lundi 4 avril 2011

قائد السبسي فشل في الامتحان و عليه أن يستقيل


استطاعت التحركات الشعبية فرض رحيل الغنوشي و كان الباجي قائد السبسي بديلا له توسم فيه العديد خيرا. تزامن تعيين السبسي مع إعلان الرئيس المؤقت وقف العمل بالدستور و تحديد موعد لانتخاب مجلس تأسيسي و أمكن للسبسي التشدق باسم الثورة إيهاما منه بتبنيه و بقبوله مطالبها. إلا أن الأحداث تبين أن الباجي قائد السبسي الذي جيء به لنجاح اعتصام القصبة الثاني قد يمكن له أن يرحل بعد إفشاله اعتصام القصبة الثالث.
هل ينجح السبسي حيثما فشل الغنوشي؟
تمثلت مهمة الغنوشي في ترميم نظام بع علي و المحافظة على ما يمكن منه. لم تكن له أية مشروعية  و لم يمكن تسويقه إلا بادعاء نظافة يده من السرقة و استقلاله عن المافيات و استقالته من التجمع و كذلك طبعا عبر التخويف من الفراغ السياسي و الابتزاز الأمني و الاقتصادي للثورة. و لم تصمد هذه الحجج أمام المد الثوري، و بقطع النظر عن مدى ضعفها، فإن الجماهير الشعبية ما انفكت تزداد وعيا بأن الغنوشي، و إن لم تكن له مصلحة ذاتية في بقائه في الحكومة، فإنه يمثل مصالح أطراف أخرى هي ضرورة معادية للثورة.
لم يصمد جهاز الدولة بكل مؤسساته أمام إصرار الجماهير على مواصلة النسق الثوري فأجبرت الغنوشي على الرحيل و فرضت على المبزع الانصياع للمطالب الثورية. كان ذلك أهم انتصار تحققه الجماهير بعد    14 جانفي و هذا الانتصار هو الذي مكن الباجي قائد السبسي من العودة إلى الساحة السياسية بعد عشرين عام من العزلة.
السبسي من الوجوه البورقيبية المعروفة، اعتزل العمل السياسي منذ بداية التسعينات و لم يُسمع له نقدا أو حتى مجرد موقف لنظام بن علي لا قبل تقاعده السياسي ولا بعده و لم تكن له هذه الجرأة إلا و بن علي على مشارف جدة.
خلافا للغنوشي الذي لم يكن يخفي “احترامه” لبن علي و اتصاله به أحيانا فإن السبسي لم يفوت فرصة  للتهكم فيها عليه. أهمية ذلك تتمثل في قدرته على التواصل مع الجماهير بإظهار شخصية كاريزماتية افتقدتها الساحة السياسية التونسية منذ عقود طويلة تكون لها القدرة على الإيهام بالقطع مع الماضي و على تبني مطالب الثورة و الإقناع بذلك.
مكنت المؤهلات السياسية و ظرفيات المرحلة التي عُيّن فيها السبسي من الإيهام بأنه “رجل المرحلة” و للتذكير فإن أهم سمات هذه المرحلة أنها مرحلة صراع بين قوتين : قوة جماهيرية غير منظمة تريد تحقيق جملة  من المطالب التي لا يمكن للثورة أن تكون من دونها و قوة سياسية و إعلامية و مالية قد خسرت الجولة الأولى برحيل بن علي و تحاول الحفاظ على مواقعها و مكتسباتها بتجنب الصدام مع الجماهير. مهمة السبسي إذن لا تعدو أن تكون محاولة تغليب كفة القوة الثانية أي القوة المعادية للثورة على القوة الأولى أي الثورة.
إن عدم تورطه في تحمل مسؤوليات بارزة في النظام السابق و خبرته بالمجال السياسي إضافة إلى نقده الصريح ـ و الحديث ـ لبن علي جعل مشروعية تقلده للوزارة الأولى أسهل تسويقا من غيره خاصة و أن تعيينه كان في شكل انتصار حققته الجماهير ضد الغنوشي.
فالجماهير الشعبية المهمشة و المفقرة التي هبت للدفاع عن وجودها منذ أشهر أدركت أنه لا مجال لفرض مطالبها إلا بتغيير سياسي جذري يمكّن من فتح سبل التغيير الاجتماعي و تمثلت هذه المطالب السياسية في استقالة الحكومة و حل التجمع و حل جهاز أمن الدولة و تعليق الدستور و انتخاب مجلس تأسيسي. هذه المطالب من المفروض أن تمكن من القطع مع النظام البائد و من تكريس نظام سياسي و اجتماعي و اقتصادي يلبي جملة مطالب الثورة.
خلافا للثورات الكلاسيكية المعهودة فإن الانتفاضة في تونس و لئن أطاحت بأعلى هرم السلطة فإنها لم تقتحم و لم تسيطر على مقرات السيادة و لم تفرز قيادة تحل محل السلطة البائدة. لذلك لم يكن  للجماهير تمثيلية و لم يكن لها من حل إلا مواصلة النسق الثوري و الضغط الشعبي على الفئة السياسية الحاكمة لإجبارها على تحقيق مطالبها لذلك كثيرا ما ترددت مصطلحات من نوع تكنوكرات و مستقل و نظيف و غير تجمعي لتصنيف مسؤولي الدولة.
هذه المفارقات مكنت السبسي من الاعتقاد أنه الوحيد القادر على “إنقاذ الموقف” و ألا بديل له خاصة و أن الساحة السياسية في المعارضة لازالت تشكو من الفراغ و الانقطاع الذين فرضهما قمع بن علي، لذلك و من وجهة نظر سياسية نفعية غير مرتبطة إطلاقا بالميكانيزمات الاقتصادية و الاجتماعية التي أنتجت الثورة، يحق للباجي قائد السبسي أن يعتقد أنه سينجح حيثما فشل الغنوشي.
السبسي و الجبة الثورية
ليس السبسي إفرازا للثورة بل هو غريب عنها كل الغربة و لا تعدو أن تكون علاقته بها تنصيبية. إن فشل أجهزة الدولة و الحكومة و جملة الأطراف التي تمثلها في إيقاف مسار الثورة دفع بهم إلى لعب هذه الورقة المتحجرة التي تجيد الاتصال و التواصل. فقدومه المترافق باعتصام القصبة الثاني مثلما يقدم القائد المنفي قد ألبسه جبة ثورية تعطيه في نظر البعض شيئا من المشروعية إذ لو لم تكن جملة التحركات الجماهيرية و خاصة منها اعتصام القصبة و مسيرة شارع الحبيب بورقيبة لظل السبسي متمتعا بتقاعده بعيدا عن صخب السياسة.
إلا أن ما تؤاخذه عليه الجماهير هو أساسا الازدواجية السكيزفرينية التي تعاني منها سياسته و حكومته. فحكومة السبسي كانت الوحيدة التي مرت تقريبا بسلام و رغم أن عناصرها لا يمثلون بأية طريقة كانت من قاموا بالثورة، فالجماهير الشعبية قد قبلت بها فقط لعدم وجود ما يثبت أنها من رموز العهد البائد  و هو أضعف الإيمان في حكومة وقتية من المفروض أن تكون انتقالية و لا تعنى إلا بتصريف الأعمال. إلا أن سياسات هذه الحكومة ما انفكت تثبت أنها وثيقة الاتصال بشق أعداء الثورة شديدة العداء لها. و طبعا لم يتبين هذا التوجه للعموم إلا بعدد من القرارات التي تم اتخاذها و بجملة أخرى من القرارات التي وقع تغيابها و هو ما يقيم الدليل على سكيزفرينية سياسة السبسي.
فالثورة و المطالب الثورية التي جاءت بالسبسي كان من المفروض أن يجدا صداهما في سياسته إلا أن هذا الرجل و إن كان يبدي أنه يريد القطع مع الماضي فإنه يتخذ من الجبة الثورية شرعية له لتدجين التحركات في سبيل فرض توجه فشل فيه الغنوشي و بن علي من قبله و هو ما أدى إلى التضارب الصارخ بين الجانب الوظيفي و الجانب الإجرائي في سياسة السبسي.
فللسبسي وظيفتين، الأولى احتواء الجماهير و تطويق غضبها و الثانية المواصلة في نفس نهج الغنوشي و بن علي. و طالما أن أجهزة الدولة جميعها من حكومة و أمن و إعلام و جيش باتت عاجزة عن ضمان عدول الجماهير عن النسق الثوري فإنها عمدت إلى المراوغة عن طريق التخلي عن الغنوشي و تنصيب السبسي لقدرته على الإيهام بتحقيق مطالب الجماهير و تكريس سياسة متناقضة مع ذلك. فالانفتاح على المطالب الشعبية للثورة اقتضى تعيين وجه جديد يكون رمز سياسة جديدة و له القدرة على أن يضفي مصداقية على هذا الانفتاح. إذ لو تواصل وجود الغنوشي في الحكومة لما كان لورقة الطريق التي أعلن عنها المبزع يوم 3 مارس أي معنى.
فالقوى الثورية استطاعت فرض مكاسب تمثلت أساسا في حل التجمع و تعليق العمل بالدستور و حل جهاز البوليس السياسي و القبول بفكرة المجلس التأسيسي و تحديد تاريخ لانتخابه أما قوى الثورة المضادة فإنها تعمل، بالتوازي، على حد سقف المطالب الثورية في هذا المستوى و الالتفاف على هذه المكاسب بما يضمن وجودها و يخدم مصالحها و هي المهمة الرئيسية التي عُين من أجلها الباجي قائد السبسي و لا غرابة أن يستهل خطته السياسة بالتأكيد على هيبة الدولة و محاولة فرضها. فبالنسبة إليه الثورة حققت أهدافها و ما تبقى للإنجاز لا يتم إلا من داخل الهيئة العليا لتحقيق مطالب الثورة التي قام ببعثها و هرول إليها كل من تمت دعوته و قد آن الأوان أن تضطلع الدولة بدورها الردعي و غلق قوسي الثورة نهائيا.
فالسبسي إذن هو رجل مرحلة لم يكن لينجح فيها الغنوشي أو أيا كان ممن تورطوا مع بن علي فهو من يمكن له أن يرتدي الجبة الثورية و أن يحافظ داخلها على دولة بن علي، و ما جملة المطالب التي حشدت الجماهير إلى الاعتصام للمرة الثالثة بالقصبة و طريقة تعامله معها إلا دليل على فشله في سياسة تربى عليها و هي سياسة المغالطة.
السبسي و سياسة المغالطة
يشهد له الجميع بقدرته على المراوغة، و المراوغة أسلوب الدولة المؤقت في التعامل مع الجماهير. فالشعب قد أطاح بصرح بن علي القائم على القمع. و لما كانت هذه الجماهير متوهجة غضبا مصممة على تحقيق ثورتها و لما كان الصدام معها قد يُجهز على ما تبقى من صرح بن علي المتهاوي من قبل أن يضمد جراحه و يعاود النهوض و إرساء بنيانه، توجهت سياسة الدولة إلى المغالطة إلى حين تمكنها من إعادة بسط نفوذها و تقويض ما حققته الثورة بالقمع و بالمغالطة.
تجسدت سياسة المغالطة في، مثلما سبق الذكر، في قرارات اتخذتها هياكل الدولة و أخرى تعمدت تفاديها و لعل أهمها مما يثير حفيظة الشعب هو:
ـ قرار حل التجمع: حيث سارعت وزارة الداخلية بالمعالجة القضائية لهذا الملف لا لشيء إلا لسحبه من جدول اهتمامات الشارع التونسي. فالتجمع كعنوان سياسي قد انتحر سياسيا و انحلاله أمر يفرضه الأمر الواقع و التعامل العدلي مع هذا الجهاز على خلفية التهم المنسوبة إليه يضمن، باعتبار عدم وجوده القانوني، عدم تتبعه على خلفية تهم أخرى قد تكون أكثر خطورة. و هو ما يعني شطب لوحة جرائمه كلها من دون أدنى أشكال المحاسبة. و إضافة إلى هذا فإن طريقة الحل و الاتهامات الموجهة إلى الجهاز ككل، أي إلى الشخص المعنوي للحزب، قد مكنت كوادر الحزب ليس فقط من الإفلات من المحاسبة بل كذلك من الترسكل في أجهزة حزبية أخرى بعضها موجود و بعضها بُعث للغرض.
ـ عدم محاسبة كوادر التجمع: إن حل التجمع دون محاسبة على الأقل الكوادر من التجمعيين ليس إلا خداعا يتم بموجبه الحفاظ على موارده البشرية خاصة و أن التجمع كان من تلقاء نفسه يدرس فرضية تغيير الحزب اسما. فحل الجهاز ليس ذي قيمة كبرى طالما أن إطاراته طليقة اليد و صاحبة نفوذ في الساحة السياسية و في الإدارات و في الإعلام و في عديد المجالات الأخرى الحساسة. و رغم أن إجراء الحل سابق لعودة السبسي للحياة السياسية فإنه يتبنى جانب المغالطة فيه فالإرادة السياسية الحقيقية في التخلص نهائيا من عبء التجمع و أخطاره لا تكون إلا بمنع أعضاء أمانته العامة و ديوانه السياسي و أعضاء لجنته المركزية و أعضاء لجان تنسيقه و رؤساء شعبه من العمل السياسي مدة خمس سنوات على الأقل و بفتح الملفات الساخنة التي تدينهم، تلك الملفات التي تعلمها الحكومة و ليست لها أية نية في طرحها.
إن إشكالية التجمع و التجمعيين ليست إشكالية حزب تقضي المحكمة بحله بل هي إشكالية نظام أخطبوطي تغلغل في جسد الدولة و المؤسسات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الإعلامية و هذا الأخطبوط لازال فاعلا و فعالا قادرا على التحرك و إعادة التمركز و الهيمنة على البلاد سواء كان اسمه التجمع أو أي اسم آخر و المغالطة تتمثل في الإيهام بحله و نهايته في حين أن هم الحكومة في المرحلة الراهنة هو حمايته في انتظار تمام عودته.
ـ مسألة الحريات: من أهم ميزات سياسة بن علي السيطرة على الإعلام و خنق الحريات و هو ما يحدث الآن فبالإضافة إلى الطريقة الوحشية في تفريق معتصمي القصبة و التهديدات الصريحة لناشطي الأنترنات فإن رائحة التعذيب في السجون و المعتقلات العسكرية و البوليسية قد بدأت تفوح و هو ما يفند أكذوبة حل جهاز أمن الدولة و البوليس السياسي بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات جدية تكفل استقلالية القضاء و الإعلام و الإدارة.
ـ التستر على بن علي: إن ما فعلته الحكومة لا يقل خطورة عما لم تفعله فهي إلى الآن و رغم المطالب الشعبية الصريحة تتستر على بن علي و بطانته المافيوزية فالشكوى الوحيدة التي تقدمت بها ضده يمكنه الإفلات منها دون قضاء يوم واحد في السجن في حين أن الجميع يتذكر أن السبسي كان قد صرح لإحدى القنوات التلفزية أن بن علي يجب أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى، كان ذلك قبل تعيينه وزيرا أولا أما الآن و قد صار ممثلا للحكومة فمن الأكيد أنه يرى الأمر بطريقة مختلفة.
ـ ملفات السرقة و الفساد: و لعل نفس هذه الرؤية هي التي مكنت صهرا للمخلوع من طيب الإقامة في كندا و مكنت آخرا من اجتياز الحدود خلسة و آخرا من الإفلات من العدالة مكلفا حياة ما يزيد عن خمسة مواطنين  في محاولة هروبه و نفس هذه الرؤية هي التي أعطت الناهبين لأموال الشعب كامل الوقت للفرار بها من البلاد و تهريبها لأرصدتها من البنوك الأجنبية و.. و.. و.. وما تلك اللجان الوهمية إلا دليل آخر على المغالطة و الإيهام بالمحاسبة و التقصي و هي رؤية مشتركة بين السبسي و الغنوشي تثبت ما بينها من تواصل في ذات النهج السياسي.
ـ المديونية: في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة استرجاع الأموال المسروقة و في الوقت الذي تتشدق فيه أبواق دعايتها بخطر الثورة على الاقتصاد يمعن السبسي في سياسة التداين التي يعلم الجميع أخطارها و في المقابل يرفض إلغاء خلاص الديون أو حتى مجرد تجميدها الذي يمكن أن يكون بديلا لتكريسه لسياسة التبعية.
ـ التستر على قتلة أبناء الشعب: ما حدث في عديد المدن التونسية مثل القصرين و تالة و الرقاب و تونس كان قتلا ممنهجا لا يمكن تصنيفه إلا كجريمة ضد الإنسانية و قد توافق كل من الغنوشي و السبسي على عدم التطرق لهذا الموضوع و التستر على القتلة الذين ينعمون بجرايات تصرف لهم من أموال الشعب و الجميع يعلم، خاصة أهل القانون من أمثال السبسي، أن التستر على جريمة قتل لا يختلف جزاؤه عن جزاء القتل باعتبار أنه اشتراك في الجريمة.
هذا البعض القليل من المعطيات التي تأجج الشارع التونسي من الجديد و التي تبين مدى تورط السبسي في النسق السابق له و مدى دفاعه عن المنظومة التي خلفها بن علي و التي لم يعد من الممكن أن تتستر عليها الجبة الثورية التي يحاول ارتداءها. بل إن التمعن في معطيات أخرى يتبين مدى توافق السبسي و بن على في جذور هي المسؤولة عن إفراز بن علي.
السبسي و العود إلى الجذور
من الخطأ الاعتقاد أن تعيين السبسي و اعتماد ورقة الطريق التي ضبطها المبزع يمثلان استجابة لمطالب الثورة. ليس ذلك إلا انتقال من المنهج البوليسي البحت الذي اعتمده بن علي طيلة عقدين على الأقل إلى المنهج البورقيبي الذي يراوح بين المراوغة السياسية و القمع البوليسي. فالمراوغة هي المغالطة بإيهام تلبية مطالب الثورة فما يحدث هو ذر رماد في العيون. إذ تبين للجميع أن جهاز البوليس السياسي لم يحل بل هو أكثر نشاط من ذي قبل و أن تعليق العمل بالدستور أمر يفرضه الأمر الواقع ليس فقط لكثرة ما ديس و أخترق بل كذلك بانتهاء صلاحيات الحكومة المؤقتة بحلول تاريخ 17 مارس و أن حل المجلسين هو تركيز لكل السلط في يد الرئيس المؤقت و أن انتخاب المجلس التأسيسي قد يكون أفضل طريق لعودة زبانية العهد البائد في لعبة انتخابية تحكم قوانينها الحكومة المؤقتة و من يقف خلفها إذا ما واصلت الحكومة التفافها على الثورة. أما القمع البوليسي فقد انتقل بقدوم السبسي و ترحيله للراجحي من الطور المقنع إلى الطور العلني. فتعيين الصيد على رأس وزارة داخلية هو إمعان في النهج الإرهابي الذي تعودت عليه هذه الوزارة.
لدى كل التونسيين اليوم وعي بأن الثورة في خطر و أنها لم تقم لتصحيح المسار البورقيبي. إن ما يحدث اليوم هو التسليم بضرورة شطب بن علي من سجل الدولة و لكن مع المحافظة على نفس الجهاز و نفس النظام الذي كان يرأسه. لقد كانت الجماهير الشعبية صارمة في موقفها منذ مساء 14 جانفي حين لم تكتف بتهريب بن علي و أرادت أن تكون الثورة ثورة حقيقية تمس كل الجوانب و كل المستويات. إن هذا النهج ليس إلا تطبيق لسياسة خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام بمعنى نعم سنتنازل على بن علي و لكن عفى الله عما سلف، سنواصل في نفس النهج. و ما التجمع الدستوري الديمقراطي إلا تواصل للحزب الاشتراكي الدستوري الذي بدوره تواصل للحزب الحر الدستوري. فالاختلاف في الأسماء و الظواهر لا يعني البتة اختلاف في التوجه السياسي العام الذي هيمن على الحياة السياسية في تونس منذ ما قبل الاستقلال و الذي يعتبر المسؤول الأول و الوحيد عن الفشل السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع بن علي.
و وفق هذا التصور ليس لبن علي من ذنب سوى إخفاقه في تدجين الجماهير مما تسبب في وضع نظام جاري به العمل، منذ الاستقلال على الأقل، أمام رفض شعبي عارم. لذلك يسعى السبسي إلى تعويض أفق الثورة بالماضي البورقيبي فالحل بالنسبة إليه ليس في الاستجابة لمطالب الجماهير بل في العودة إلى وضعية ما قبل الثورة و هو ما يعني توظيف جميع مكتسبات الثورة بما في ذلك المجلس التأسيسي من أجل إعادة إنتاج النظام الدستوري السابق. فما لم يفهمه السبسي هو أن الثورة ليست فقط ثورة ضد الـ23 سنة من حكم بن علي، بل هي ثورة ضد نظام كامل قائم على اللاعدالة الاجتماعية و التفاوت الطبقي و الجهوي و ما ينجر عن ذلك من قمع للحريات و للديمقراطية للمحافظة على وضع سائد يخدم مصالح قوى أجنبية و يمثل خطرا على السيادة الوطنية.
خلاصة القول أن تشبث السبسي و من وراءه بالتنكر للثورة و لمطالب الجماهير ليس فقط من أجل إعادة التجمعيين أو الدستوريين إلى الحكم، إنه تشبث بنظام تكرسه هذه المجموعات منذ الاستقلال. هو نظام لا يخدم مصلحة الأغلبية من أبناء هذا الشعب، نظام يمعن في استغلالهم و تفقيرهم و تهميشهم و لا يمكن له أن يتواصل في الوجود إلا بقبضة حديدية يضرب بها الحرية و الديمقراطية. فدكتاتورية بن علي لم تكن غاية في ذاتها بل هي النهج الذي اتبعه لفرض توجهه السياسي و الاقتصادي بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد الأوروبي الذين لم يتخليا عنه إلا ساعة تيقنا أنه لم يعد يخدم مصالحهما بل صار يهددها. و السبسي من أجل الحفاظ على نفس هذا النظام تنكر في جبة ثورية و حاول مغالطة الجماهير، إذ لا مانع لديه من تقليم أظافر دكتاتورية بن علي و بورقيبة و الإيهام ببعض الانفتاح على مطالب الجماهير إذا ما كان هذا هو الثمن الذي يجب دفعه من أجل إبقاء نفس النظام قيد الحياة. ذلك النظام الذي لا يخدم إلا مصالح كبرى الشركات و الأنظمة التي تهيمن على العالم بفرض اقتصاد لا وطني تمليه مؤسسات عالمية مثل صندوق النقد الدولي و البنك المركزي و الإتحاد الأوروبي عن طريق أنظمة الشراكة و برامج الإصلاح الاقتصادي و المديونية الأبدية.  فمثل هذه الخيارات لا يمكن أن تكون أبدا في خدمة السيادة الوطنية و وظيفة المتشبثين بالحكم و المعادين للثورة هي المواصلة في تكريس هذا النهج و عدم القطع معه.
إن أسابيع قليلة في الوزارة الأولى بينت الوجه الحقيقي للباجي قائد السبسي و أثبتت أنه لا يمكن أن يكون منقذا للثورة بل الخطر الأكبر عليها. إن نفس الوعي الجماهيري الذي قاد الشعب للثورة ضد بن علي يقودها من جديد لرفض السبسي و الثورة عليه. لقد ساهمت المقايضة الاقتصادية و الابتزاز الأمني في دفع المواطنين لإعطائه فرصة، و لكن بانتهاجه سياسة تسعى إلى إعادة تكريس الماضي لا يمكن لهذه الجماهير إلا أن تقول له لقد فشلت في الامتحان يا سبسي، عليك أن تستقيل، ارحل.

أنيس منصوري

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.