلل واضحاً ، فقد كتب حاكم المطيري أمين عام الحركة السلفية بالكويت مقالاً بموقع الإسلام اليوم ذكر فيه كيف أن تجاهل الجماعات الإسلامية للأخذ بسنة القوة والسعي الجدي للتمكين والحصول على السلطان أولاً يجعلها تدور في حلقة مفرغة ، حتى أنه قال صراحة (.. لقد ضل أكثر علمائهم ودعاة الإصلاح فيهم عن هذه السنن الإلهية.. ) ، وقال : إن هذه الحركات استحالت أن تحصل على الكثرة ولو مر عليها آلاف السنين بدون سلطان ، ولكن عند التطبيق نجد أن حركته تسعى للقوة عن طريق التقرب للطواغيت أهل القوة في بلده ، بل للتقرب للأمريكان حيث صرح هو وقادة حركته أخيراً عندما اجتمعوا هذا العام بالسفير الأمريكي ووفد أمريكي مرافق : أن مشاريع الأمريكان في المنطقة فيها الخير الكثير !! فماذا اختلف هؤلاء عن طريقة اليهود أليس فقط الاختلاف الوحيد بينهم وبين اليهود هو دياثة اليهود باستخدامهم النساء للتقرب من أهل السلطان والقوة.
القصد : الإسلام يجعل بناء المؤسسات المشروعة بالقوة المشروعة التي تأتي عن طريق مشروع ، مع ملاحظة أنَّ أيَّ عمل بنائي لمؤسسات أو غيرها يمكن تحصيله في مرحلة البدايات بدون قوة وسلطان لا يمنع الشرع من تحصيله مادام مشروعاً وموضوعاً في توقيته السنني الصحيح.
في النهاية نؤكد على أن الدّنيا دار سنن لا يجوز تركها أو معارضتها ، فهي تطحن من وقف أمامها أو تلعّب بها أو تغاضى عنها بحجّة انشغاله بصلاح قلبه أو بأوراد ذكره وعبادته ، فالسّنن الإلهيّة لا تُحابي أحداً ولا تتخلّف لأمنية رجلٍ كائناً من كان وهذا من تمام رحمة الله بعباده ، والصحابة رضي الله عنهم خير مَن جَمَع الإتقان السننيّ للكونيّات والفَهمَ السّننيّ للشّرعيّات فاستحقّوا الولاية الدّينيّة والولاية الكونيّة ، نسأل الله أن يجعلنا على هديهم ويلحقنا بهم إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة الخامسة :
منهاجنا رحمة للعالمين
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (
الحمد لله والصلاة والسلام على الرحمة المهداة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعث بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده وجعل الذل والصغار على من خالف أمره وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد :
فالمتأمل في هذا الدين الخاتم يجد أثر الرحمة في كل ما شرعه الله لعباده : العبادات - حتى التي فيها مشقة وتحتاج إلى صبر - لا يتذوقها عابد إلا وعلم مقدار ما فيها من رحمة تتدفق على جوانب مختلفة من حياة الفرد والمجتمع ، أما المعاملات فقد شرع الله للبشرية منهاجاً للمعاملات والآداب بين البشر في المجتمع الواحد حتى أصغر وحدة فيه [ الأسرة ] وبين المجتمعات المتجاورة ما يشهد بربانية هذا الدين وكونه منزلاً من لدن رب عليم رحيم بعباده.
وقد يتعجب البعض عندما نقول إن عبادة الجهاد على الرغم مما يحف طريقها من الدماء والأشلاء والجماجم ، وما تشمله شعائرها من قتل وقتال هي من أكثر الشرائع رحمة بالعباد ، إن لم تكن أكثرها بالفعل ، خاصة أن كثيراً من تفاصيل شعائرها في شرعنا قد اختص به نبينا عليه الصلاة والسلام وأتباعه مما يجعلها من أكثر ما يدخل في مفهوم الآية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (.
أسئلة كثيرة نحتاج للتأمل في إجاباتها : لماذا جعل الشرع أهمية كبيرة لهذه العبادة ؟ حتى إنه جعلها ذروة سنام الإسلام ، لماذا جعل تاركها حال الوجوب موسوماً بالنفاق ؟ بل من لم يحدث نفسه بها في الجملة على شعبة من النفاق ، لماذا رغب الشارع فيـها بجعل الرزق الذي يأتي عن طريقها أشرف الأرزاق , حتى لا ينشغل عنها منشغل بتحصيل الضروري من الرزق ؟ لماذا هي رحمة للعالمين ؟
طرحنا هذه الأسئلة ليتأملها ويعقلها المؤمنون ، وفي هذا المقال سنناقش السؤال الأخير ، أقول وبالله التوفيق :
المعادون لهذه العبادة بتفاصيلها التي شرعها رب السماوات يتفاوتون ما بين غلاة وخبثاء وجهال ، وإن كان الجهل يجمع بينهم جميعا ، أما الغلاة فهم المتشددون والحمقى من الكفار الأصليين من يهود ونصارى وغيرهما الذين يتهمون الإسلام بكل شرائعه بالقسوة وعدم الرحمة وهؤلاء من حماقتهم يشتكي بنو قومهم ، أما الخبثاء فهم من نفس الفئة السابقة والذين يقولون الإسلام دين الرحمة والسلام والجهاد تطرف وغلو !! وهو ليس من الإسلام في شيء ، أما من يجمع بين الغلو والخبث والجهل والبلاهة - أو يحمل بعض ذلك - فهم بني جلدتنا ممن اتبع سنن من كانوا قبلنا ودخلوا معهم حتى جحر الضب ، فمنهم من ارتد بالكلية كالأحزاب القومية والديمقراطية والبعثية ، ومنهم غرق في الضلال من بعض الحركات الإسلامية السلمية ، والمفارقة هنا أن الأحزاب المرتدة وإن أنكرت أن الجهاد الهجومي من شرعة الإسلام إلا أنها تقر وتدعو لجهاد الدفع على تفاوت بينها ، بينما الحركات الإسلامية السلمية مع إقرارها النظري بالجهاد الهجومي والدفاعي فإنها تضع لهما من الشروط ما لم يتحقق منذ نزول الوحي ، وغير ذلك عندهم منافٍ للرحمة يعين على الفساد !!
ما سنركز عليه هنا هو تبيين أن كل هذه الأصناف من كفار ومرتدين وضلال قد اتخذوا من المناهج ما جلب الشقاء على البشرية وأبعدها كل يوم عن الرحمة المهداة من رب العالمين ، وأن المنهج الذي يصوره الشيطان في عقول البشرية أنه مليء بالقتل والدماء هو أكثر المناهج رحمة بالخلق ، وأكثرها حقناً للدماء.
بداية : علينا أن نعلم أن خالق هذا الكون الهائل البديع لا يمكن إلا أن يكون له صفات الكمال وله الكمال في الصفات ، فهو الخالق البارئ المصور وهو الرحمن الرحيم وهو المنتقم الجبار المتكبر ، وأن جميع أقدار الله الشرعية والكونية هي مقتضيات أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
ومن تمام رحمته بعباده أن يعلم عباده فوائد ما فرض عليهم من شرائع على لسان نبيهم ، من خلال تجربة من سبقه من أنبياء لتظهر لهم حكمة الله في التشريع ، ليشعر النبي وأتباعه أن هذا الفارق له ما يبرره من حكمة الله تعالى ، فسبحانه في علاه يدعوهم إلى الحق بكل الصور التي تدفعهم للقبول والرضا ، إذ لا يشرع سبحانه لعباده من أمرٍ إلا ويقطع لهم من الحقائق الكونية التي تثبت لنفوس البشر التواقة للمعرفة أن ما قاله وشرعه موافق لما خلقه وأبدعه ، ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق ُّ (.
لقد خلق الله الإنسان ومن عليه بالسمع والبصر وغير ذلك ، وسخر له ما في الأرض ورزقه من الطيبات ثم بعد ذلك يكفر ويشرك به ويسفـك الدماء ويهلك الحرث والنسل وينتهك حرمات الله ويفسد في الأرض ، ولأن رحمة الله - سبحانه وتعالى - سبقت غضبه فقد أرسل الرسل تنبه البشرية إلى ما فيه هدايتها وتحذرها من عاقبة الكفر والشرك بالله ومخالفة أمره وما فيها من فساد يعم الأرض ويضر بالبشر ، وكل ذلك يؤدي إلى غضب الرب ونزول عقابه في الدنيا والآخرة لأنه رب حكيم منزه عن العبث فهو لم يخلق هذه الدنيا عبثاً ، ولأنه رب حكم عدل منزه عن الظلم لن يترك الظالم يظلم ويفسد دون عقاب يرده عن فعله.
وعلى الرغم من رحمة الله بإرسال الأنبياء إلا أن أكثر الناس اتبعوا الشيطان وعاندوا الأنبياء ، وقبل أن ينزل الله شرعة الجهاد أراد أن يُري البشر المصير دون جهاد حتى يروا تمام حكمة الشارع سبحانه وتعالى ، فالمصير كان رهيباً : معاندة غبية من أغلب البشر واتباعٍ للشيطان حتى يضيق الأمر بالأنبياء عندما يرون أن الأمر يزداد سوءً يوما بعد يوم ، وأن الكافر والمعاند لا يلد إلا ذرية يقوم بتربيتها على الكفر والمعاندة ، فيلحق الجيل الجيل الذي بعده وهكذا الأجيال تفسد في الأرض وتنشر الكفر والفساد بين البشر ، بل ويعمل هؤلاء على فتنة القلة المؤمنة سواء بضغط مباشر أو بفتنة علو الكفر وأهله في أعين القلة المستضعفة من المؤمنين ، ويكون مصير الجميع أهل الكفر ومن فتن وانقلب من القلة المؤمنة الجحيم المؤبد في الآخرة ، وهذا الضيـق من الأنبياء ليس عندهم في شرعهم ما يدفعه سوى أن يدعوا الله أن ينزل عذابه على الكافرين ولو كانوا بالملايين ، فينزل الله عذاباً هائلاً يليق بجبروته وغضبه لانتهاك حرماته ومحاربة أوليائه ، عذاب يحقق العدل الغائب عن الأرض ولعذاب الآخرة أشد ، ( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (.
وكل هذا أيضا من تمام الرحمة بالبشرية في الدنيا وآخرة ، أولاً : حتى لا يتسبب ترك الحبل لهؤلاء في إفساد الأرض وتدميرها بعد أن يعم الكفر والشرك والظلم البشرية ، وثانياً : إنقاذاً من النار لأجيال قادمة ستأتي متأثرة بهذه الآية الربانية إلى أمد حتى يصيبها النسيان وينجح عدو الله وعدو بني آدم في إضلالهم مرة أخرى.
مع ملاحظة هامة أرجو التنبه لها : أن عذاب الله الدنيوي كان يعم أهل الشرك والكفر والظلم ومن لم ينههم من أهل الإيمان.
أما في هذه الرسالة الخاتمة فرسولنا عليه الصلاة والسلام أرسل رحمة للعالمين والشرائع التي نزلت عليه كلها أرحم بالبشر ومنها الجهاد في سبيل الله ، فهو أرحم بالبشرية من أن ينزل عليها عذاب الله الهائل مباشرة ، فشرع الله لهذه الأمة القيام بعذاب من يستحق العذاب بأيدي المؤمنين ، مع نزول عذاب الله أحياناً لو تأخر أهل الإيمان أو تقاعسوا عن النهي والجهاد أو ينزل عذاب الله بصورة جزئية إعانة للمجاهدين خاصة في ظل ضعفهم كسنة من سنن الدعوات , قال تعالى ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( وقال سبحانه : ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (.
فجعل الله في السيف وقفاً للكافرين عند حدهم ومنعاً لتماديهم وهداية لبعضهم ، بينما عذاب الله الذي كان ينزل في السابق كان لا يبقي إلا المؤمنين.
من أسياف المسلمين التي نزلت على من يستحقها رحمة بالبشرية :
سيفٌ على المشركين من العرب حتى يسلموا ، قال تعالى ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (.
وسيف على اليهود والنصارى والمشركين من غير العرب حتى يسلموا أو يسترقوا أو يقادوا بهم وهم من سبوا ربهم بنسبة الولد له أو أشركوا به ، قال تعالى ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (.
فرحمة بمن خلفهم نزل السيف عليهم وحتى يعود منهم من قدر الله له الهداية..
وسيف نزل على الممتنعين ممن ينتسب للقبلة ، وهؤلاء إذا عمت فتنتهم ألحقوا بالبشرية العذاب ، فلنأخذ الربا كمثال : وهو كما يقول شيخ الإسلام آخر المحرمات ومعصية ترتكب برضا الطرفين ، فما بالنا بالامتناع عن شرائع قد يرضاها طرف دون طرف ، في هذا المثال عذاب شديد حتى قال أهل التفسير : إن أخوف آية نزلت في القرآن نزلت فيه ، لأنها تهدد المؤمنين بالعذاب الذي أعد للكافرين قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين َ( لذلك نزل السيف على أهل البلد من المسلمين رحمة بهم إذا فعلوا هذه الكبيرة ، وقد اتفق علماء الأمة على ذلك السيف ، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ( قال أهل العلم تعليقاً على هذه الآية أن ذلك ليس فقط في من يستحل الربا بل وفي من فعله فقد اتفقت الأمة أن من يفعل المعصية يحارب كما لو اتفق أهل بلد على التعامل بالربا.
ومن الأسياف أيضا التي تلحق بالسيف السابق السيف على كل مرتد حاكم أو محكوم ، علم هذا الدين ثم خرج منه يفتن المؤمنين وينشر الفساد والظلم في الأرض.
و مما يجلي - أكثر - المفاهيم والمعاني التي نريد أن نخرج بها من هذا المقال أن جميع أصناف المنكرين على أهل الإيمان العمل بالجهاد قد جروا على البشرية من القتل والدمار والفساد أكثر مما ينسبونه زوراً إلى أهل الجهاد أنه من نتائج الجهاد في حين أن حقيقته أنه من نتائج فسادهم وإفسادهم ، تعالى شرع الله على أن يكون فيه شيء من الفساد ، أقصد بأصناف المنكرين جميعهم من يهود ونصارى ومرتدين [ القوميين والبعثيين والديمقراطيين ] وكذلك من ضلال الحركات الإسلامية السلمية ، وبيان ذلك كالتالي :
- أما اليهود والنصارى فقد ارتكبوا في القرن العشرين وحده من المذابح فيما بينهم ، وعلى رقاب المسلمين ما لم يتم ارتكابه في تأريخ البشرية كلها ، حتى أن أقسى الناس سيرة كالتتار لم يسفكوا من الدماء مثلهم ، وقد أهدروا من أموال المسلمين وأموالهم - التي هي مال الله في الحقيقة - على ترويج الكفر والفسق والفجور بينما ملايين البشر تموت جوعاً ما لو تم تعداده في كتاب لما صدقته بعض العقول.
- أما القوميون والبعثيون والديمقراطيون فقد جروا على الأمة من إفساد الدين وهلاك النفوس ما تقشعر له الأبدان ، فما قام به صدام والأسد ومبارك وفهد والحزب الاشتراكي باليمن وغيرهم في جانب هلاك النفوس فقط يفوق من قتل في جميع حروب المجاهدين في هذا القرن ، مع الفارق أنهم أهلكوا الناس في سبيل الشيطان ، وما دفعوا عذاب الله عن الأمة سواءً بتسليطنا بعضنا على بعض أو بغير ذلك ، بينما المجاهدون قاموا بذلك في سبيل الحق والعدل ونصرة دين الله ، ودفعاً لعذاب الله أن ينزل على الأمة - فيجب أن نتنبه لذلك - أنه لو لم يقم الجهاد في بلد لأنزل الله من العذاب عليه أو من تمكن الكفر ما يتضاءل بجواره أي مفاسد متوهمة من الجهاد والتي هي في حقيقتها من أفعال المجرمين ولا تُلام عليها فريضة الجهاد بحال.
- أما الحركات السلمية فإن تركهم للجهاد وحثهم للأمة على ترك الجهاد أهم أسباب نزول عذاب الله على الأمة ، سواء بتسليط بعضنا على بعض - في غير نصرة الدين - أو بتسليط أعداء الله وتجرؤهم علينا أو بغير ذلك من الكوارث التي ينزلها الله كالزلازل ونحو ذلك.
والغريب أن هذه الحركات الإسلامية السلمية تأنف أن تضع أيديها في أيدي أهل التوحيد الجهاد ، بل وتسوغ حربهم واستئصالهم بحجة أنهم يسببون القتل للأمة - زعموا - في حين أنه لا مانع لديهم من وضع أيديهم في أيدي طوائف وفرق وأحزاب سياسية ونصارى ممن ارتكبوا أكثر المذابح فظاعة ودناءة ، وهم يعلمون أن هؤلاء يعدون مرتكبي المذابح أبطال قوميين في تأريخهم [ المجيد ] ! ، سواء كانوا حزبا أو دولة ، وتجد هذه الحركات الإسلامية لا مانع عندها من الاتحاد أو التعايش أو المحاورة واللقاءات والابتسامات مع كل سفاح سفك دماء المسلمين ، في حين يفعلون نقيض كل ذلك مع المجاهدين !! وسبحان من هدى قوما وأضل آخرين.
البشرية تنتقل من كفر إلى كفر أشد ، ومن يتابع أحوال الغرب في العقود الأخيرة يرى بوضوح دركات الكفر والفسق التي تنزل فيها جيلا بعد جيل ، بل وتظن أنها تزداد رقياً ، فكفرها يتجذر يوماً بعد يوم ، أما أمتنا فهي تنتقل من ضلال إلى الأكثر ضلالاً ما بين كفر وفسق ، فالناس تموت على التعامل بالربا والخنا وعلى التحاكم للقوانين ، وكل ذلك عاقبته العذاب في الدنيا والآخرة ، ومن عذاب الدنيا تسلط من يكلف البشرية أضعاف أضعاف القتلى في الجهاد وفي سبيل رفعة دين الله ، وكل ذلك من السنة القدرية التي قدرها الله على العباد ولهذا شرع القتال لهذه الأمة ليكف به بأس الكافرين ويعذب من يشاء ويتوب على من يشاء برحمته ممن يعرف بعلمه أنه يستحق الهداية ، لذلك فالحل وعلاج ذلك كله بأن يقاتل الدعاة بكل ما تعنيه كلمة قتال من معنى ، وفي ذلك كما قلنا تمام الرحمة بالعباد ، حتى أنه يأتي أناس يوم القيامة يُجرون إلى الجنة بالسلاسل كما في الحديث ، فإن كان هناك عجزٌ شرعي حقيقي وجب رفع العجز ، قد يقول قائل أين الدعوة وأين الأمر بالمعروف ودرجاته أقول : الدعوة لها دور لم يفقهه القاعدون حتى الآن ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دور لم يفقهه ولم يقم به القاعدون حتى الآن ، وقد تناولنا ذلك فيما مضى من مقالات وفي الدراسة التفصيلية.
أسأل الله أن يبصرنا بديننا وعظمة شرائعه وتوافقها مع سنن الكون , والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة السادسة :
فتنة المصطلحات.. المصلحة والمفسدة نموذجاً
( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد :
لا نبالغُ إذا قلنا أنّ فتنة الشعاراتِ والمصطلحاتِ في هذا العصرِ هي أعظمُ الفتن التي عصفت بالناس بصفةٍ عامةٍ والشبابِ المسلم بصفةٍ خاصة ، بل حتى في العصورِ والأممِ السابقةِ ما انحرفَ الناسُ عن طريقِ الهدى إلا خلْف الشعاراتِ البرَّاقةِ التي تؤمِّنُ لهم شهواتهم ، وترسِّخُ من الشبهاتِ والوساوس التي تملأ عقولهم ، أمّا في أمةِ محمّدٍ عليه الصلاة والسلام فكلّما ابتعدنا عن القرنِ الأولِ كان وقعُ هذه الفتنة أشدّ ، فإذا أراد الله بعبده خيرًا عصمه منها ووفّقه لصحبةِ أئمة الهدى ، الذين هم قائمون إلى قيام الساعة يذبّون عن الملّةِ تأويلَ المبطلين وتحريفَ الغالين ، ثابتون تحت رايةِ الكتابِ والسنّةِ بفهم الصحابة الكرامِ ومن تبعهم بإحسان.
الألفاظُ التي جاءت في الكتاب والسنّةِ تتعلق بها أحكامٌ شرعيةٌ وقدريةٌ ، فإذا قام أحدهم بإفسادِ هذه الألفاظِ العظيمة وقعت الأحكامُ الشرعيةُ - بالتالي - على غير وجهها ، ومن هنا تحدث الفتنةُ التي خافها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة أكثرَ من فتنةِ الدجّال.
سأتكلم في هذا المقالِ عن ضربين من أهمِّ الضروبِ التي تقع عليها هذه الفتنة , وقد أشار إليهما الشيخ عمـر محمود أبو عمر - فك الله أسره - في دروسه المنشورة على الشبكة ، ثم سأتوسّعُ بذكر مثالٍ هامٍّ على الضرب الثاني من هذين الضربين.
الضرب الأول : رفضُ بعضِ المتصدرين للشبابِ التعاملَ مع الواقع بالحكم الشرعي والألفاظِ الشرعيّة المحددة ، واللجوءُ إلى إطلاق العباراتِ والألفاظِ الفضفاضةِ وتوسيعها كالعباءةِ التي إذا لبسها السمين أو النحيف كانت جيدةً لأيٍّ منهما ، فعندما تحدث مشكلةٌ أو مصيبةٌ أو وضعٌ يتطلب جهادًا أو حركةً يأتي البعض إلى أحد هؤلاء المشايخ فيبادرُ بإطلاقِ هذه العباراتِ المطّاطةِ لسترِ جهله أو جُبنه ، أو من أجلِ ألاّ يحاسبَ أو يُراجعَ لو ظهر الأمرُ بخلافِ ما ذهب إليه ، من أجلِ أن يبقى هو الرجلُ الذي لا يخطئ ، صاحبُ الفكرِ والتنظير وأحقّيةِ الرجوعِ إليه بالفتوى والاستشارة ، فيهرب من الألفاظِ الشرعيّةِ المحددةِ التي تنشئ موقفًا وحركةً وإرادةً ، والتي تُلزمه وتُلزمُ السائلَ بالفروضِ الشرعيّة ، ويترقب من بعيدٍ إلى أين تسيرُ الأمور ، أهو الجهادُ قد آتى أُكُلَه ؟ فحينئذٍ هو مسعّرُ حربِه وصاحبُ الرأيِ الذي أفرزه ، وإذا حدثت هزيمةٌ قدَّرها الله لأيّ سبب ، أخرجَ عصاه من تحتِ عباءَتِه يمارسُ الجلدَ على المسلمين ، فهم في هذه الحالة السَّببُ في كلِّ المصائب ، بينما هو عاصمُ الأمة من الضلال !! ، مع أنه لا يشكّ متأملٌ أنَّ أحدَ أهمِّ أسبابِ الهزيمةِ وقتَها - بل لعلّه يكون أهمها - كان تلاعبُ هؤلاءِ بالأمّةِ والشبابِ ، وتركِهم في حيرةٍ مع تمييعِ الأحكام الشرعيّةِ الخاصّةِ بالحالةِ الجهاديّةِ التي تمرُّ بهم ، خاصّةً عند من وثق فيهم من الشباب ، والحالُ في كلِّ مرّةٍ يغني عن السؤال ، فلا الشبابُ يعرف هل الجهادُ فـرضٌ من الفروض ، أو هو وسيلةٌ من الوسائلِ يمكن الاختيارُ بينها وبين غيرها !! ولا الشبابُ يعرف الأحكامَ التفصيليةَ لقتالِ طوائفِ الأعداء ، فتجدُ أحدَهم عندما يُسأل عنهم يجيب أنهم مجرمون ، فإن قيل له نريد حكمًا محددًا مفصَّلاً تُبنى عليه حركةٌ وإرادةٌ وأحكامٌ شرعيةٌ محددةٌ يهربُ ويصرُّ على ألا يزيد عن قوله إنهم مجرمون !! - ليتنبه القارئ أن المقال لا يتحدث عن علماءِ السلاطين-.
القصد : [ الهروب إلى العمومات ] هو فَنُّ المشايخ الذي يتقنونه بعد إتقانهم فنَّ الشِّعارات ، وإلا فأين هي أبحاثُ المشايخ التي تبينُ حكمَ الله في الأممِ المتحدةِ وميثاقها والشرعيّةِ الدوليّةِ ؟ وحكمَ الله في نظامِ الجنسيّةِ وترسيمِ الحدودِ والوطنية ؟ ما حكمُ الله المفصّل في كلِّ هذه الأمورِ وغيرها مما تهرّبَ من الحديث عنها المشايخ ؟ وكذلك ماذا قال الله في علاجِ ما ينتجُ عن هذه الأمور من أحكام ؟
الضرب الثاني من الضروبِ التي تقعُ عليها فتنةُ المصطلحاتِ كذلك هو : تحديدُ المصطلحاتِ تحديدًا خاطئًا منحرفًا ، فيتخرجُ عن ذلك تحريفُ المعاني والأحكامِ التي تتخرجُ على هذه الألفاظ والمصطلحات ، ومن هنا تنشأُ فتنٌ وفسادٌ عريضٌ بين الناس ، وتدورُ الأمةُ في قضايا زائفةٍ مفتعلةٍ لا تخدم دينَ الله.
حيث يتمُّ إفساد معاني الألفاظِ العظيمةِ التي تكلمَ بها الله - سبحانه وتعالى - وتكلم بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي تعليق الأحكامِ الشرعيّةِ على غيرِ وجهها ، فإذا نظرنا مثلاً إلى مصطلحِ [ الإيمان ] تسبَّبَ الخطأُ والخلطُ في تحديده إلى فسادِ الفهمِ والعملِ في أحكامٍ شرعيةٍ كثيرةٍ تتعلق به ، كذلك أحكامٌ قدريةٌ لا تقعُ ولا تتحققُ إلا بتحققه ، كذلك ليتأمل القارئُ لفظَ [ الكفر ] أليس عارًا أن تقودَ جماعةٌ الشبابَ سنينَ طويلةً فإذا وقعت فتنةٌ فإذا هم لا يعرفون مدلولَ كلمةَ [ الكفر ] ؟!
مصطلحَ [ الجهاد ] : كيف تقاتل الأمةُ بعضَها بعضاً في سبيلِ الطاغوتِ ويسمّون ذلك [ جهاداً ] ؟ والناس يسيرون خلف هذه الكلمةِ العظيمةِ الشريفةِ ولكنهم يموتون في غيرِ سبيلِ الله.
وللأسف مصطلحاتٌ كثيرةٌ في واقعنا المعاصرِ كان الخطأُ - عن قصدٍ أو عدمِ قصدٍ - في تحريرها وتحديدِ المعاني التي يتنزلُ عليها لفظُها السبب في فسادٍ عظيمٍ وفتنٍ لا تنقطع ، سواءً في جانبِ الإفراطِ أو التفريط وعلى سبيل المثال لا الحصر : [ الحربي / المدني / الجاهلية / الطاغوت / المرحلية / المصلحة والمفسدة ] بل إنّ مصطلحَ [ فتنة ] نفسَه تَسبَّب عدمُ تحريرِه في الوقوعِ في الفتنة !! فما هي الفتنةُ التي يجبُ على المرءِ أن يعتزلها ؟ وما هي الفتنةُ التي يجب على المرءِ أن يكونَ وسطَها وفي معمعتها فإذا ماتَ ماتَ شهيدًا ؟ والتي تكون فيها الفتنةُ هي اعتزالُ الفتنة ؟.
ولنتوقف هنا قليلاً عند مصطلحٍ يتداخلُ مع كل حركةٍ من تحركاتنا في مسيرةِ تغييرِ واقعِ الأمة ، والخروجُ بها من النفقِ المظلمِ التي دخلت فيه ، ألا وهو مصطلح [ المصلحةِ والمفسدةِ ] ، وسنختارُ لبيانِ التحريفِ الذي حدث في تنزيل ذلك المصطلحِ على الواقعِ قضيةً واحدةً وهي قضيةُ [ المصلحةِ والمفسدةِ في الخروجِ على الحاكمِ المرتدّ ] وهي مثالٌ عمليٌ جيدٌ لقضايا الجهادِ المماثلةِ في قتالِ الكفّارِ الأصليّين الذين يصولون على ديارِنا في القرنين الأخيرين والتي حدث الانحرافُ في التعاملِ معها بسببِ عدمِ فهم مصطلحِ المصلحةِ والمفسدةِ وتحريره تحريرًا صحيحًا.
يبدأ أهلُ التحريفِ بمقدمةٍ صحيحةٍ أنّ أوامرَ الشرعِ جاءت لتحصيلِ المصالحِ وتكميلها ودرءِ المفاسدِ وتقليلها ، ويدخل في ذلك الأمرُ بالخروجِ على الحاكمِ المرتدّ ، والأمرُ حتى هنا صحيحٌ ، لكن ذهبوا بعد ذلك إلى قياسِ جهادِ الحاكمِ إذا ارتدَّ على أحكامِ دفعِ ظُلمِ الحاكمِ المسلمِ الظالمِ ، فجاءوا بأقوالٍ ننتظرُ منهم إلى يوم القيامة أن يأتوا لنا بسلفٍ لهم فيها وهيهات ، ونتج عن ذلك الخطأِ خلافاتٌ في الساحةِ الإسلاميةِ كنّا في غنىً عنها لو كان موقفهم من هذه القضيّةِ سلفيًّا ، وتم رفعُ شعارِ المصلحةِ والمفسدةِ بالباطلِ في وجه أهلِ التوحيدِ والجهاد ليصرفوا الناس عن الجهاد ، وبيانُ خطأهم باختصارٍ كالتالي :
إن الخروجَ على الحاكمِ المرتدِّ جهادُ دفعٍ مأمورٌ به ، وهو فرضُ عينٍ على الأمّةِ مالم تتحقق الكفاية ، وقد نقل ابنُ حجرٍ الإجماعَ على ذلك بقوله : ( ينعزلُ الإمامُ بالكفرِ إجماعاً فيجبُ على كلِّ مسلمٍ القيامُ في ذلك ، فمن استطاع فله الثوابُ ومن عجزَ فعليه الهجرةُ ومن داهنَ فعليه الإثم ) بل الأمرُ بجهادِ الحاكمِ المرتدِّ يدخلُ تحتَ كلِّ الآياتِ والأحاديث الآمرةِ بجهادِ الكفارِ والمرتدين ، بينما الخروجُ على الحاكمِ الظالمِ غيرُ مأمورٍ به أصلاً ، وإنما دفعُ ظلمه يدخلُ تحت بعضِ النصوص العامة ، بل إنّ الأصلَ هو الأمرُ بالصبر وعدمُ دفعِ ظلمِ الحاكم المسلم إذا كان دفعه سيؤدي لظلمٍ أكبر ، بل إنَّ دفعَ الظلمِ بصفةٍ عامةٍ لا يستلزمُ نزعَ اليد من الطاعة ، فبأيّ أصلٍ يمكنُ قياسَ الضوابطِ التي وضعها العلماءُ حولَ دفعِ ظلمِ الحاكمِ المسلمِ الظالمِ على جهادِ الحاكمِ الكافرِ أو المرتدّ ؟! فإذا علمنا أن أصغرَ طالب علمٍ مبتدئٍ يعلم أن قتلَ النفوس في الجهاد واحتمالَ وقوعِ هزيمةٍ لم يكن أبدًا مفسدةً معتبرةً لتعطيلِ الجهاد ، علمنا مقدارَ الدجلِ الذي مارسه القومُ لإدخال مفاسد لم يعتبرها الشارعُ في هذه القضية قياسًا على قضيةٍ أخرى يعتبر فيها الشارعُ هذه المفاسد ، فيجب أن نعلم أن المفسدةَ التي ثبتَ الحكمُ مع وجودها بالدليل الشرعيِّ تكون مفسدةً غير معتبرة.
يدندن القومُ حولَ الأمن والأمان والطمأنينةِ ورغدِ العيش - في ظلّ حكمِ القوانين الوضعية !! - للمجتمعات الإسلامية التي يحكمها المرتدون ، وهؤلاء تناسوا أننا في هذه الأوضاع - على الحقيقةِ إذا تم توصيفُ الواقعِ بطريقةٍ سلفيةٍ منضبطةٍ - أقول إنَّ الواجبَ علينا في أوضاع الأمن أشدُّ من الوضع الذي يفرض علينا جهادَ دفعِ العدو الصائل أثناء صياله بكل ما يعنيه ذلك الوضع من عدمِ الرضوخ بحالٍ ومقاومةِ ذلك العدو حتى نهلك دونَ ذلك ، وبيانُ ذلك كالتالي :
يتصور البعضُ - بعقليتهم الفذة - أن جهادَ العدوّ الصائل فقط عند بدايةِ قدوم هذا العدو بقواته بينما إذا استقرّ هذا العدوُّ وتحقق له غرضه فإن من المفاسدِ إفساد ذلك الاستقرار والأمن الذي يعيش فيه الناس!! بينما في الحقيقة أنّ المصلحةَ - كلَّ المصلحة - في إفسادِ ذلك الاستقرار لأنّ الكافرَ أو المرتدَّ إذا استقرَّ واستتبَّ له حكمُ بلدٍ ما سيبدأ في العمل على إخراج الناس من دينها ، ولينظر القارئُ إلى الشيشان الآن والشيشان قبل ربعِ قرنٍ عندما كان هناك شعبٌ يعيش في أمان وقد سلخه الحاكم الكافر عن دينه ، بينما من أراد أن يقرأَ في المصحف فعليه أن يذهب إلى غرفةٍ خفيةٍ أسفلَ المنزل يقرأُ فيها كتاب الله ويخشى أن يعلم بذلك أحد ، وليتأمل القارئ جهادَ المجاهدين في الجزائرِ على مدارِ نصفِ قرنٍ بدون انقطاعٍ تقريبًا وليغمض عينيه وليتخيل الجزائرَ بدون جهادٍ ، ولينظر لمثال تونس بجوارها فإن فيه الكثير من العبر لمن يفهم عن الله ورسوله ويعلم طبيعةَ الكفر وأهله.
إن ما يبين خذلانَ الله للقوم وعقابه لهم بعدمِ الفهم جراءَ قعودهم ، أنهم يجعلون المفاسد التي تقع على المخلّفين تمنع من القيامِ بالجهاد ، ولسانُ حالهم يقول إذا قعد قاعدٌ عن الجهاد وتسبب قعوده في تأخير النصر وطول المعركة ووقوع المفسدة عليه وعلى القاعدين أن يتوقف المجاهدون عن الجهاد ويجلسوا بجوار المخلفين الذين هم السبب في ذلك !! فإن هؤلاء المخلفين واجبٌ عليهم قتال المرتد كما نص ابن حجر ونقل الإجماع على ذلك ، وبهم - وهم بالملايين - يغلب الظنُّ بالظفر وذلك حريٌّ أن لا يسقط الوجوب إلى الاستحباب بحال ، فهل يقول عاقلٌ أنّ بقعودهم وبما يتسبب عنه يُلزِمون المجاهدين بترك الجهاد ؟ ، هؤلاء في أحسن أحوالهم أن يكونوا مستضعفين - مع كون ذلك لا يثبت في حقهم بالمقياس الشرعي - فإذا كانوا من المستضعفين ففي التقيةِ والهجرةِ مندوحةٌ لهم في تجنب أضرار الجهاد التي لا ينفك عنها جهاد - فإذا عجزوا عن الهجرةِ ولم تنقذهم التقيةُ من تلك الأضرار فهم شهداء إذا قتلوا ومأجورون إذا وقع عليهم أيُّ إيذاءٍ ، ولا يتحمل وزرَ هذا الإيذاء الجهادُ والمجاهدون بحالٍ وإنما يتحمل وزره الكافرون المرتدون الظالمون أولاً ، وثانيًا يشارك في الوزرِ من وقع عليه الإيذاءُ ممن يأثم بقعوده لقدرته على اللحاق بالمجاهدين ، حتى إنّ شيخ الإسلام أشارَ أن القتل والإيذاء يكثر في الفارّين من القتال أكثرَ مما يلحق بالمجاهدين.
ونريد أن نؤكِّد كذلك على أن من طبيعةِ الجهاد منذ البعثةِ النبويّة أن يخرج من بين الصفوف غلاةٌ يسفكون الدماءَ المعصومةَ ويسببون من الفتنِ ما الله به عليم ، ولا تكون هذه مفسدةٌ ينبغي وقفُ الجهاد من أجلها ، ومن طبيعته كذلك خروجُ من ينقلب على عقبيه من بين الصفوف ولا تعتبر تلك مفسدةٌ نوقِفُ الجهادَ من أجلها ، وهذا الصديقُ رضي الله عنه يأتيه الفجاءةُ فيطلب منه مالاً ورجالاً لقتال المرتدين فيعطيه المالَ ويؤمِّره على مجموعةٍ من الرجال فيصبح بهم قاطعَ طريقٍ يقتل المسلمين والمرتدين ويأخذ مالهم ، حتى أنه قتل أناساً جاءوا يبايعون أبا بكر وقد حرقّه الصديق رضي الله عنه بعد ذلك ، وما دعا ذلك الصديق رضي الله عنه ليوقف الجهاد ، بل إذا انقلب البعض تحججًا بمثل ذلك يجب قتالهم أيضًا ، فقد ارتدَّ بعضُ النصارى على عهد عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قائلين إن دينَهم الذي كانوا عليه أفضلُ من هذا الدين الذي لا يمنع أصحابَه من سفكِ الدماءِ وإخافةِ السبيلِ ، وقاتلهم علي بن أبي طالب على الردة ، ومازال الله يَزيغُ قلوبَ أقوامٍ ليرزق منهم المؤمنين إلى قيامِ الساعة ، وهذه هي طبيعة الحياة لو نفقه هذا الدين ، ويجب أن نعلم أنه لو توقف الجهادُ والدفع لفسدت الأرض ، هكذا نصَّ كتابُ الله وهكذا فهم الصحابةُ السننَ والدنيا من حولهم ، فهم يعلمون أنهم لو تركوا الكافر ليستقرّ فسيحدث من الفساد الكبير الذي تتضاءل بجواره أيُّ مفاسد أخرى ، وسيحق من عذاب الله في الدنيا والآخرة ما يتمنى الناس إذا عرفوه أن ترفع راية الجهاد مهما جاء من وراء رفعها.
أسأل الله أن يمكن لأهل التوحيد الجهاد ويقمع أهل الشرك والإفساد ، والحمد لله رب العالمين.
(((((((المقالة السابعة :
الاستقطاب والمال
( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد :
كف بأس الذين كفروا وكف شرورهم عن المسلمين مقصد شرعي وهدف هام ينبغي أن تسعى إليه الحركة المجاهدة بكل الوسائل المشروعة التي تبلغنا هذا الهدف ، فإذا عملنا ليس فقط على كف بأس الناس عنَّا بل تحويل بأسهم وقوتهم لصالح المسلمين لتحققت من مقاصد الشرع ونلنا من الخير لأهل الإيمان أكثر من كف بأسهم فقط.
إذا سألنا أنفسنا لماذا يعمل القادة العسكريون في جيوش الكفر الأصلي أو جيوش الردة مع أعداء الله ؟ ولماذا يعطي المُطاعون في الناس - وهم لهم قوة وسلطان بحكم أن لهم أتباع - الولاء لأنظمة الكفر والردة ؟ سنجد أن الإجابة باختصار أنه يوجد جانب عقدي عند بعضهم ، لكن هناك جوانب أخرى تزيد من دافعهم لإعطاء الولاء للأنظمة الكفرية ، فأنظمة الكفر بما تملك من إمكانيات توفر لهم الراحة والأموال والرفاهية وكل مغريات الحياة ، فعلى الرغم من ضعف عقيدة الكفر بصفة عامة أمام فطرة الإيمان المفطورة عليها النفس البشرية إلا أن الجوانب الأخرى التي ذكرناها تجعلهم في غفلة عن الآخرة واطمئنان للدنيا وزينتها.
وقد عالجنا في بعض المقالات السابقة بعض هذه الجوانب وبينا كيف أن الردع الذي يطال القادة والأتباع يدفعهم للتوقف عن نصرة العدو ، فضلاً على أن حرارة معركة حامية الوطيس تحرك نفوسهم لاستبيان حقيقة الصراع ، وكل ذلك يدفعهم إلى الانضمام لجانب أهل الحق ليموتوا على الإيمان بدلاً من أن يخسروا الدنيا والآخرة بموتهم في صف أهل الكفر والظلم أو على الأقل يفروا ويقفوا على الحياد انتظاراً لنتيجة المعركة ، وبينا كذلك أن استهداف اقتصاد العدو سياسة شرعية للضغط على العدو ليعلم أن الاستمرار في حرب أهل الإيمان فيه خسارة الدنيا والمصالح التي هي غرضهم الباطن في الحقيقة ، والمغلفة بالشعارات والمبادئ الكاذبة.
وفي هذه المقالة نتناول جانباً آخر هاماً من جوانب استقطاب الناس لصف أهل الإيمان ، وهو جانب الاستقطاب بالمال لتأليف قلوب الناس من الأعداء وممن هم على الحياد ، فنعطيهم شيئاً من الدنيا لجذب ولائهم لنا.
ونقدم لهذا الجانب بمقدمة هامة :
أن الأوامر الشرعية جاءت لتجلب أكبر قدر ممكن من المصالح ودفع أكبر قدر ممكن من المفاسد ، فهي لا تجلب كل المصالح في الغالب ولا تدفع كل المفاسد في الغالب ، وذلك ليس لعجز الشارع سبحانه وتعالى عن الإتيان بأوامر تجلب كل المصالح وتدفع كل المفاسد ولكن لطبيعة النقص التي في البشر وهذه الحياة بحكم أنها مخلوقة طبعت على النقص ، كذلك إن الحكمة الإلهية ومقتضيات كمال أسمائه وصفاته تجعل من هذه المفاسد في الحقيقة جزءً من عظمة وكمال حكمة الله سبحانه وتعالى في الأقدار التي قدرها.
كما قلنا أن بعض الناس يدخل في ولاء أهل الباطل للمـال فقط مع علمه بالحق ولكن حب الدنيا وإيثارها لا يلحقه بأهل الإيمان ، فعندما نوفر لهم هذا المرجح يدخلون في ولاء أهل الإيمان ، فإذا دخلوا واختلطوا بأهل الإيمان وعايشوا أحوالهم ورأوا النور والكرامات والآيات وخالطت قلوبهم بشاشة الإيمان لانت قلوبهم للحق وعملوا لأجل الدين فقط وقدموا أرواحهم فداه وصلى الله وسلم على نبينا الكريم الذي لم يترك لنا خيراً في الدنيا ولا الآخرة إلا ودلنا عليه وعلى هذا سار صحابته قادة الدنيا من بعده.
فعلينا توجيه هؤلاء المؤلفة قلوبهم ( أغلبهم سيكونون من الشعوب والجنود المسحوقين اقتصادياً وبعض الرتب الدنيا من الجيوش ) أقول علينا توجيه هؤلاء بصفة خاصة والمؤمنين بصفة عامة أن ما عند الله خير وأبقى ، فتذكير الجميع يتم في أجواء المعركة التي يتربون في أحداثها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (.
بعض هؤلاء المؤلفة قلوبهم بالمال قد يرتد بعد ذلك ويسبب بلاء للمؤمنين لأنه التحق بهم بدون نية صالحة ولم يتربَّ على الطاعة من البداية ولكن تربى على العطايا والمادة والمصلحة وأعطى ولاءه من أجل المال ، ومع كون هذا قد يحدث في منتصف الطريق عند هزة مثل وفاة الرسول أو القائد أو عند انتكاسة ونحو ذلك وقد يتسبب عن ذلك مفاسد عظيمة إلا أنه كما نخرج من المقدمة التي قدمنا بها أن إدخال هؤلاء في صف أهل الإيمان في البدايات [ حال الضعف ] يجلب من المصالح ما يفوق المفاسد العظيمة التي تقع بعد ذلك ، كما أن درء تلك المفسدة وتحصيل المصلحة الكاملة لن يتحقق عقلاً وشرعاً أو قل قدراً وشرعاً ، فكما قلنا أن أوامر الشرع جاءت لدرء المفاسد وتقليلها وجلب المصالح وتكميلها ، فأن يكون لدينا جميع القادة متربين على الإيمان فقط مصلحة كاملة لكنها لن تتحقق قدراً لأن الجاهلية وأهلها لن يمكنوننا من ذلك ، ومفسدة ارتداد البعض تحقق مصالح أخرى بعد ذلك ، بأن تستكمل القاعدة الصلبة [ قاعدة أهل الأيمان ] تربيتها في دفع مصاعب جديدة من نوع جديد وتبصر المؤمنين بطبيعة الناس والحياة ومعرفة سبل الشيطان واتخاذ شهداء وتمييز الخبيث من الطيب ليجتبي الله من يحبهم ويحبونه الذين لا يخافون لومة لائم ويجزي الشاكرين ، فهو حدث يُشكل وجدان المؤمن وقد بينا ذلك في قاعدة [ التربية بالحدث ] ، فضلاً وهو الأهم عن تحقق مصلحةٍ من وراء الاستقطاب بالمال لن نستطع تحصيلها لو اتبعنا مثالية لا تناسب الظرف القدري المرافق لمرحلة البدايات وما يصاحبها من سنن ، وهذه المصلحة هي أنه عند ارتداد هؤلاء تكون قد تكونت قواعد انطلاق للمؤمنين والسيطرة على أرض وبلاد كمأوى ومنطلق لتكوين دولة الإيمان ومرافق وأجهزة ومعدات..الخ ، ونستطيع بما تحصلنا عليه أن نعالج الردة الجديدة إذا حدثت - لا قدر الله - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
لكن يجب أن تعرف عصابة الحق من قواعدنا الصلبة ومن الشباب المجاهد تفاصيل أحكام تأليف القلوب بالمال ومنها : أن من قاتل من أجل المال لا أجر أخروي له ، ومن كانت نية المال أو الغنيمة تابعة وليست أصلية ونيته الأصلية أن تكون كلمة الله هي العليا نقص أجره بحيث أن من سلم وغنم عُجل له ثلثي أجره ، ومن أريق دمه وتلف ماله أخذ أجره كاملا ، وأن الأنصار تركوا ما حضـروا له أنفسهم من المال في غزوة حنين من أجل تأليف قلوب الطلقاء ، وليعلموا أنه ممكن لهم أن ينالوا المال في النهاية كما نالـه الصحابة وأبناء الصحابة والتابعون إلا أن فتنته أشد من فتنة الفقر ونحن لا نملك ثبات الصحابة رضوان الله عليهم ، فكما جاء في الحديث ".. ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُفتح عليكم فتهلككم كما أهلكتهم..".
لقد آن الأوان للراسخين في العلم من أهل التوحيد والجهاد لتأصيل وبيان تفاصيل تأليف القلوب بالمال ، فعليهم أولاً أن يخرجوا أصول هذه الأحكام وتفاصيلها من كتـب فقه الجهاد وكتب السياسة الشرعية وتنزيل هذه الأصول والتفاصيل على واقعنا المعاصر ، والاجتهاد في الصور الحادثة التي يمكن أن نقوم بها بما لا يخالف الشرع ، وهناك أمثلة كثيرة في الواقع يمكن أن نستفيد منها بتنزيل هذا الفقه العظيم الذي أعتقد أنه آن أوان تطبيقه في ظل التطورات القريبة للمعركة الحالية ، فعلى سبيل المثال نحن نعلم أن للأمير أن يجعل لمن قتل قتيلاً سلب هذا القتيل ، فهل يجوز للقيادة العليا للمجاهدين مثلاً أن تجعل لقادة وجيوش وحراسات العدو إذا التحق أحدهم بأهل الإيمان - وقتل قبل أن يلتحق بهم ويفر إليهم وزيراً أو أحد الأمراء وأمثال هؤلاء - مبلغاً أكبر من سلب القتيل ولتكن عشر ثروته مثلاً ، على أن يتحصل عليها بعد تمكين المؤمنين وكل ما عليه فعله أن يكفي المؤمنين شر ذلك الأمير أو الوزير على أن يرتب أن يفر إلى مكان آمن بعد ذلك لحين الالتحاق بأهل الإيمان ، قلت : هذا مثال فقط والأمثلة كثيرة ومطلوب من الراسخين في العلم أن يتباحثوا في مدى شرعية مثل هذه الخطوات بحيث يبدأ القادة الميدانيون بتطبيق بعضها حال التخطيط ووضع الاستراتيجيات.
كذلك طرحت أبحاث سابقة لأهل التوحيد والجهاد أن من أهدافهم : إعادة توزيع ثروات المسلمين ، وآن الأوان لتجلية المقصود من هذه العبارة وبيان أحكامها التفصيلية لكون هذا الأمر أولاً يخص مرحلة هامة قادمة في معركتنا - أعني عند حصول تمكين جزئي بإذن الله - وثانياً يتعلق بما تكلمنا عنه في هذه المقالة من استخدام المال العام في تأليف القلوب ، فعلى الراسخين في العلم أن يوضحوا للناس بالدليل كيفية توزيع ثروات المسلمين توزيعاً عادلاً ، أولاً : كل بلد فيها ثروات تختلف عن البلد الأخرى ، ولولا السرقة والنهب لكانت شعوبنا من أغنى الشعوب ولكن عند التوزيع العادل لثروات المسلمين هل تجمع ثروات المناطق وتوزع على المسلمين ؟ أم تختص كل منطقة بثرواتها , وكل ما في الأمر أن عليـها إخراج زكاة أموالها - التي بالطبع ستكون وفيرة ومتنوعة بفضل الله - بحيث توزع الزكاة في المناطق الأخرى التي ابتليت بالفقر ؟ ، ثانياً : عن كيفية توزيع المال العام بين المسلمين هل هناك أفضلية وتخصيص زائد لمن يعطي من [ الناس والقبائل والأحزاب والتجمعات ] الولاء والنصرة والإيواء ويجاهد بنفسه وماله ممن هم دون ذلك من الذين اكتفوا فقط بأصل الإسلام.
القصد هناك مسائل كثيرة دقيقة وحساسة ينبغي بحثها وتأصيلها من الآن حتى لا يقع فيها أخطاء قد تكلفنا الكثير وتفتح أبواباً من الفتن نحن في غنى عنها ، أو ترسب بقايا في النفوس عند البعض نستطيع تلافيها إذا كانت هناك قواعد معلنة مبنية على الدليل والاجتهاد المنضبط الصحيح.
في ختام هذه المقالة نؤكد على أن معركتنا هي معركة توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك ، وليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ، لكن علينا ألا ننسى أن من السياسة الشرعية عند مخاطبة ضعاف النفوس من طبقات الناس المختلفة بالوعد باستعادة أموالنا وحقوقنا ، بل غنم مال الله الذي يتسلط عليه شرار الخلق ، ونحن لا نظن أن مثل هذه الوعد حرك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان تسلية لهم وتحريكا لضعاف النفوس من الناس ليقبلوا على الإسلام ، ولا يلبس الحال بهم بعد ذلك من خلال الحياة بين أهل الإيمان وأتون المعركة إلى انصلاح حالهم وتحركهم من أجل التوحيد قبل كل شيء ، لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن يخاطب أسرى العدو بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (.
الله أسأل أن يرزقـنا الإخلاص في القول والعمل ، وأن يعز هذه الأمة بالطاعة التي هي مفتاح كل خير ، والحمد لله رب العالمين.