mardi 12 avril 2011

ويسألونك عن التغيير

من الواضح الآن، أن تونس الخضراء، يشهد أهلها أجواء من الحريات، لم يخبرها معظمهم، منذ عهد استقلال الدولة، من الاستعمار الفرنسي في العام 1956، فشباب التغيير نشأوا على أواخر استبداد عهد الحبيب بورقيبة، وعلى كل ديكتاتورية عهد الرئيس الهارب بن علي، وكمثال بسيط، ندلل به على أجواء الحرية المعاشة اليوم في تونس، يكفي أن نعرف، أنه منذ مغادرة الرئيس الهارب، إلى غير رجعة «كريمة»، فقد تشكل نحو 50 حزبا سياسيا خلال شهور ثلاثة. 

ومن الواضح أيضا، أن تركيز شباب التغيير، أصبح منصبا اليوم، على اجتثاث بؤر الفساد، التي زرعها الرئيس الهارب، في عرض البلاد وطولها، بمعنى أن فتح ملفات الفساد هو البند الطاغي على بقية بنود أجندة شباب التغيير. 

ومن يتابع يوميات الثورتين التونسية والمصرية، يلاحظ بسهولة أن هناك تشابها في تعامل شباب التغيير، مع السلطتين المستبدتين القائمتين في بلديهما، فالبداية كانت مطالب حياتية، كمعالجة البطالة والفقر، فتقوم السلطتان بصد التحركات الشبابية بالقوة رغم سلميتها، ومن ثم تسيح الدماء في الميادين، وتزيد الاعتقالات، ويرتفع عدد الشهداء، فترتفع معها المطالب بضرورة «اسقاط النظام»، وما هي إلا أيام، ويسقط النظامان. 

بعدها على الفور، وبعد أن التقط الشعبان أنفاسهما، فتحت ملفات الفساد على مصاريعها، ففي تونس قام مجلس حماية الثورة، ومن قبله الحكومة المؤقتة، بملاحقة أرصدة الرئيس الهارب في كل أرجاء العالم، عبر اجراءات قانونية معتبرة، بل وصل الأمر إلى تقديم طلب لتسليم الرئيس الهارب من أجل محاكمته على الأرض التي عاث فيها فسادا، هو وأسرته، وعصابته الأقربون. 

ومن المشاهد المقززة التي لايمكن أن ينساها الشعب التونسي، وتعبر عن واحد من أكثر مظاهر الفساد الفاحش والفاجر، هو اكتشاف المخابئ السرية في أحد قصور الرئيس الهارب، والتي كانت تحوي أكواما من الأوراق النقدية من مختلف العملات الرئيسية، جنبا إلى جنب مع المجوهرات الماسية والذهبية الباذخة ! يقول لي صديق تونسي: هل تصدق أن خلف هذا القصر، بمئات الأمتار، بيوت متهالكة، مكتظة بمواطنين فقراء، يعانون من الجوع، بينما ينام الرئيس الهارب وزوجته وأولاده وسط تلال من الأموال والمجوهرات؟! 

إذن، الفساد هو القضية الملحة بعد سقوط الأنظمة المستبدة، بل قل ان الفساد هو من أسقط تلك الأنظمة المتهاوية

زايد الزيد

lundi 11 avril 2011

استراتيجية التوتر وتطبيقها على الشعوب الثائرة


لا تبدو الأمور واضحة للجميع في تونس. ويعتقد الكثيرون أن كل شيء على ما يرام وأننا نتحرك ببطء نحو حقبة من الحرّية غير المسبوقة ، والتي ستزدهر قريبا في ظل الديمقراطية. هؤلاء يعتقدون أنّ على غيرهم التوقف عن التباكي و رؤية الشرّ في كل مكان. لكنهم يقولون أيضًا أنه يجب علينا أن نظل يقظين وأن تبقى أعيننا مفتوحة. هناك خيار ينبغي تحديده بين اليقظة والقلق اللذين يتسبّبان في العمل، أو الثقة التي تؤدي إلى فتور الحريّة ووفاتها.


لم يعد هناك وقت للثقة، فالثقة لا قيمة لها ما لم تقترن بالأفعال. لا يحتاج جهاز بقوّة الدولة لأكثر من من أسبوع لتفعيل القرارات والإرادات، لكن قريبا ستكون قد مرّت ثلاثة أشهر على ثورتنا المفترضة. ما الذي فعلته هذه الثورة عدا التغيير الشّكلي لمالكي الدّولة؟


إنّهم يضحكون على ذقوننا.. وشئنا أم أبيْنا فذلك هو الواقع السّياسي في تونس ما بعد الثّورة. ما يحدث منذ مدّة في البلاد له إسم مُحدّد: استراتيجيّة التوتـّر.. وهي إحدى أساليب الثورة المُضادّة التي وُضعت في أواسط ستّينات القرن الماضي لمواجهة الزّخم الثوري الشّعبي الذي كان يُريد التخلّص من رواسب الأنظمة الفاشيّة التي بقيت بعد الحرب العالميّة الثانية.


الأمر ليس بأسطورة تُستعمل لإثارة الذعر، بل هي بيانات استراتيجيّة وتاريخيّة يمكن التحقق منها بسهولة، وعلاوة على ذلك، هي مادّة يتمّ تدريسها في أغلب المدارس العسكريّة في العالم.


ماهي استراتيجيّة التوتر؟ إذا أردنا تفسير المبدأ باختصار سيكون من الكافي تشبيه المجتمع بلولب في حالته الطّبيعيّة المسترخية (أي أنّ التحكّم فيه يكون سهلاً). هذا اللولب يتقلّص بفعل الإضطرابات الإجتماعيّة والإحتجاجات الشّعبيّة (وهو ما يمثــّل تحدّيا للسّلطة الحاكمة). ولكي لا ينكسر اللولب، تنكبّ السّلطة على زيادة التوتّر بأساليبها الخاصّة والمصطنعة إلى أن تبلغ النّقطة التي تعتبرها غالبيّة المجتمع النّقطة القصوى للتوتر، والتي تخشى بعدها الكسر النهائي أو الذي لا يمكن إصلاحُه.


بعبارة أخرى، تتمثل استراتيجيّة التوتر في تحكّم السلطة السياسيّة بانفعالات مجتمع ما بُغية تنظيم مصطنع للتوترات الإجتماعيّة والشّعبيّة صُلب نفس المجتمع، وذلك حتّى لا يضيع عليها التحكّم في المجتمع ولا سلطتها السّياسيّة عليه.


تطبيق هذا المبدأ على جميع الأحداث الاجتماعية والسياسية الجّارية في تونس سيجعل أكثر وُضوحًا. فمن تكاثر الأحزاب السّياسيّة (الذي لا يمكن أن يكون مصادفة بريئة) إلى تهديدات "المتطرّفين دينيّا"، ومُرورًا بالنقاشات حول مواضيع جانبيّة لا لُزوم لها ولا تُثير سوى الجّدل (كالعلمانيّة)، كلّ هذا تمّ تقطيره بطريقة ماكرة وقريبة إلى السّحر طيلة الشّهر الماضي، وتمّ نشره في المجتمع عبر المكان الوحيد الذي تمّ الحفاظ عليه دون أيّ تغيير: الصّحافة والتلفزيون.


تكاثر الأحزاب السّياسيّة


ها نحن أمام أكثر من خمسين حزبا سياسيّا في تونس اليوم. يُذكر أنّ أحد أوّل الأحزاب التي حصلت على ترخيص جديد هو حزب النّهضة الذي سبّب ضجّة كبيرة، ثمّ سمعنا عن حزب "الوطن" لجغام وفريعة، ثمّ أخيرًا "المبادرة" لكمال مرجان.


طبعًا، هذا التكاثر الغير مقيّد ليس بسبب السّلطة نفسها، ولكنّه يساعدنا في إضافة بُعد هامّ في نظريّة "استراتيجيّة التوتـّر" وهو "الوكيل اللاإرادي" أو "الأبله النـّافع". فعندما ترغب السّلطة في نزع فتيل التوتر تلجأ عادة إلى مثل هؤلاء "الوكلاء"، وهُم الأفراد أو المجموعات التي تظنّ أنّها تتحرّك من أجل فكرتها ومصالحها الخاصّة ولكنّها في النهاية لا تفعل أكثر من تحقيق مصالح ليست لها حولها أدنى فكرة.


وبالعودة إلى مسألة الأحزاب السّياسيّة، لا شكّ أنّ العديد من الأفراد دفعتهم المثاليّة السّياسيّة أو الطّموح المُفرَط أو الرّغبة التي طالما أحبطتها سياسة الحزب الواحد إلى الشّروع في مغامرة إنشاء حزب سياسي، إلاّ أنّ دور هذه الحكومة الإنتقاليّة يكمُن في ضمان الإنتقال السّلس و إجراء الإنتخابات في أفضل الظّروف الممكنة. ولسائل أن يسأل: لماذا تتشابه أغلب الأحزاب التي سلّمتها هذه الحكومة تراخيصًا كتشابه قطرات الماء؟ لقد كان على هذه الحكومة أن تنظّم إنشاء هذه الأحزاب بطريقة فعليّة، وذلك بالرّبط بينها وبين مؤسّسي الأحزاب الصّغيرة المتشابهة.


ونجد أنفسنا اليوم أمام عدد مُضحك من الأحزاب السّياسيّة التي يخلو أغلبها من المناضلين والتي لا يعرف أحدٌ عنها شيئا. يخلق هذا العدد لدى الشّعب مناخًا من القلق والذعر، مناخٌ يعمل المعلّقون في وسائل الإعلام على تأجيجه بتكرار هذه الفكرة "هذا الثراء لن يؤدّي إلاّ إلى تشتيت الأصوات في الإنتخابات القادمة، وهذا التّشتيت سيسمح للمتطرّفين بالصّعود".


التّهديد بالمتطرّفين دينيّا


منذ عودة راشد الغنّوشي، خيّم على تونس - أو على الأقلّ جزء من تونس - طيف الإسلام السّياسي. فمِن المظاهرات أمام بيوت الدّعارة إلى صلاة الجّمعة في شارع الحبيب بورقيبة ومرورًا بالمظاهرة أمام الكنيس اليهودي و الحوارات التّلفزيّة المُكرّرة والممجوجة مع الشّيخ مورو، لا يُدَّخـَرُ شيء للإيهام بأنّ متشدّدي الإسلام السّياسي في كلّ مكان وجاهزون للإنقضاض على السّلطة.


ويمثّل كلّ هذا عنصرًا أساسيّا في أيّ استعمال لاستراتيجيّة التوتر: يتمّ تضخيم "عدوّ يتربّص بالقيم الأساسيّة للمجتمع" بطريقة تجعل هذا الأخير يشعُر بالعزلة والغرق. الميزة الأساسيّة لهذا العنصر هي أنّه يقسم الشّعب إلى قسمين ويجعل الآراء أكثر تطرّفا، ولا داعي هنا للتذكير باستعمال الرّئيس الفرنسي فرونسوا ميتران للجّبهة الوطنيّة خلال الثّمانينات حتّى يصل إلى ولايته الثّانية.


مرّة أخرى يجدُر التساؤل: لماذا؟


لماذا تستمرّ هذه الحكومة الإنتقاليّة في شيطنة وتشويه نوع معيّن من المعارضين السّياسيّين وفي نفس الوقت تترُك المجال لأولئك "المحتجّين" الذين لا يحترمون القانون؟ 
لماذا تتعامى الشّرطة عن المتطرّفين الذين يزرعون الفوضى ولا تعتقل إلاّ النشطاء الشبّان الذين يعبّرون عن رأيهم بطريقة سلميّة؟


مرّة أخرى، لا يعني هذا أنّ هؤلاء المتشدّدين غير موجودين فعلاً كقوّة سياسيّة، ولا أنّهم مدفوعو الأجر أو مُرسلون من طرف هذه الحكومة، كلاّ! ولكنهم أيضا جزء من "البُلهاء النّافعين" الذين تترُك لهم السّلطة الحبلَ على الغارب. وفي نفس الوقت الذي تنتشر فيه فيديوهات "إنجازاتهم"، لا تبخل عليهم وسائل الإعلام بمزيد نشرها.. وها نحن في درجة إضافيّة من الذعر الذي أصاب المجتمع المُرتعب أصلاً.


لجنة الفراغ


الحديث هنا حول اللجنة ذات الأسماء المتنوّعة والمتغيّرة والتي يرأسها بن عاشور. لو كانت لدينا حقا ثورة مكتملة لكانت هذه اللجنة هي المجلس التّأسيسي. لكن بدلا عن ذلك، لدينا الآن ما يُشبه وحشا برأسين.. عاجزٌ ولا يشبه شيئا.. وخاضع تمامًا لإرادة إثنين من الطّاعنين في السنّ وجدا نفسيهما على رأس دولة تحاول النّجاة من العاصفة الثوريّة التي هبّت عليها.


ها نحنُ إذن مع لجنة يُنتظر من أحد رأسَيْها أن يُقدّم إقتراح قانون انتخابي للرّأس الثاني (الذي لا يعرف شيئا أكثر من ذلك)، ثمّ في نهاية المطاف، ستخضع مماطلات هذين الرّأسين معًا لقرار العجوزَيْن الذيْن يرأسان الحكومة.


كنّا نودّ أن يتمّ كلّ هذا بشكل جيّد ودون مخاوف، إلاّ أنّ هذه اللجنة ذاتها مصدرٌ للقلق والتوتّر لدى جزء من التونسيّين الذين لم تتمّ توعيتهم سابقا بالمسائل القانونيّة المتعلّقة بسير الإنتخابات، والذين يبقى تمثيلهم داخل هذه اللجنة محلّ تساؤل إلى اليوم.


أغلب المعلومات المتعلّقة بهذه اللجنة تتحدّث عن توترات داخلها وخلافات بين أعضائها و نصوص قانونيّة لا نعرفُ مَن اقترحها ولا مَن كتبها ولا مَن سيصوّت عليها. هذا الغموض حول آليّات عمل هذه اللجنة، مضافًا إلى صعوبة الموضوع نفسه لدى المبتدئين، يقودان الشّعب إلى خشية حدوث الأسوأ في الإنتخابات القادمة. ورغم أنّه من المفروض أن تكون هذه الإنتخابات خطوة تثير التفاؤل، يُنظر إليها الآن كمصدر للقلق والرّيبة. 


المواضيع المُصطنعة المثيرة للشّقاق


يتمّ إقحامنا كلّ يوم في مناقشة عامّة لمواضيع مُستوردة و مُصطنعة تمامًا ولا علاقة لها بخطورة واقعنا السّياسي، ويبدو الأمر وكأنّ مناقشي هذه المواضيع من سياسيّين يُريدون إبعاد الرّأي العامّ عن القضايا الحرجة فعلاً في تونس. 


ها نحن إذن عالقون في مسائل سخيفة تُخلّف في أفضل الأحوال إحساسًا بالغُربة عن المشهد السّياسي في البلاد، وفي أسوئها شعورًا بأنّ السّياسة مثل كرة القدم؛ أي 
أرضيّة يُمكننا إختيار أحد جانـِبَيْها والتنازع بطريقة عبثيّة للوصول إلى هدف يشفي الغليل. وهذا ما تتـّسم به تلك النقاشات ذات العُقم الفادح والتي تبقى غير مثيرة للإهتمام رغم الحاجة إليها.


إنّ التهديد بضرب القيم الأساسيّة للمجتمع التونسي (أو ما يُروّج لها على أنّها كذلك) لا يُضيف سوى المزيد من الإحتقان وكراهية الآخر.


وسائل الإعلام


تُساهم هذه الوسائل (التي لم يتغيّر مالكوها ولا مسيّروها ولا مديرو برامجها) بصفة محوريّة في استراتيجيّة التوتر، فهي النقطة المركزيّة التي تنطلق منها بقيّة النقاط المذكورة في هذا المقال. 


وتجدر الإشارة إلى أنّ التواطؤ بين السّلطة ووسائل الإعلام لا يزال على حاله، كما كان قبل 14 جانفي 2011. فبالنّسبة للقناة "الوطنيّة"، لا داعي لمزيد شرح كيفيّة التواطؤ ولا الغاية منه. أمّا بخصوص قناة "حنّبعل"، فقد كانت الضّربة التي وُجّهت للعربي نصرة في أيّام الثورة الأولى كافية لضمان ولاء قناته للنظام الجّديد. ويبدو أنّ طارق بن عمّار (أحد مالكي قناة نسمة) يستثمر الثّورة بطريقة تجعله غير مطالب بتقديم براهين على تواطئه وقناته مع الحكومة الإنتقاليّة.


ومن الواضح على أيّ حال أنّ على استراتيجيّة التوتر أن تتمكّن من السّيطرة على وسائل نشر المعلومات حتّى تكون فعّالة. إذ بغياب هذه السّيطرة لن تكون المعلومات نفسها وقد يتمكّن التونسيّون من إكتشاف الخداع والتلاعب.


وَجب إذن على الثوريّين أن يفهموا أنّ الثورة من الآن فصاعدًا ستتمثّل في تحرير وسائل الإعلام ونشر المعلومة الصّحيحة. ولهذا السّبب لم تتمكّن سهام بن سدرين بعدُ من الحصول على رخصة بثّ إذاعة "كلمة" على موجة الآف آم.. و لنفس السّبب لا تزال سمعتها تتعرّض للتشويه كما كان الأمر في عهد بن علي. ولنفس السبب أيضًا تعرّضت مذيعة واحدة - ثوريّة فعلا - في الإذاعة الوطنيّة للإزعاج من طرف إدارتها.


الهدف من استراتيجيّة التوتر 


من الواضح أنّ الهدف من استراتيجية التوتر التي يجري تطبيقها في تونس هو الحفاظ على خوف عميق داخل المجتمع لإبقائه مُقسّمًا ومجزّءًا. لكن هل تستهدف هذه الاستراتيجيّة الشّعب التونسي كاملاً؟ كلاّ!


الهدف المباشر لهذه الاستراتيجيّة ليس سوى جزء صغير من الشّعب، وهو تلك الطّبقة التي تمّ اختراعها بغرض خدمة السّلطة والتي نسمّيها مخطئين "الطّبقة الوسطى"، أي تلك الفئة التي يُقيم أغلب المنتمين إليها في المدن الكبرى والتي تتمكّن بعملها الشاقّ من البقاء داخل معايير الحياة الغربيّة، والتي منحها الطّاغيتان التونسيّان الحقّ في الحصول على عدد من المُتع الفاخرة الصّغيرة. قد يُثير هذا التّقسيم الإجتماعي غضب الكثير من القرّاء، ولكن ليكونوا متساهلين وليعترفوا بأنّه ليس من المُجدي أن نلوم المرآة عندما نرى فيها صورةً لا تعجبنا. 


وأخيرًا، أدعو مرّة أخرى إلى اجتماع كلّ القوى الثوريّة. توقّفوا عن التفكير في ما يفرّقكم! كفاكم وقوعًا في شراك السّلطة! ينبغي أن نطعن في الحجج الكاذبة التي يستعملونها لدعوتنا إلى "الهدوء". لقد قطعنا شوطًا كبيرًا تصعب معه العودة إلى الوراء.. ويجب علينا أن نتحلّى بالجّرأة والإرادة للوصول إلى حرّيتنا.


باريس في 7 أفريل 2011


شيران عبد الرّزاق


ترجمة: رمزي / مدوّنة المتنوشة

http://www.mtanwcha.com/2011/04/blog-post_10.html


رابط المقال الأصلي بالفرنسيّة


http://www.the-invisible-war.com/article-la-strategie-de-la-tension-71176845.html

dimanche 10 avril 2011

حزب تونسي يحذّر من خروج الحركة الماسونية ببلاده للعلن



تونس ـ حذر حزب "المجد" التونسي من محاولات تجري لإخراج نشاط الحركة الماسونية في تونس إلى العلن،ودعا الحكومة إلى توضيح موقفها بهذا الشأن.

وقال الحزب في بيان وزع على وسائل الإعلام الأحد إنه "يسجل بكل قلق المعلومات التي وصلت إليه من جهات مطلعة مفادها أن مجموعة ماسونية تونسية تنوي الشروع في الخروج للعمل العلني، وذلك تحت رعاية و بحضور بعثة ماسونية فرنسية".

وكشف حزب "المجد" التونسي الذي يقدم نفسه على أساس أنه حزب وسطي هويته مغاربية عربية إسلامية، منفتح على البعدين الإفريقي والمتوسطي، أن البعثة الماسونية الفرنسية التي ستؤمن الدعم و التكوين "للمجموعة الماسونية التونسية"، ستصل إلى تونس غدا الاثنين .

وإعتبر الحزب الذي أسسه عبد الوهاب الهاني،أن محاولة إخراج الماسونية التي كانت تعمل في السر في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي،للعمل العلني وإصباغها بالشرعية،يعد "إنتهاكا صارخا لحرمة الشعب التونسي الذي يقاطع هذه الحركة ويعتبرها أحد أعداء تونس و العالم العربي والإسلامي".

ودعا في هذا السياق إلى ضرورة التصدي لجميع أنشطة الماسونية بتونس علنية وسرية،كما طالب الحكومة التونسية المؤقتة ب"توضيح الموقف واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجسيم إرادة الشعب الرافضة للحركة الماسونية فكرا ونشاطا وذلك بمنع كل نشاط ماسوني ومتابعة القائمين عليه".

وقال الحزب الذي حصل على ترخيص العمل القانوني في 25 مارس/ آذار الماضي، والذي يرفع شعار "مواطنة، جمهورية، ديمقراطية"،أنه سينظم وقفة إحتجاجية سلمية بساحة القصبة حيث مقر رئاسة الحكومة التونسية، معادية للماسونية و داعية لرحيلها من تونس. "يو بي اي"

mardi 5 avril 2011

أصنام أسقطتها الثورات الشعبيَّة


عَلَى مدى ثلاثة أشهر على الأكثر شهدت ثلاث دول عربيَّة ثورات شعبيَّة، هي تونس ومصر وليبيا، منها ثورتان نجحتا في إسقاط رؤوس النظام، فيما ينتظر الشعب الليبي تحقيق مطلبه الأساسي بإسقاط نظام الحكم القائم.
إلا أنه مع إسقاط النظامين في مصر وتونس، والطريق الطويل الذي قطعه الشعب الليبي، وأصبح على طريقه، وهو على وشك تحقيق مطلبه، لا يزال هناك بون ليس شاسعًا بينهم وبين تحقيق حريتهم، التي يأملونها، والتي لم يتحقق منها الكثير.
إلا أن المؤكَّد أن هناك الكثير من الأوهام ألتي كان يعتبرها البعض أشبه بالأصنام التي لا يمكن أن تمسء نجحت الثورات الشعبيَّة في إسقاطها، ولعلَّ أبرزها ما كان يتردد بأن النظامين المصري والتونسي من الأنظمة القويَّة التي لا يمكن أن تهزَّها مظاهرات شعبيَّة، أو احتجاجات فئوية.
وربما كان ذلك دافعا لستيفن هايديمان، نائب رئيس معهد السلام الأمريكي، إلى وصف النظام المصري بأنه مقاوم للزلازل، وأن "لديه من مقومات امتصاص الضربات الاحتجاجية واستيعاب الحركات السياسيَّة ما يضمن بقاءه"، غير أنه أكَّد بعد ذلك أن تمام القمع الذي شهدته البلاد في عهد النظام السابق، أدى إلى زوال الخوف لدى الشعب المصري، ونزولهم إلى الشارع لإسقاط النظام.
ومن أقوى ما أفرزته الثورات الشعبيَّة في تونس ومصر إسقاط نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، أن الثورتين أسقطتا أوهامًا كثيرة ما تردَّدت قبل نجاح الثورتين، حتى تبددت وتبين زيفها، فعلى الرغم من تراكم هذه الأوهام عبر السنين، سواء بشكلٍ مؤسسي أو بطريقة عفوية، إلا أن اللافت للنظر أن كل ما كان يساق من دلائل على أن تلك الأوهام حقائق وأمر واقع ثبت لاحقا أن هذا حق ما أريد به باطل، بدليل نجاح الثورتين في إسقاط النظامين، فضلا عما تحقِّقه حاليًا ثورتا اليمن وليبيا من نجاح، وفي طريقهما لتحقيق ما يريده الشعب.
والواقع، فقد كانت هناك الكثير من الأوهام التي بدَّدتها ثورتا تونس ومصر، والتي لم تكن مجرد انطباع ساد في وسط معين من شرائح المجتمع المصري، بل كانت أعمق من ذلك وأرسخ، وهذه الأوهام كثيرًا ما عرضها دعاتها في أوراق بحثية وتَمَّ التدليل عليه بشكل أكاديمي ومنهجي، ومنها ما روَّجَه المنتسبون لما يسمى النخبة المثقفة سواء بالنشر أو التربية الفكريَّة لمن يحترفون الإعلام وتكوين ثقافة الجماهير، ومنها ما تم التواطؤ على بثّه وترويجه وتدعيمه بوسائل التنشئة الاجتماعيَّة والثقافيَّة المختلفة.
من هذه الأوهام أن الثورتين أسقطتا الانطباع الذي كان سائدًا بأن التغيير بالدول العربيَّة يحتاج إلى إذن أو تصريح من دول أجنبيَّة كبرى، كما أسقطتا المزاعم بأن الثورتين هما ثورتا جياع، مما يؤكِّد أن التغيير الشعبي لم يعدْ يحتاج إلى إذن أو تصريح من أيَّة سفارة، بل صار يفرض نفسه، ولذلك كان هناك تذبذب في موقف أمريكا تبعًا لموجات الحراك في الشارع المصري، لا العكس.
الثورة المصريَّة من جانبها أسقطت وهما كان سائدًا بأن غياب البديل السياسي هو السبب وراء تأخُّر التغيير، بعدما انتشرت في الأدبيات الأكاديمية والفكريَّة منذ عام 2005 نظرة تشاؤميَّة لمستقبل مصر واحتمالية التغيير السياسي الديمقراطي فيها، وأجهضت الثورات الشعبيَّة المزاعم القائلة بأن الشعبين المصري والتونسي لن يثورا، وأن الإصلاح المتدرج هو الأنسب للثقافتين المصريَّة والتونسيَّة ولشخصيَّة الشعبين هناك، إضافة إلى الترويج لفكرة أن الأميَّة وقلة الوعي الجماهيري تؤخر التغيير.
ولا شكّ أن كل من شارك في فعاليات الثورة الميدانية في تونس ومصر يدرك من مشاهداته أن أبسط الناس كانوا على وعي تام بالمطالب الكلية والتفصيليَّة، وأن التفاوت في مطالب الأفراد لم يكن مرتبطا بمستواهم التعليمي أو الاجتماعي، بل برؤاهم الشخصيَّة التي تتفاعل مع المستجدات".
ومن جانبها أثبتت ثورة 25 يناير افتعال الوهم الذي نشرته الأوساط الأكاديميَّة والمتمثل في أنه لا توجد حركات اجتماعية قوية ولا مؤسسات تقود التغيير، حيث تجاوزت الثورة المؤسَّسة واستغنت عن القيادة، فقد أسقطت هذه الثورة وغيرها في تونس ما كان يتردَّد بأن التدين الظاهر يعد من أسباب تأخر التغيير لأنها ترتبط بالسلبية الاجتماعيَّة والسياسيَّة، إذ لم يغب عن أي متابع للثورة مشاركة كافة مفردات وعناصر مظاهر التدين، رغم التنوع المصري والإنساني الهائل الذي ساد المجتمع المصري أخيرًا، بل إن التدين كان دافعًا للبعض للثورة على النظام السابق.
ومن الأوهام التي تحطمت في مصر على سبيل المثال أن "الغلّ" الطائفي في مصر يعوق التغيير الديمقراطي السلمي، فلو كان "الكابوس الطائفي" حقيقيًّا لكان مقوضا لأي حراك جماهيري واسع من أجل التغيير الديمقراطي المدني، ونَفَت ثورة 25 يناير مقولة أن الثورة الوحيدة المحتملة في مصر هي ثورة جياع، وأن دور الطبقة الوسطى هو الجوهري في إحداث أي تغيير، حيث كانت ثورة 25 يناير عصية على التصنيف، وهو ما اشترك معها ثوار تونس في إسقاط تصنيفها، مما جعلها ثورة شعبيَّة، وليست عفويَّة، أو فئويَّة، أو تستحق التصنيف لأي حزب أو قوى سياسيَّة.
وأسقطت الثورتان الاعتقاد الشائع بأن دولة القمع محصنة ضدّ التغيير، إذ كان هذا أول الأوهام وأسرعها تبددًا حينما محته أيدي المتظاهرين المضرجة بدماء إخوانهم الشهداء أو المصابين، فالبوليسيَّة كانت متوغلة ومتغلغلة لدرجة جعلت الرقابة الذاتية في أحيان كثيرة أقوى من أيَّة رقابة أمنيَّة مؤسَّسيَّة.
ومن الأوهام الثورية التي أسقطتها الثورات الشعبية أيضًا، الزعم بأنها ثورات شعبيَّة اعتمدت على "الفيس بوك" و"الإنترنت" هو من المصطلحات المغلوطة، وذلك لأن الثورتين في تونس ومصر كانت ثورتين شعبيتين، اشترك فيها جميع شرائح وأعمال الشعب المختلفة، وإن كان أطلقها الشباب سواء كان الشاب محمد البوعزيزي في تونس، أو في شباب مصر على "الفيسبوك"، إلا أن الواقع يؤكد أنها انتقلت من هذا الموقع الاجتماعي إلى ما صار يُعرف مجازًا "الناس بوك".
كما أسقطت الثورات الشعبية الاختلافات الأيديولوجيَّة، إلا أن أخطر ما يمكن يواجهها هو فلول النظام السابق والتيارات الإقصائيَّة، مما يتطلب كيفية استيعابها، والأمية والجهل والفقر، والمطالب الفئوية، والقبلية أو العائلية في الانتخابات وشراء الأصوات.
ومن أحد أهم أسباب نجاح الثورات الشعبيَّة هو تغلغل الفساد والتصرفات القمعية للأنظمة، وهي الحالات المتشابهة بدرجة كبيرة للغاية في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، فضلا عن دول أخرى، مما يؤشر إلى أن الدول العربيَّة متشابهة إلى حدٍّ كبير، وهو ما يفسح المجال لاحتمال انتقال الثورة إلى العديد منها.
أما الحديث عن مفهوم الثورة المضادَّة، فإنه إذا كانت الثورة لديها أهداف ينبغي أن تكون بالأساس أهداف نبيلة، فإنه لا يمكن القول بأن ما يقابل مثل هذه الثورات النبيلة هي ثورة، بل ردود أفعال عكسيَّة وخبيثة ضد إرادة الشعب، وهو حال جميع الثورات.
وفي هذا السياق، فإن العديد من فلول الأنظمة البائدة كثيرًا ما تحاول القتال ضد الثورة، وهو ما يعتبر صراع مصالح وكيانات ودول، خاصة إذا علمنا أن الثورات عادة ما تمرُّ بمراحل، هي القضاء على النظام، وإنشاء نظام معتدل توافقي جدلي، وعدم حكم الثوريين، وتطبيق الفكر الثوري، والدخول في مرحلة النقاهة الثوريَّة، إلى حين استقرار النظام الجديد.

الشعب يريد إسقاط النظام



لقد كان من الحكمة ومن الدقة التكتيكية في إدارة الصراع في ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن حصر الشعار الرئيسي برحيل الرئيس وإسقاط نظامه، مع التركيز على عناصر الاستبداد والفساد والتأكيد على الكرامة والحرية للشعب.
وذلك من أجل حشد أوسع جبهة داخلية خلف ثورة الشباب وتحويلها إلى ثورة شعبية مليونية من جهة ومن أجل التقليل ما أمكن من عداء للخارج الأميركي-الأوروبي لها وإحراجه من جهة ثانية.
فالثورة الشبابية-الشعبية-المليونية في حد ذاتها ليست مخيفة لرأس الدولة ونظامه فحسب، وإنما أيضا حتى للنخب وبعض المعارضات السياسية للنظام، كما لكل دعاة الديمقراطية الذين أرادوا أن يتم التغيير تدرجا من خلال الإصلاح وصناديق الاقتراع وليس من خلال الثورة بكل ما تحمله الثورة من أبعاد.
والدليل ما كان يبرز في أثناء الثورة من ميول للمصالحة والمهادنة والحوار مع رأس النظام والقبول بحلول أدنى من تنحيته أو تنظيم رحيله، بما لا يجعله خضوعا لإرادة الشارع.. إرادة الشعب. والدليل الأهم عدم التعرض لإستراتيجية الثورة الشعبية للوصول إلى الديمقراطية في أي من برامج الديمقراطيين وكتاباتهم.
فهذه سابقة، فرض الخضوع لما يريد الشعب لا يسهل ابتلاعه، لا على المستوى الدولي، ولا على مستوى الأنظمة، ولا حتى على مستوى النخب الديمقراطية والإصلاحية التي أسقطت من حساباتها الثورة الشعبية المليونية وسيلة للتغيير وتحقيق الإصلاح والديمقراطية. ناهيك عن الذين لا يرون التغيير إلا من خلال الإرهاب الفردي أو من خلال البؤر المسلحة.
إن الثقة بالشعب وبإرادته حين تتحول إلى ثورة عامة تملأ الساحات والميادين والشوارع مسألة علمية ومعرفية وأيديولوجية تتناقض مع عقلية النخبة ومع النظرة إلى الشعب باعتباره "العوام" أو العامة إن لم يكن "الدهماء"، أو في أحسن الحالات اعتبار أفعاله عاطفية، وليست صادرة عن وعي وعقل وذكاء وتراكم للتجارب والخبرات.
هذه النظرة إلى الشعب مستحكمة لدى أغلب العلماء والمفكرين والمثقفين ورجال السياسة، وقد قل من يحترم وعي الشعب ومعرفته وحكمته، أو يراهن عليه في التغيير مراهنة إستراتيجية حقيقية.
وهذا يفسر الميل الدائم لدى الكثيرين من طلاب التغيير إلى المساومة مع الحكام، أو مع القوى الدولية المتنفذة، بعد ردح من الزمن، ولا سيما بعد أن يستفحل بياض الشعر في غزو سواده، أي عندما يعبر مرحلة الشباب، مرحلة المبادئ والشجاعة ورفض المساومة.
المشكلة هنا نظرية ومعرفية وأيديولوجية، وتتلخص في السؤال: أي تغيير نريد؟ ومن الذي يستطيع القيام بهذا التغيير؟
هنالك تغيير يمكن أن يتم ضمن ما يرضى به صاحب السلطة أو يريده أو يقتنع به، وهذا ما دأب عليه الذين يريدون من التغيير أن يأتي من خلال الحاكم، ومن هنا يبدأ الاقتناع بالمساومة، وكثيرا ما ينتهي الأمر بالذوبان في ما يريده الحاكم، والتحول إلى بطانته.
وثمة التغيير الذي يعتمد ممارسة الضغوط على الحاكم، ولكن ضمن سقف لا يوصل إلى القطيعة، والاعتماد هنا على النضالات الضاغطة من النخبة، وربما بعض التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، وهذه قد يطول بها الزمن، متراوحة بين إنجاز محدود هنا وانتكاسة كبيرة هناك، وربما الوصول إلى الطريق المسدود.
وأخيرا وليس آخرا (لأن أساليب التغيير غير محدودة) هنالك التغيير من خلال الثورة وإسقاط الحاكم ونظامه، فبعضه قد يحدث من خلال انقلاب عسكري، وبعضه من خلال ثورة مسلحة، وبعضه، وهو الأهم، والأعمق، من خلال الثورة الشعبية السلمية العامة، وهذا النموذج الأخير عرفته تجارب كثيرة في الماضي والحاضر، ويعيشه العرب والعالم مع ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، كما عرفت أساليب الانقلابات العسكرية والثورات المسلحة تجارب كثيرة في الماضي والحاضر كذلك.
ولكن حتى تجارب الثورات المسلحة على شكل انتفاضة مسلحة عامة، أم على شكل كفاح مسلح طويل الأمد، كان النجاح فيها مرهونا بتأييد الشعب لها.
في الظروف الراهنة التي تطورت فيها قوى الأمن لتصبح أقوى من الجيش أو أصبح الجيش في البلد الواحد جيوشا مما أخذ يستبعد أسلوب الانقلاب إلا من خلال اتفاق هيئة الأركان على إحداث التغيير، وهذا لا يحدث إلا عند وقوع كارثة كبرى (هزيمة مثلا) أو في حالة انفلات الوضع أمنيا، أو نزول الجماهير إلى الشوارع وفشل قوات الأمن في كبتها، وشبيه ذلك ما حدث في مصر مثلا في آخر أيام حسني مبارك وتشكيل المجلس العسكري الأعلى.
بعد انتصار الثورتين في تونس ومصر وبعد أن تلحق بهما الثورة في اليمن قريبا إن شاء الله، انقلب الموقف من ناحية النظر إلى الشعب وتقدير دوره في التغيير وفرضه، حتى أصبح شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" أنشودة ترددها الألسن من المحيط إلى الخليج.
فمن الآن فصاعدا ما عاد لحاكم وأسرته وبطانته الاستهانة بالشعب والتصرف كما لو لم يكن ثمة شعب، ولم يعد بمقدور نخب اعتادت هجاء الشعب واعتباره صفرا على الشمال أن تطمئن إلى شعاراتها المرفوضة من الشعب، وكذلك لم يعد بمقدور الذين ذهب تقويمهم للشعب استنادا إلى ما كان يطفو على السطح من مظاهر لا مبالاة وعقلية نفعية واستهلاكية أو تفسخية وانحطاطية أو تلخيص موقف الناس العاديين بالركض وراء لقمة الخبز.
فالشعب اليوم أصبح الأشد حضورا في حسابات الجميع، فالحاكم مذعور، والغرب مشدوه، والمعارض مبهور، وطالب التغيير أدرك أهمية الجمهور فلا أحد يستطيع أن يقول أين الشعب؟ أو يصرخ بشماتة أو يأس: الشعب في حالة موات، ولا من فائدة.
هذا التغيير سيترك أثره المباشر على القوى الخارجية وهي تتعامل مع العرب من الآن فصاعدا، أما الكيان الصهيوني فعليه أن يعد للعشرة قبل أن يأخذ قراره بعدوان، والأنظمة يجب ألا تنام الليل إذا لم تسع لاسترضاء الشعب وعدم إيصاله إلى حد الغضب والنزول إلى الشارع.
والأهم فتح الأفق أمام دعاة التغيير والإصلاح والنهضة والتحرير، على الثقة بالشعب، بعد الله، في تقرير مصير الصراع.
هذا يقتضي الكف عن اعتبار النخب التغييرية لنفسها مالكة الوعي والمعرفة، تفيض بهما أو تهبط بهما من خلال مظلة على الشعب، فالنخب عليها احترام الشعب واحترام عقيدته ووعيه وتقاليده وتجاربه، فالشعب هو الأقدر على أن يقرر موعد النزول إلى الشارع أو يقرر متى يصبر، وإلى أي حد يصبر، على ما يجري.
فالثورة يجب أن تترك من ناحية اندلاعها لعفوية الشعب وليس لحسابات قيادات النخبة، خصوصا إذا لم تكن ممن يمتلك مجسة حساسة جدا لنبض الشارع، هذا وسيكون الأمر كذلك إذا ما قدر لصندوق الاقتراع أن يصبح نافذ القول.
صحيح أن الثورة وكل ثورة شعبية تبدأ عفوية من حيث الظاهر أو من جهة شرارة إطلاقها، ولكنها في الواقع تكون نتاج مجموعة ظواهر توحي للعقل الجمعي أن بالإمكان النزول إلى الشارع، وأن بالإمكان الصمود والاستمرار وصولا إلى الانتصار، وهنا يمكن التقدم بمجموعة مؤشرات على تلك الظواهر التي يلمسها الشعب فيندفع إلى الثورة.
على سبيل المثال الشعور بأن رأسا للنظام قد شاخ وضعف وأصبح تحت تسلط الزوجة والبنات والأولاد والأصهار، والشعور بأن القوى الخارجية تضعف وتتراجع، حالات انتصار لقوى صغيرة على القوى الدولية المسيطرة مثلا انتصار المقاومتين في لبنان وقطاع غزة في حربي تموز 2006 و2008/2009 على التوالي. أو ملاحظة فشل الاحتلال الأميركي للعراق أمام المقاومة أو الاحتلال الأميركي لأفغانستان أمام المقاومة المتواضعة كذلك.
فمجموعة هذه الظواهر المتناثرة ودون تنظير مركب تشكل وحيا للشعب بأن يتحرك وينزل إلى الشوارع، وبصورة شديدة التصميم على الانتصار، وبالمناسبة ثمة إجماع في مصر على أن انتصار الثورة الشبابية-الشعبية في تونس جاءت إيحاء ملهما لشباب مصر وشعبها أن بإمكانهما الانتفاض والانتصار.
ثم هناك تجارب الشعب في تلقيه لضربات قاسية حين تتحرك بعض القطاعات فيقابلها النظام بالشدة والقسوة فتنطفئ جذوتها وتحدث الانتكاسة، فالشعب هنا يتعلم الدروس في متى يكون النظام قادرا ومتى يكون عاجزا.
ولهذا ما يبدو عفوية يستند إلى وعي ومعرفة وتجارب، فهو عفوي فقط بمعنى لم يحدث وفق خطة مدبرة سلفا أعدتها نخبة ونفذتها، أما اعتباره مجرد صدفة أو مجرد رد فعل لحدث جزئي، مثلا إحراق الشاب بوعزيزي لنفسه احتجاجا على شرطي منعه من بيع الخضرة من بسطته، فليس دقيقا إلا بقدر ما جاء الحدث في وقت مناسب تنتظر الثورة الشعبية شرارته لتنطلق.
من هنا يجب إسقاط الفوقية التي يتعامل بها المثقف أو القائد السياسي أو المفكر مع الشعب، إسقاط عقلية الأستاذ إزاء تلاميذه.
فبقدر ما يمكن أن يعطي المثقف أو السياسي أو القائد للشعب يمكن للشعب أن يعطيه ويعلمه، وهذا لا يكون إلا إذا أحسن احترام الشعب وأحسن جس نبضه وأحسن التعلم منه، فعندئذ فقط يتلاقى الأخذ والعطاء المتبادلان في علاقة النخبة بالشعب.
منير شفيق

إهداء: إلى روح محمد البوعزيزي و كلّ شهداء أمِّتِنا الأبرار




الأمواجُ عاتيةٌ
و ظلامُ الليلِ يَلُفُّ المكانْ
مياه البحر حمراء قانيةٌ
و صوت النوارس يصمُّ الآذانْ
كلابُ البرِّ و البحر سواسيةٌ
نباحٌ و زورٌ و بهتانْ
ثمَّ التقت سماءٌ و أرضٌ و قافيةٌ
فعمَّ البلادَ طوفان ما له طوفان

***

الطوفان يزحف و يمشي مِشْيتَه الماَكِرَه
يَحْلِقُ الأرضَ و يَغسِلُ العِرْضَ بغسيل الذاكِرَه
يقتلع الأشجار و الأشعار
يدكُّ الجبال و الأجيال
و محمد عائم فوق الماء يُسبِّحْ
لقد أينع الشبابُ و زهرُ الياسمين فَتَّحْ
و امتدت حقول الثورة بياضا ناصعا
و انطلق المكبوت فينا خيالا واسعا

***
أديمُ الأرض أحمر قاني
ينزف … قطرةً قطره
و حقول الياسمين من أنواديبو إلى عُمَانِ
كِتابٌ يُكْتَبُ … فقرةً فقره
و فَرَاشُ الثورة على كلِّ الألوان
يمتصُّ الرحيقَ … زهرةً زهره
و قوس قزح يشق سماء المعاني
متلألئا … فكرةً فكره
يأتي محمَّدٌ فَتصِيرُ السِّنونُ ثَوانِي
يَقْطِفُ الياسَمينْ… ثورةً ثوره

***

يا محمد قم فكبِّرْ
الأمَّةَ فاستُرْ و
و لِعَرَبتك فاجرُر
خذ من حبّات الطماطم الحمراء ما تيسَّرْ
و من قُريْنات الفلفل الخضراء ما تَبَعْثرْ
خذ من عرق الكادحين في أيام الصيف الحارقه
و من أحلام العاطلين على مراكب الموت الغارقه
خذ من نظرات الحِسانِ الجميله
يقيلن في مخيلة شباب القبيلة
خذ من جدران الزنازين و الآهات البعيده
و من عبق الياسمين يتشرَّبُ في القصيده
لتصنعَ طبقَ التاريخ العَرَبِي
بِيَدَيْ مُحَمَّدٍ العَرَبِي

***
يا محمد!
لقد نكؤوا الجرح و هم يتهامسون
لقد رَموْنا بالجبن و هم يتغامزون
ضحكوا علينا و نحن على فِراش التاريخ نَحْتَضِرْ
قالوا كيف لا تشنُقُنَّ اقطاعيّيكم بأمعاء قسّيسيكم كما فعلنا نحن الحَضَرْ؟
يا محمد!
زرعوا فينا و من نسلنا ذِئابا عربيَّه
باعوا الأرضَ و العِرضَ و القضيَّه
تاجروا برمال شواطِئنا و بِدينِنا و الهويّه
قم لهم يا محمد!
و علِّمْهم كيف تكونُ الثورة العربيّه

***
شَرِبَ العقيدُ حُبوبَ الهلْوسَهْ
فغشيه ما غشيه من الوَسْوَسَهْ
أزْبدَ و أرْعدَ ثم قال “من أنتم؟” أيُّها الجرذانٌ المدنَّسَهْ
أهكذا يُخاطبُ أحفادُ عمر المختار يا من شَعْرُه مِكْنَسَهْ؟
سَفِهَ العقيدُ ماَ أتْعَسَهْ!
فداوِه يا محمد بالنّار المقدَّسَهْ

شبر شبر …دار دار … بيت بيت … زنقه زنقه
قذر قذر … عار عار … عيب عيب … سِرْقَه سِرْقه
جمر جمر … نار نار … موت موت … حَرْقَه حَرْقه

***
يا محمد!
قل لمن في درعا أسدٌ و في الجولان أرنبْ
إنّ الشُّعوبَ إذا وَثَبَتْ فبِجِلْدِكَ حَتّى…سَوْفَ لن تَهْرُبْ
و دكتاتوريةٌ مُوَرَّثَةٌ بالشعارات مطرَّزةٌ كما الأهازيج في الملعبْ
و دُكتوراءٌ ملوَّثةٌ بدمِ الأحلام مُلَطَّخةٌ جيفةً في مِخْلبْ
جاء الحسابُ و طُوِيَ الكتابُ و انتهت قصَّةُ الأسدِ و الأرنبْ
يا محمد!
قل لصالح طالح كالح بالبؤس لا ينضبْ
أَعَقِمَتْ حرائرُ اليمن السعيد من صنعاء إلى مأرب؟
أثلاثٌ و ثلاثون حولاً من عَلْكِ الهواءِ لمْ تَكْفِكَ فَأنْتَ في المزيد ترغبْ؟
ارحلْ… فالهواءُ لافظك و كذا الماءُ و الريحُ والمركبْ
يا محمد!
قل لحكّامِنا أبناءِ جِلدتنا من بني يَعرُبْ
كلّهم لا تستثني منهم أحدا” من الخليج إلى المغربْ”
إنّ الساعةَ آتيةٌ و عروشَكمُ الطوفانُ سوف يضربْ

***
يا محمد قل لكلِ حكَّامِنا العربْ
“لقد هرمنا” حتّى نرى كيف أنّ “بن على هرب”
و كيف أنَّ حسني مع بلطجيتِه كأسَ الذلْ شَرِبْ
و كذا شاربوه أنتم كره من كره منكم و غضب من غضبْ
كمْ أمَمٌ أضحكتموها علينا و أخرى أبكيتموها و أممٌ لم تَنْتَحِبْ
صِرْنا بين ثنايا التاريخ ورمٌ و أنتم السببْ
النَّار مثواكُم وجليسكم فيها فرعونُ و أبو لهبْ

***
يا محمد قل لكلِّ حُكَّامِنا أنِّي أنا
عربي و أفتخر…
يا محمد قل لكلِّ حُكَّامِنا أنِّي أنا
مسلم و أفتخر…
خاطبهم و قل لهم…
يا من جثمتم على صدورنا قمرا بعد قمرْ
النَّار تحت أقدامكم تستعرْ
و فوق رؤوسِكم عروشٌ تهاوتْ إبرًا إبرْ
و أمامكم أمواجُ الشبابِ لا تُبْقِي و لا تَذرْ
و وراءكم تاريخُ عارٍ و ظلمٍ فاقَ حدودَ البشرْ
و على يساركم أنهارُ دمٍ و دموعٌ و كَدَرْ
و على يمينكم مزبلةُ التاريخ تنتظرْ
هاذي دنياكم و أمَّا اٌخراكم فمسُّ صَقَرْ
محمَّدٌ صَنَعَ التاريخَ أمَّا أنتم فصِرْتمْ للتاريخ عِبَرْ


د. مختار صادق

lundi 4 avril 2011

قائد السبسي فشل في الامتحان و عليه أن يستقيل


استطاعت التحركات الشعبية فرض رحيل الغنوشي و كان الباجي قائد السبسي بديلا له توسم فيه العديد خيرا. تزامن تعيين السبسي مع إعلان الرئيس المؤقت وقف العمل بالدستور و تحديد موعد لانتخاب مجلس تأسيسي و أمكن للسبسي التشدق باسم الثورة إيهاما منه بتبنيه و بقبوله مطالبها. إلا أن الأحداث تبين أن الباجي قائد السبسي الذي جيء به لنجاح اعتصام القصبة الثاني قد يمكن له أن يرحل بعد إفشاله اعتصام القصبة الثالث.
هل ينجح السبسي حيثما فشل الغنوشي؟
تمثلت مهمة الغنوشي في ترميم نظام بع علي و المحافظة على ما يمكن منه. لم تكن له أية مشروعية  و لم يمكن تسويقه إلا بادعاء نظافة يده من السرقة و استقلاله عن المافيات و استقالته من التجمع و كذلك طبعا عبر التخويف من الفراغ السياسي و الابتزاز الأمني و الاقتصادي للثورة. و لم تصمد هذه الحجج أمام المد الثوري، و بقطع النظر عن مدى ضعفها، فإن الجماهير الشعبية ما انفكت تزداد وعيا بأن الغنوشي، و إن لم تكن له مصلحة ذاتية في بقائه في الحكومة، فإنه يمثل مصالح أطراف أخرى هي ضرورة معادية للثورة.
لم يصمد جهاز الدولة بكل مؤسساته أمام إصرار الجماهير على مواصلة النسق الثوري فأجبرت الغنوشي على الرحيل و فرضت على المبزع الانصياع للمطالب الثورية. كان ذلك أهم انتصار تحققه الجماهير بعد    14 جانفي و هذا الانتصار هو الذي مكن الباجي قائد السبسي من العودة إلى الساحة السياسية بعد عشرين عام من العزلة.
السبسي من الوجوه البورقيبية المعروفة، اعتزل العمل السياسي منذ بداية التسعينات و لم يُسمع له نقدا أو حتى مجرد موقف لنظام بن علي لا قبل تقاعده السياسي ولا بعده و لم تكن له هذه الجرأة إلا و بن علي على مشارف جدة.
خلافا للغنوشي الذي لم يكن يخفي “احترامه” لبن علي و اتصاله به أحيانا فإن السبسي لم يفوت فرصة  للتهكم فيها عليه. أهمية ذلك تتمثل في قدرته على التواصل مع الجماهير بإظهار شخصية كاريزماتية افتقدتها الساحة السياسية التونسية منذ عقود طويلة تكون لها القدرة على الإيهام بالقطع مع الماضي و على تبني مطالب الثورة و الإقناع بذلك.
مكنت المؤهلات السياسية و ظرفيات المرحلة التي عُيّن فيها السبسي من الإيهام بأنه “رجل المرحلة” و للتذكير فإن أهم سمات هذه المرحلة أنها مرحلة صراع بين قوتين : قوة جماهيرية غير منظمة تريد تحقيق جملة  من المطالب التي لا يمكن للثورة أن تكون من دونها و قوة سياسية و إعلامية و مالية قد خسرت الجولة الأولى برحيل بن علي و تحاول الحفاظ على مواقعها و مكتسباتها بتجنب الصدام مع الجماهير. مهمة السبسي إذن لا تعدو أن تكون محاولة تغليب كفة القوة الثانية أي القوة المعادية للثورة على القوة الأولى أي الثورة.
إن عدم تورطه في تحمل مسؤوليات بارزة في النظام السابق و خبرته بالمجال السياسي إضافة إلى نقده الصريح ـ و الحديث ـ لبن علي جعل مشروعية تقلده للوزارة الأولى أسهل تسويقا من غيره خاصة و أن تعيينه كان في شكل انتصار حققته الجماهير ضد الغنوشي.
فالجماهير الشعبية المهمشة و المفقرة التي هبت للدفاع عن وجودها منذ أشهر أدركت أنه لا مجال لفرض مطالبها إلا بتغيير سياسي جذري يمكّن من فتح سبل التغيير الاجتماعي و تمثلت هذه المطالب السياسية في استقالة الحكومة و حل التجمع و حل جهاز أمن الدولة و تعليق الدستور و انتخاب مجلس تأسيسي. هذه المطالب من المفروض أن تمكن من القطع مع النظام البائد و من تكريس نظام سياسي و اجتماعي و اقتصادي يلبي جملة مطالب الثورة.
خلافا للثورات الكلاسيكية المعهودة فإن الانتفاضة في تونس و لئن أطاحت بأعلى هرم السلطة فإنها لم تقتحم و لم تسيطر على مقرات السيادة و لم تفرز قيادة تحل محل السلطة البائدة. لذلك لم يكن  للجماهير تمثيلية و لم يكن لها من حل إلا مواصلة النسق الثوري و الضغط الشعبي على الفئة السياسية الحاكمة لإجبارها على تحقيق مطالبها لذلك كثيرا ما ترددت مصطلحات من نوع تكنوكرات و مستقل و نظيف و غير تجمعي لتصنيف مسؤولي الدولة.
هذه المفارقات مكنت السبسي من الاعتقاد أنه الوحيد القادر على “إنقاذ الموقف” و ألا بديل له خاصة و أن الساحة السياسية في المعارضة لازالت تشكو من الفراغ و الانقطاع الذين فرضهما قمع بن علي، لذلك و من وجهة نظر سياسية نفعية غير مرتبطة إطلاقا بالميكانيزمات الاقتصادية و الاجتماعية التي أنتجت الثورة، يحق للباجي قائد السبسي أن يعتقد أنه سينجح حيثما فشل الغنوشي.
السبسي و الجبة الثورية
ليس السبسي إفرازا للثورة بل هو غريب عنها كل الغربة و لا تعدو أن تكون علاقته بها تنصيبية. إن فشل أجهزة الدولة و الحكومة و جملة الأطراف التي تمثلها في إيقاف مسار الثورة دفع بهم إلى لعب هذه الورقة المتحجرة التي تجيد الاتصال و التواصل. فقدومه المترافق باعتصام القصبة الثاني مثلما يقدم القائد المنفي قد ألبسه جبة ثورية تعطيه في نظر البعض شيئا من المشروعية إذ لو لم تكن جملة التحركات الجماهيرية و خاصة منها اعتصام القصبة و مسيرة شارع الحبيب بورقيبة لظل السبسي متمتعا بتقاعده بعيدا عن صخب السياسة.
إلا أن ما تؤاخذه عليه الجماهير هو أساسا الازدواجية السكيزفرينية التي تعاني منها سياسته و حكومته. فحكومة السبسي كانت الوحيدة التي مرت تقريبا بسلام و رغم أن عناصرها لا يمثلون بأية طريقة كانت من قاموا بالثورة، فالجماهير الشعبية قد قبلت بها فقط لعدم وجود ما يثبت أنها من رموز العهد البائد  و هو أضعف الإيمان في حكومة وقتية من المفروض أن تكون انتقالية و لا تعنى إلا بتصريف الأعمال. إلا أن سياسات هذه الحكومة ما انفكت تثبت أنها وثيقة الاتصال بشق أعداء الثورة شديدة العداء لها. و طبعا لم يتبين هذا التوجه للعموم إلا بعدد من القرارات التي تم اتخاذها و بجملة أخرى من القرارات التي وقع تغيابها و هو ما يقيم الدليل على سكيزفرينية سياسة السبسي.
فالثورة و المطالب الثورية التي جاءت بالسبسي كان من المفروض أن يجدا صداهما في سياسته إلا أن هذا الرجل و إن كان يبدي أنه يريد القطع مع الماضي فإنه يتخذ من الجبة الثورية شرعية له لتدجين التحركات في سبيل فرض توجه فشل فيه الغنوشي و بن علي من قبله و هو ما أدى إلى التضارب الصارخ بين الجانب الوظيفي و الجانب الإجرائي في سياسة السبسي.
فللسبسي وظيفتين، الأولى احتواء الجماهير و تطويق غضبها و الثانية المواصلة في نفس نهج الغنوشي و بن علي. و طالما أن أجهزة الدولة جميعها من حكومة و أمن و إعلام و جيش باتت عاجزة عن ضمان عدول الجماهير عن النسق الثوري فإنها عمدت إلى المراوغة عن طريق التخلي عن الغنوشي و تنصيب السبسي لقدرته على الإيهام بتحقيق مطالب الجماهير و تكريس سياسة متناقضة مع ذلك. فالانفتاح على المطالب الشعبية للثورة اقتضى تعيين وجه جديد يكون رمز سياسة جديدة و له القدرة على أن يضفي مصداقية على هذا الانفتاح. إذ لو تواصل وجود الغنوشي في الحكومة لما كان لورقة الطريق التي أعلن عنها المبزع يوم 3 مارس أي معنى.
فالقوى الثورية استطاعت فرض مكاسب تمثلت أساسا في حل التجمع و تعليق العمل بالدستور و حل جهاز البوليس السياسي و القبول بفكرة المجلس التأسيسي و تحديد تاريخ لانتخابه أما قوى الثورة المضادة فإنها تعمل، بالتوازي، على حد سقف المطالب الثورية في هذا المستوى و الالتفاف على هذه المكاسب بما يضمن وجودها و يخدم مصالحها و هي المهمة الرئيسية التي عُين من أجلها الباجي قائد السبسي و لا غرابة أن يستهل خطته السياسة بالتأكيد على هيبة الدولة و محاولة فرضها. فبالنسبة إليه الثورة حققت أهدافها و ما تبقى للإنجاز لا يتم إلا من داخل الهيئة العليا لتحقيق مطالب الثورة التي قام ببعثها و هرول إليها كل من تمت دعوته و قد آن الأوان أن تضطلع الدولة بدورها الردعي و غلق قوسي الثورة نهائيا.
فالسبسي إذن هو رجل مرحلة لم يكن لينجح فيها الغنوشي أو أيا كان ممن تورطوا مع بن علي فهو من يمكن له أن يرتدي الجبة الثورية و أن يحافظ داخلها على دولة بن علي، و ما جملة المطالب التي حشدت الجماهير إلى الاعتصام للمرة الثالثة بالقصبة و طريقة تعامله معها إلا دليل على فشله في سياسة تربى عليها و هي سياسة المغالطة.
السبسي و سياسة المغالطة
يشهد له الجميع بقدرته على المراوغة، و المراوغة أسلوب الدولة المؤقت في التعامل مع الجماهير. فالشعب قد أطاح بصرح بن علي القائم على القمع. و لما كانت هذه الجماهير متوهجة غضبا مصممة على تحقيق ثورتها و لما كان الصدام معها قد يُجهز على ما تبقى من صرح بن علي المتهاوي من قبل أن يضمد جراحه و يعاود النهوض و إرساء بنيانه، توجهت سياسة الدولة إلى المغالطة إلى حين تمكنها من إعادة بسط نفوذها و تقويض ما حققته الثورة بالقمع و بالمغالطة.
تجسدت سياسة المغالطة في، مثلما سبق الذكر، في قرارات اتخذتها هياكل الدولة و أخرى تعمدت تفاديها و لعل أهمها مما يثير حفيظة الشعب هو:
ـ قرار حل التجمع: حيث سارعت وزارة الداخلية بالمعالجة القضائية لهذا الملف لا لشيء إلا لسحبه من جدول اهتمامات الشارع التونسي. فالتجمع كعنوان سياسي قد انتحر سياسيا و انحلاله أمر يفرضه الأمر الواقع و التعامل العدلي مع هذا الجهاز على خلفية التهم المنسوبة إليه يضمن، باعتبار عدم وجوده القانوني، عدم تتبعه على خلفية تهم أخرى قد تكون أكثر خطورة. و هو ما يعني شطب لوحة جرائمه كلها من دون أدنى أشكال المحاسبة. و إضافة إلى هذا فإن طريقة الحل و الاتهامات الموجهة إلى الجهاز ككل، أي إلى الشخص المعنوي للحزب، قد مكنت كوادر الحزب ليس فقط من الإفلات من المحاسبة بل كذلك من الترسكل في أجهزة حزبية أخرى بعضها موجود و بعضها بُعث للغرض.
ـ عدم محاسبة كوادر التجمع: إن حل التجمع دون محاسبة على الأقل الكوادر من التجمعيين ليس إلا خداعا يتم بموجبه الحفاظ على موارده البشرية خاصة و أن التجمع كان من تلقاء نفسه يدرس فرضية تغيير الحزب اسما. فحل الجهاز ليس ذي قيمة كبرى طالما أن إطاراته طليقة اليد و صاحبة نفوذ في الساحة السياسية و في الإدارات و في الإعلام و في عديد المجالات الأخرى الحساسة. و رغم أن إجراء الحل سابق لعودة السبسي للحياة السياسية فإنه يتبنى جانب المغالطة فيه فالإرادة السياسية الحقيقية في التخلص نهائيا من عبء التجمع و أخطاره لا تكون إلا بمنع أعضاء أمانته العامة و ديوانه السياسي و أعضاء لجنته المركزية و أعضاء لجان تنسيقه و رؤساء شعبه من العمل السياسي مدة خمس سنوات على الأقل و بفتح الملفات الساخنة التي تدينهم، تلك الملفات التي تعلمها الحكومة و ليست لها أية نية في طرحها.
إن إشكالية التجمع و التجمعيين ليست إشكالية حزب تقضي المحكمة بحله بل هي إشكالية نظام أخطبوطي تغلغل في جسد الدولة و المؤسسات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الإعلامية و هذا الأخطبوط لازال فاعلا و فعالا قادرا على التحرك و إعادة التمركز و الهيمنة على البلاد سواء كان اسمه التجمع أو أي اسم آخر و المغالطة تتمثل في الإيهام بحله و نهايته في حين أن هم الحكومة في المرحلة الراهنة هو حمايته في انتظار تمام عودته.
ـ مسألة الحريات: من أهم ميزات سياسة بن علي السيطرة على الإعلام و خنق الحريات و هو ما يحدث الآن فبالإضافة إلى الطريقة الوحشية في تفريق معتصمي القصبة و التهديدات الصريحة لناشطي الأنترنات فإن رائحة التعذيب في السجون و المعتقلات العسكرية و البوليسية قد بدأت تفوح و هو ما يفند أكذوبة حل جهاز أمن الدولة و البوليس السياسي بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات جدية تكفل استقلالية القضاء و الإعلام و الإدارة.
ـ التستر على بن علي: إن ما فعلته الحكومة لا يقل خطورة عما لم تفعله فهي إلى الآن و رغم المطالب الشعبية الصريحة تتستر على بن علي و بطانته المافيوزية فالشكوى الوحيدة التي تقدمت بها ضده يمكنه الإفلات منها دون قضاء يوم واحد في السجن في حين أن الجميع يتذكر أن السبسي كان قد صرح لإحدى القنوات التلفزية أن بن علي يجب أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى، كان ذلك قبل تعيينه وزيرا أولا أما الآن و قد صار ممثلا للحكومة فمن الأكيد أنه يرى الأمر بطريقة مختلفة.
ـ ملفات السرقة و الفساد: و لعل نفس هذه الرؤية هي التي مكنت صهرا للمخلوع من طيب الإقامة في كندا و مكنت آخرا من اجتياز الحدود خلسة و آخرا من الإفلات من العدالة مكلفا حياة ما يزيد عن خمسة مواطنين  في محاولة هروبه و نفس هذه الرؤية هي التي أعطت الناهبين لأموال الشعب كامل الوقت للفرار بها من البلاد و تهريبها لأرصدتها من البنوك الأجنبية و.. و.. و.. وما تلك اللجان الوهمية إلا دليل آخر على المغالطة و الإيهام بالمحاسبة و التقصي و هي رؤية مشتركة بين السبسي و الغنوشي تثبت ما بينها من تواصل في ذات النهج السياسي.
ـ المديونية: في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة استرجاع الأموال المسروقة و في الوقت الذي تتشدق فيه أبواق دعايتها بخطر الثورة على الاقتصاد يمعن السبسي في سياسة التداين التي يعلم الجميع أخطارها و في المقابل يرفض إلغاء خلاص الديون أو حتى مجرد تجميدها الذي يمكن أن يكون بديلا لتكريسه لسياسة التبعية.
ـ التستر على قتلة أبناء الشعب: ما حدث في عديد المدن التونسية مثل القصرين و تالة و الرقاب و تونس كان قتلا ممنهجا لا يمكن تصنيفه إلا كجريمة ضد الإنسانية و قد توافق كل من الغنوشي و السبسي على عدم التطرق لهذا الموضوع و التستر على القتلة الذين ينعمون بجرايات تصرف لهم من أموال الشعب و الجميع يعلم، خاصة أهل القانون من أمثال السبسي، أن التستر على جريمة قتل لا يختلف جزاؤه عن جزاء القتل باعتبار أنه اشتراك في الجريمة.
هذا البعض القليل من المعطيات التي تأجج الشارع التونسي من الجديد و التي تبين مدى تورط السبسي في النسق السابق له و مدى دفاعه عن المنظومة التي خلفها بن علي و التي لم يعد من الممكن أن تتستر عليها الجبة الثورية التي يحاول ارتداءها. بل إن التمعن في معطيات أخرى يتبين مدى توافق السبسي و بن على في جذور هي المسؤولة عن إفراز بن علي.
السبسي و العود إلى الجذور
من الخطأ الاعتقاد أن تعيين السبسي و اعتماد ورقة الطريق التي ضبطها المبزع يمثلان استجابة لمطالب الثورة. ليس ذلك إلا انتقال من المنهج البوليسي البحت الذي اعتمده بن علي طيلة عقدين على الأقل إلى المنهج البورقيبي الذي يراوح بين المراوغة السياسية و القمع البوليسي. فالمراوغة هي المغالطة بإيهام تلبية مطالب الثورة فما يحدث هو ذر رماد في العيون. إذ تبين للجميع أن جهاز البوليس السياسي لم يحل بل هو أكثر نشاط من ذي قبل و أن تعليق العمل بالدستور أمر يفرضه الأمر الواقع ليس فقط لكثرة ما ديس و أخترق بل كذلك بانتهاء صلاحيات الحكومة المؤقتة بحلول تاريخ 17 مارس و أن حل المجلسين هو تركيز لكل السلط في يد الرئيس المؤقت و أن انتخاب المجلس التأسيسي قد يكون أفضل طريق لعودة زبانية العهد البائد في لعبة انتخابية تحكم قوانينها الحكومة المؤقتة و من يقف خلفها إذا ما واصلت الحكومة التفافها على الثورة. أما القمع البوليسي فقد انتقل بقدوم السبسي و ترحيله للراجحي من الطور المقنع إلى الطور العلني. فتعيين الصيد على رأس وزارة داخلية هو إمعان في النهج الإرهابي الذي تعودت عليه هذه الوزارة.
لدى كل التونسيين اليوم وعي بأن الثورة في خطر و أنها لم تقم لتصحيح المسار البورقيبي. إن ما يحدث اليوم هو التسليم بضرورة شطب بن علي من سجل الدولة و لكن مع المحافظة على نفس الجهاز و نفس النظام الذي كان يرأسه. لقد كانت الجماهير الشعبية صارمة في موقفها منذ مساء 14 جانفي حين لم تكتف بتهريب بن علي و أرادت أن تكون الثورة ثورة حقيقية تمس كل الجوانب و كل المستويات. إن هذا النهج ليس إلا تطبيق لسياسة خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام بمعنى نعم سنتنازل على بن علي و لكن عفى الله عما سلف، سنواصل في نفس النهج. و ما التجمع الدستوري الديمقراطي إلا تواصل للحزب الاشتراكي الدستوري الذي بدوره تواصل للحزب الحر الدستوري. فالاختلاف في الأسماء و الظواهر لا يعني البتة اختلاف في التوجه السياسي العام الذي هيمن على الحياة السياسية في تونس منذ ما قبل الاستقلال و الذي يعتبر المسؤول الأول و الوحيد عن الفشل السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع بن علي.
و وفق هذا التصور ليس لبن علي من ذنب سوى إخفاقه في تدجين الجماهير مما تسبب في وضع نظام جاري به العمل، منذ الاستقلال على الأقل، أمام رفض شعبي عارم. لذلك يسعى السبسي إلى تعويض أفق الثورة بالماضي البورقيبي فالحل بالنسبة إليه ليس في الاستجابة لمطالب الجماهير بل في العودة إلى وضعية ما قبل الثورة و هو ما يعني توظيف جميع مكتسبات الثورة بما في ذلك المجلس التأسيسي من أجل إعادة إنتاج النظام الدستوري السابق. فما لم يفهمه السبسي هو أن الثورة ليست فقط ثورة ضد الـ23 سنة من حكم بن علي، بل هي ثورة ضد نظام كامل قائم على اللاعدالة الاجتماعية و التفاوت الطبقي و الجهوي و ما ينجر عن ذلك من قمع للحريات و للديمقراطية للمحافظة على وضع سائد يخدم مصالح قوى أجنبية و يمثل خطرا على السيادة الوطنية.
خلاصة القول أن تشبث السبسي و من وراءه بالتنكر للثورة و لمطالب الجماهير ليس فقط من أجل إعادة التجمعيين أو الدستوريين إلى الحكم، إنه تشبث بنظام تكرسه هذه المجموعات منذ الاستقلال. هو نظام لا يخدم مصلحة الأغلبية من أبناء هذا الشعب، نظام يمعن في استغلالهم و تفقيرهم و تهميشهم و لا يمكن له أن يتواصل في الوجود إلا بقبضة حديدية يضرب بها الحرية و الديمقراطية. فدكتاتورية بن علي لم تكن غاية في ذاتها بل هي النهج الذي اتبعه لفرض توجهه السياسي و الاقتصادي بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد الأوروبي الذين لم يتخليا عنه إلا ساعة تيقنا أنه لم يعد يخدم مصالحهما بل صار يهددها. و السبسي من أجل الحفاظ على نفس هذا النظام تنكر في جبة ثورية و حاول مغالطة الجماهير، إذ لا مانع لديه من تقليم أظافر دكتاتورية بن علي و بورقيبة و الإيهام ببعض الانفتاح على مطالب الجماهير إذا ما كان هذا هو الثمن الذي يجب دفعه من أجل إبقاء نفس النظام قيد الحياة. ذلك النظام الذي لا يخدم إلا مصالح كبرى الشركات و الأنظمة التي تهيمن على العالم بفرض اقتصاد لا وطني تمليه مؤسسات عالمية مثل صندوق النقد الدولي و البنك المركزي و الإتحاد الأوروبي عن طريق أنظمة الشراكة و برامج الإصلاح الاقتصادي و المديونية الأبدية.  فمثل هذه الخيارات لا يمكن أن تكون أبدا في خدمة السيادة الوطنية و وظيفة المتشبثين بالحكم و المعادين للثورة هي المواصلة في تكريس هذا النهج و عدم القطع معه.
إن أسابيع قليلة في الوزارة الأولى بينت الوجه الحقيقي للباجي قائد السبسي و أثبتت أنه لا يمكن أن يكون منقذا للثورة بل الخطر الأكبر عليها. إن نفس الوعي الجماهيري الذي قاد الشعب للثورة ضد بن علي يقودها من جديد لرفض السبسي و الثورة عليه. لقد ساهمت المقايضة الاقتصادية و الابتزاز الأمني في دفع المواطنين لإعطائه فرصة، و لكن بانتهاجه سياسة تسعى إلى إعادة تكريس الماضي لا يمكن لهذه الجماهير إلا أن تقول له لقد فشلت في الامتحان يا سبسي، عليك أن تستقيل، ارحل.

أنيس منصوري