lundi 4 avril 2011

لا يرى، لا يسمع، ولكنه يتكلم



منعت الحكومة المعتصمين من العودة إلى القصبة مجددا، وقد استعملت في سبيل ذلك أسلوبا عنيفا. في الحالات العادية، عندما تكون وضعية السلطة المتحكمة بزمام الأمور وضعية دستورية عادية وتكون هذه السلطة معبرة عن شرعية شعبية عبر انتخابات ديمقراطية وشفافة، يستنكر الناس مثل هذه الطرق في التعامل مع المعارضين، وتجبر بعض هذه الحكومات في الأنظمة عريقة التجربة الديمقراطية إما على الاعتذار أو على تقديم استقالتها. هكذا تتم الأمور في الأوضاع الديمقراطية العادية. الحكومة تحكم، والمعارضة تعارض. أما في الأوضاع الانتقالية، عندما تكون السلطة انتقالية ومؤقتة، تستمد كل شرعيتها من وضعية ملء الفراغ، فإن أول ما يقتضيه منها المنطق هو أن تكون مقنعة، وأن تجعل الناس يطمئنون إلى أن الأهداف التي من أجلها قامت ثورتهم على الديكتاتورية والفساد، هي في طريق التحقق. ليست السلطة الحالية ثورية، ولم يعرف عن أي من أعضائها، حتى في الحكومتين السابقتين، أنهم ساندوا الثورة أو دافعوا عن جزء يسير من أهدافها وشعاراتها. هذا أمر مفروغ منه، ومع ذلك فإنها عندما جاءت قالت أنها في خدمة الثورة وأنها ستسعى لتحقيق أهدافها. قد يرى بعض الناس أن المشكل هو في طريقة تحقيق أهداف هذه الثورة، وأن الأمر لا يتجاوز في نهايته مجرد اختلاف في وجهات النظر وطرق التنفيذ، غير أن المسألة أكثر تعقيدا من ذلك في نظرنا.
كانت وعود السيد قايد السبسي في أول ظهور إعلامي له غداة تسلم زمام الأمر في قصر القصبة الوجه الأول من الصورة التي أراد إبلاغها للتونسيين، وقد أحسن طمأنة الناس إلى أنه لم يعد هناك من داع للاعتصام وقد رحل الرجل الذي عرقل كل إنجاز حقيقي يقطع مع العهد البائد. لم يعد هناك من داع للاعتصام في نظره، فنوافذ مكتبه كما قال مفتوحة على ساحة الاعتصام، ولن يكون بإمكانه أن لا يسمع احتجاجات المعتصمين إذا ما عادوا، لذلك فإن من جاء إلى الحكومة على كاهل ذلك الاعتصام لا يمكن إلا أن ينفذ ما يجمع عليه المحتجون. أما عندما تحدث في ذلك اللقاء الصحفي العجيب ليوم الأربعاء 30 مارس، أمام صحفيين كان من الأجدر تسميتهم ملحقين إعلاميين بوزارته العتيدة، فقد تبين لنا جانب جديد من طريقة تعامل السلطة الحالية بنا جميعا: السخرية. وفي حديث صحفي آخر لجريدة الصباح نشر اليوم 3 أفريل، تبين جانب ثالث: تجاهل ما يحصل في البلاد، وبالخصوص في العاصمة قريبا منه، مع جرعة واضحة جدا من الشماتة بالشباب الذي كان يتعرض لكل ذلك التعنيف على بعد شوارع قليلة من مكتبه. تلك الوجوه الثلاثة لسلطة اليوم: خطاب يقوم على الطمأنة وممارسة تقوم على السخرية، وشماتة لا يسعى حتى إلى تجميلها.
لم ير الرجل معتصمين في المكان رغم أنه دخل مكتبه بالضبط من الباب الذي يفتح على ساحة الاعتصام المفترض. غريب فعلا طرح ذلك السؤال عليه، فلو كان هناك معتصمون، لرآهم، وربما لجادلهم، وفي أقصى الحالات ربما كانوا سيمنعونه من الوصول إلى مكتبه. أما عندما قيل له أنه كان هناك عنف في التصدي لهم من قبل قوات الأمن، وأن ذلك العنف هو ما منعهم من الوصول إلى حيث يفترض أن يراهم، فقد عبر الرجل عن رفضه المبدئي للعنف، مردفا في الوقت نفسه: “ولكن ماذا تريدون من رجال الأمن أن يفعلوا عندما يتعرضون للعنف؟”. ليس هنا مجال التحقيق فيمن بدأ باستعمال العنف أولا، ولكنه مجال للتأكيد على أن منع الناس من الاعتصام لا يتم باستعمال القوة العامة، وإنما بإزالة الذرائع التي قد تدعوهم للعودة إلى تلك الساحة وإنهاء حالة الاحتقان السياسي بإجراءات سياسية. يعلم الرجل حق العلم، وقد قضى معظم حياته السياسية في الحكومة أو قريبا منها، أن الدول التي تحترم نفسها لا تستعمل العنف إلا اضطرارا، وأنها تواجه المشاكل السياسية بإجراءات سياسية، وفيما عدا ذلك فإن الاحتقان لا يمكن إلا أن يزداد، حينها تصبح العواقب غير معلومة مطلقا.
الرجل لا ينكر حق المعارضة في الوجود، وهذا في حد ذاته انتصار كبير لنا جميعا، فمن كان يظن أن رئيس حكومة في تونس يقبل بوجود شيء اسمه المعارضة. ولكنه كبورقيبي صميم لا يؤمن أن للمعارضة من دور سوى نقل بعض المطالب، على بعض الأوراق، عن طريق بعض أصحاب “النوايا السليمة”، بعد ذلك تنظر الحكومة في الأمر، وتقرر ما تفعل، وفي الغالب فإنها تتفطن إلى وجود “مصطادين في المياه العكرة”، فتقرر أن تفوت عليهم فرصة المس “بوحدة الشعب التونسي”. ولأنها “سلطة حضارية جدا” فإنها تتجاهلهم، ولا تتعرض إليهم “إلا في حدود ما يسمح به القانون”. ذلك ما خبرناه طيلة أزيد من نصف قرن من عمر دولة ما بعد الاستعمار، وبما أنه ليس من السهل على أي منا أن يغير تركيبته الجينية لمجرد أنه مقتنع بوجود خلل ما في تلك التركيبة، فإن الطبيعة تغلب دوما التطبع، وسرعان ما تطفو إلى السطح كل تلك الأشياء التي نحاول إخفاءها.
نعم، لا ترى حكومة اليوم أي ضير في وجود معارضة لها، ولكنها تريدها معارضة حضارية، لا تصرخ، لا تتظاهر، وخاصة لا تعتصم. ذلك أن الاعتصام يعني بداية التفكير في الرحيل، والسيد رئيس الحكومة المؤقت أكثر من يعرف ذلك. ألم يأت هو نفسه بعد ذلك الاعتصام الذي أخرج سلفه من نفس المكان الذي يشغله الآن؟ ذلك درس لا ينسى، أو يفترض أنه لا ينسى. ولكن للزهايمر السياسي دواعيه التي لا تعرفها الذاكرة، وهو ما يعني أن المرء يمكن أن يسمع، ثم ينسى أنه سمع، كما يمكن أن يرى، ولكنه ينسى أن يكون قد رأي. ومع ذلك فإنه يتكلم.
في الوقت نفسه، يجب الإشارة إلى طريقة جديدة في تعامل قوات الأمن مع مشاريع الاعتصام، فقد أصبح ترسل بالأعوان وهم ملثمين. لأول مرة في التاريخ، وربما في الجغرافيا، يتظاهر الناس مكشوفي الوجوه، ويقابلهم رجال الشرطة ملثمين بأقنعة سوداء تغطي كل وجوههم. ورغم سرياليته الزائدة، فإن المشهد يلخص اليوم كل شيء تقريبا: مثل من أنجز الثورة تماما فإن من يطالب بمحاسبة المتورطين في عمليات القتل والفساد معروف وواضح، أما من يعرقل تحقيق المطالب، فهو مثل من يحكم البلاد تماما، ملثم ومجهول. طبيعي إذا أن لا يرى الرجل قناصة ولا فاسدين، بل أن يقول أن هذا الملف قد أغلق، وأن الحكومة فعلت كل ما استطاعت لتتبع الفساد. وأن كل شيء على ما يرام، طبعا.
تلك هي النتيجة الطبيعية لالتقاء السفسطة مع السخرية والتجاهل. وهل هناك أكثر سخرية من وضع يحكم فيه مصير البلاد من ضاحية أرستقراطية، بعد ثورة أنجزتها كل الجهات والفئات المحرومة من الحق في الحياة والكرامة؟ وهل هناك أكثر سفسطة من حالة يوكل فيه مصير ثورة إلى “لجنة إصلاح” وإلى حكومة لا تسمع ولا ترى، وإن سمعت ورأت؟ وهل يمكن للتجاهل أن يبلغ مدى أبعد من عدم رؤية “قناصة” لا زالوا يجوسون، يصوبون النار ملثمين على كل ما أنجز إلى حد اليوم؟
عدنان المنصر – 3 أفريل 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.