إذا كنا لم نتوقع انفجار الثورات العربيّة، وفوجئنا، فدهشنا، وانعقدت ألسنتنا من شدّة الفرح بما نشاهد من امتلاء الشوارع والميادين بالجموع الزاحفة لانتزاع الحرية، غير هيابة من بلطجية الأنظمة، ورصاص أجهزتها الأمنية..فإننا لم نكن لنتخيّل أن نرى رئيس أكبر دولة عربيّة في القفص، يحاكم على الهواء مباشرةً، وفي نقل حي للفضائيات المصرية التي عادت لتنقل صوت شعب مصر، وبطولاته، وفصول ثورته.
من قاعة المحكمة في أكاديمية الشرطة، يوم الأربعاء 3 آب/اغسطس استمتع ملايين العرب بالمشهد غير المسبوق في التاريخ العربي المعاصر: محاكمة محمد حسني مبارك، الرئيس المخلوع رغم أنفه، بتضحيات ثوّار 25 يناير في ميدان التحرير، وكل ميادين المدن المصرية.
يا له من مشهد ما كان للمخيلة أن تجمح فتتوقعه: حاكم عربي في القفص، ممددا على سرير ـ لا يمكن وصفه بسرير الشفاء ـ مجردا من أي مجد، وأبهة، وفخامة، وحرس، وأجهزة يتقافز قادتها لتأمين أمن السيّد الرئيس، برهانا على الولاء والجدارة بالمنصب، ولزوم الهيبة ودّب الخوف في القلوب.
يا له من مشهد: الفرعون الذي تحنّط على الكرسي منذ العام 1981 وحتى العام 2011، تماوت على السرير موتا ثعلبيا تمسكنا ومخادعة واستجداءً لعواطف الجماهير الطيبة التي أدمن قهرها، وزهقت من سماجة أساليبه ورداءتها..محاولاً استغلال طيبتها رغم قتله لمئات فلذات أكبادها.
مطّ المخلوع رأسه ليرى إن كان يعرف أحدا من الحضور، وبدا أنه غير مصدق بأنه في قاعة محكمة حقيقية، وأنه في القفص، وأنه غير محترم، فمملكة شرم الشيخ انهارت، وشعب مصر هو من أصرّ على محاكمته، وهو من يطالب بقصاص عادل رغم كل جرائمه هو وأركان حكمه من العدلي إلى حسين سالم الهارب بالمليارات في إسبانيا.
المخلوع يرفع رأسه ببطء محاولاً بنظرة من الحضيض الذي آل إليه أن يختطف نظرة تريه بعض الحضور، ولكن رأسه يعود فيسقط من اليأس، فهو بلا أصدقاء، بلا هيلمان، فلا وجه صديق بين الحشد الذي يملأ قاعة المحاكمة التاريخية المشهودة، والتي ينطبق عليها: فضيحة وعليها شهود..ليس في مصر وحدها، بل في العالم كله.
يا لها من نهاية، وخاتمة مخزية!
ليس للمخلوع من يتعاطف معه، ويأسى لحاله، سوى الأصدقاء الأوفياء في تل أبيب، فالكنز الاستراتيجي 'بح'!..والآتي لا يبشر بخير، فمصر تعود لشعبها، وقرارها يعود ليد أهلها، وجماهير مصر النبيلة لا تفكّر بعقلية الثأر، رغم كل ما اقترفه الطاغية وزبانيته، ولذا أصرّت على محاكمته وفقا للقانون، وأمام قضاء عادل، وبحضور محامين يدافعون عنه.
أوّل حاكم عربي يدخل القفص مذلاً مهانا، بعد أن جرّع الأمة كلها كؤوس المهانة، وفتت صفوفها، وباع قضاياها، وحوّل مصر إلى دولة للفساد، حتى بشهادة أمريكية رسمية، لأن فساد حكمه ما عاد ممكنا التستر عليه، مع كل الخدمات التي أسداها لرعاته الأمريكان.
يوم 3 آب/اغسطس 2011 سيبقى في ذاكرة ملايين العرب بعامة، وشعب مصر العريق بخاصة، فكل شعب عربي له ثار عند هذا المفتري ونظام حكمه، وفي المقدمة شعب فلسطين، وقائمة التهم الفلسطينية (لرئيس الغفلة) تبدأ ولا تنتهي، فهو لم يكتف بمحاصرة أهلنا في قطاع غزة، ولكنه دفع بالقيادة الفلسطينية لتقديم التنازل تلو التنازل للكيان الصهيوني، لأنه كان معنيا بالتخلص من القضية الفلسطينية، وتصفيتها نهائيا.. وخلاص بلا وجع دماغ!
مبارك هو (بطل) المشهد، ولكنه ليس البطل الوحيد، فهناك إبناه علاء وجمال، ووفّر لهما كل أسباب الثراء، وكاد أحدهما يخلفه على الكرسي، وليس على السرير، أدارا ظهريهما للكاميرات مرارا حتى لا يُرى الأب في حالته المزرية، ولكن الكاميرا لا تأبه بمشاعر الابنين، ومحاولاتهما الساذجة، وهكذا استمتعنا بالمشهد الذي لم يغب عنه وزير الداخلية (الرهيب) وأركان أجهزته الأمنية، بل واستمتعنا بمداخلات محامين يدافعون عن المخلوع، بطريقة حسن سبانخ المحامي الفهلوي في فيلم (الأفوكاتو)!
ظهر الابنان بالملابس البيضاء أسوة بملاءات سرير أبيهما، دلالة على نقاء السريرة، ونظافة الكف، والبراءة من التهم، ولفت الانتباه تشبث يمنى كل منهما بنسخة من القرآن الكريم..أي والله: القرآن الكريم..وكأنهما مؤمنان، بل ومن فرقة سلفية برزت بعد انهيار النظام!
نكّت المصريون على الرئيس المبطوح على السرير الطبي، وهو يحشر إصبعه في..أنفه ـ راجل مش نظيف ـ ويرفع رأسه كالقوقعة، ويرّد على رئيس المحكمة: نعم.أفندم ..حاضر.. ثمّ وهو ينكر التهم الموجهة له، بصوت أجّش مهزوم: أنكرها جميعها.
حجم النكت المتدفق من شعب مصر على المواقع، والهواتف الخلوية، يكفي لإصدار مجلدات تليق بفخامة الرئيس المخلوع، المتمارض ونجليه الثريين المقفوصين (نسبة إلى القفص)!
من أوحوا للمخلوع بالانبطاح على السرير ـ لا أظن أنهم أوصوه بأن يدس إصبعه في منخاره..وهات يا تحريك!ـ ولكن ربما أوصيا الابنين أن يدخلا القفص متشبثين بالقرآن الكريم..لزوم التأثير على الشعب المصري المؤمن الورع وهو يستقبل شهر الصيام، ليرأف بالرئيس المسكين البريء الطاهر الذيل هو ونجليه الفقيرين لله، والذين مثله أنكرا التهم الموجهة لهما!
من الطريف أن ابن القذافي المدعو سيف الإسلام ـ أي إسلام الذي هذا سيفه! ـ ظهر مؤخرا وهو يرتدي الجلاّبية البيضاء، وعلى رأسه طاقية قماشية بيضاء، وبلحية طويلة، وهو يتحدث عن التواصل مع الجماعات الإسلامية المعارضة للتفاهم معها!
دائما لجأ الحاكم العربي للتدليس على الجماهير بارتداء زي الدين، وقد توجه بعضهم للحج، والعمرة..وهنا أذكّر بمشهد بن علي وهو يتشعبط على الحجر السود وينشج نشيجا مرّا..ذلك الفاسق!
يقال في الأمثال: الضرب في الميّت حرام..وأنا أرى أن المخلوع مات، وبدا يتفسخ، حتى وهو يتحرّك في السرير، ويدس إصبعه في منخاره، ولذا ليس مهما أن يعدم، وإن صدر ألف قرار بإعدامه..فقد أعدم في القفص، وانتهى أمره.
ثلاثة رؤساء حكموا مصر: جمال عبد الناصر الذي سارت في جنازته أكبر حشود سارت في جنازة في العالم.
أنور السادات الذي اغتاله جنود من الجيش المصري في يوم نصر6 أكتوبر عام1981..و..مبارك الذي خلف السادات.. وانتهى في القفص!
تستبشر الجماهير العربيّة في البلدان الثائرة، والمنتفضة، والمتأهبة..بأن القفص لن يكون الأخير، وأن المشهد لن يكون الأوّل والأخير في مسلسل الحكّام الجديرين بهذه النهاية.
اللهم بجاه رمضان وبركاته احشرهم جميعا في الأقفاص، هؤلاء الذين تعاملوا مع الشعوب كما لو أنها دجاج..وهم الديكة!
اللهم بجاه هذا الشهر الفضيل مكّن شعوبنا من نتف ريشهم.
فليذوقوا ما يستحقون، فلا رأفة ولا شفقة مع من أهانوا شعوبنا، وأمروا بقتل بناتها وأبنائها في عتمات السجون، وساحات وشوارع المدن الثائرة فداءً للحرية والكرامة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.