عَلَى مدى ثلاثة أشهر على الأكثر شهدت ثلاث دول عربيَّة ثورات شعبيَّة، هي تونس ومصر وليبيا، منها ثورتان نجحتا في إسقاط رؤوس النظام، فيما ينتظر الشعب الليبي تحقيق مطلبه الأساسي بإسقاط نظام الحكم القائم.
إلا أنه مع إسقاط النظامين في مصر وتونس، والطريق الطويل الذي قطعه الشعب الليبي، وأصبح على طريقه، وهو على وشك تحقيق مطلبه، لا يزال هناك بون ليس شاسعًا بينهم وبين تحقيق حريتهم، التي يأملونها، والتي لم يتحقق منها الكثير.
إلا أن المؤكَّد أن هناك الكثير من الأوهام ألتي كان يعتبرها البعض أشبه بالأصنام التي لا يمكن أن تمسء نجحت الثورات الشعبيَّة في إسقاطها، ولعلَّ أبرزها ما كان يتردد بأن النظامين المصري والتونسي من الأنظمة القويَّة التي لا يمكن أن تهزَّها مظاهرات شعبيَّة، أو احتجاجات فئوية.
وربما كان ذلك دافعا لستيفن هايديمان، نائب رئيس معهد السلام الأمريكي، إلى وصف النظام المصري بأنه مقاوم للزلازل، وأن "لديه من مقومات امتصاص الضربات الاحتجاجية واستيعاب الحركات السياسيَّة ما يضمن بقاءه"، غير أنه أكَّد بعد ذلك أن تمام القمع الذي شهدته البلاد في عهد النظام السابق، أدى إلى زوال الخوف لدى الشعب المصري، ونزولهم إلى الشارع لإسقاط النظام.
ومن أقوى ما أفرزته الثورات الشعبيَّة في تونس ومصر إسقاط نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، أن الثورتين أسقطتا أوهامًا كثيرة ما تردَّدت قبل نجاح الثورتين، حتى تبددت وتبين زيفها، فعلى الرغم من تراكم هذه الأوهام عبر السنين، سواء بشكلٍ مؤسسي أو بطريقة عفوية، إلا أن اللافت للنظر أن كل ما كان يساق من دلائل على أن تلك الأوهام حقائق وأمر واقع ثبت لاحقا أن هذا حق ما أريد به باطل، بدليل نجاح الثورتين في إسقاط النظامين، فضلا عما تحقِّقه حاليًا ثورتا اليمن وليبيا من نجاح، وفي طريقهما لتحقيق ما يريده الشعب.
والواقع، فقد كانت هناك الكثير من الأوهام التي بدَّدتها ثورتا تونس ومصر، والتي لم تكن مجرد انطباع ساد في وسط معين من شرائح المجتمع المصري، بل كانت أعمق من ذلك وأرسخ، وهذه الأوهام كثيرًا ما عرضها دعاتها في أوراق بحثية وتَمَّ التدليل عليه بشكل أكاديمي ومنهجي، ومنها ما روَّجَه المنتسبون لما يسمى النخبة المثقفة سواء بالنشر أو التربية الفكريَّة لمن يحترفون الإعلام وتكوين ثقافة الجماهير، ومنها ما تم التواطؤ على بثّه وترويجه وتدعيمه بوسائل التنشئة الاجتماعيَّة والثقافيَّة المختلفة.
من هذه الأوهام أن الثورتين أسقطتا الانطباع الذي كان سائدًا بأن التغيير بالدول العربيَّة يحتاج إلى إذن أو تصريح من دول أجنبيَّة كبرى، كما أسقطتا المزاعم بأن الثورتين هما ثورتا جياع، مما يؤكِّد أن التغيير الشعبي لم يعدْ يحتاج إلى إذن أو تصريح من أيَّة سفارة، بل صار يفرض نفسه، ولذلك كان هناك تذبذب في موقف أمريكا تبعًا لموجات الحراك في الشارع المصري، لا العكس.
الثورة المصريَّة من جانبها أسقطت وهما كان سائدًا بأن غياب البديل السياسي هو السبب وراء تأخُّر التغيير، بعدما انتشرت في الأدبيات الأكاديمية والفكريَّة منذ عام 2005 نظرة تشاؤميَّة لمستقبل مصر واحتمالية التغيير السياسي الديمقراطي فيها، وأجهضت الثورات الشعبيَّة المزاعم القائلة بأن الشعبين المصري والتونسي لن يثورا، وأن الإصلاح المتدرج هو الأنسب للثقافتين المصريَّة والتونسيَّة ولشخصيَّة الشعبين هناك، إضافة إلى الترويج لفكرة أن الأميَّة وقلة الوعي الجماهيري تؤخر التغيير.
ولا شكّ أن كل من شارك في فعاليات الثورة الميدانية في تونس ومصر يدرك من مشاهداته أن أبسط الناس كانوا على وعي تام بالمطالب الكلية والتفصيليَّة، وأن التفاوت في مطالب الأفراد لم يكن مرتبطا بمستواهم التعليمي أو الاجتماعي، بل برؤاهم الشخصيَّة التي تتفاعل مع المستجدات".
ومن جانبها أثبتت ثورة 25 يناير افتعال الوهم الذي نشرته الأوساط الأكاديميَّة والمتمثل في أنه لا توجد حركات اجتماعية قوية ولا مؤسسات تقود التغيير، حيث تجاوزت الثورة المؤسَّسة واستغنت عن القيادة، فقد أسقطت هذه الثورة وغيرها في تونس ما كان يتردَّد بأن التدين الظاهر يعد من أسباب تأخر التغيير لأنها ترتبط بالسلبية الاجتماعيَّة والسياسيَّة، إذ لم يغب عن أي متابع للثورة مشاركة كافة مفردات وعناصر مظاهر التدين، رغم التنوع المصري والإنساني الهائل الذي ساد المجتمع المصري أخيرًا، بل إن التدين كان دافعًا للبعض للثورة على النظام السابق.
ومن الأوهام التي تحطمت في مصر على سبيل المثال أن "الغلّ" الطائفي في مصر يعوق التغيير الديمقراطي السلمي، فلو كان "الكابوس الطائفي" حقيقيًّا لكان مقوضا لأي حراك جماهيري واسع من أجل التغيير الديمقراطي المدني، ونَفَت ثورة 25 يناير مقولة أن الثورة الوحيدة المحتملة في مصر هي ثورة جياع، وأن دور الطبقة الوسطى هو الجوهري في إحداث أي تغيير، حيث كانت ثورة 25 يناير عصية على التصنيف، وهو ما اشترك معها ثوار تونس في إسقاط تصنيفها، مما جعلها ثورة شعبيَّة، وليست عفويَّة، أو فئويَّة، أو تستحق التصنيف لأي حزب أو قوى سياسيَّة.
وأسقطت الثورتان الاعتقاد الشائع بأن دولة القمع محصنة ضدّ التغيير، إذ كان هذا أول الأوهام وأسرعها تبددًا حينما محته أيدي المتظاهرين المضرجة بدماء إخوانهم الشهداء أو المصابين، فالبوليسيَّة كانت متوغلة ومتغلغلة لدرجة جعلت الرقابة الذاتية في أحيان كثيرة أقوى من أيَّة رقابة أمنيَّة مؤسَّسيَّة.
ومن الأوهام الثورية التي أسقطتها الثورات الشعبية أيضًا، الزعم بأنها ثورات شعبيَّة اعتمدت على "الفيس بوك" و"الإنترنت" هو من المصطلحات المغلوطة، وذلك لأن الثورتين في تونس ومصر كانت ثورتين شعبيتين، اشترك فيها جميع شرائح وأعمال الشعب المختلفة، وإن كان أطلقها الشباب سواء كان الشاب محمد البوعزيزي في تونس، أو في شباب مصر على "الفيسبوك"، إلا أن الواقع يؤكد أنها انتقلت من هذا الموقع الاجتماعي إلى ما صار يُعرف مجازًا "الناس بوك".
كما أسقطت الثورات الشعبية الاختلافات الأيديولوجيَّة، إلا أن أخطر ما يمكن يواجهها هو فلول النظام السابق والتيارات الإقصائيَّة، مما يتطلب كيفية استيعابها، والأمية والجهل والفقر، والمطالب الفئوية، والقبلية أو العائلية في الانتخابات وشراء الأصوات.
ومن أحد أهم أسباب نجاح الثورات الشعبيَّة هو تغلغل الفساد والتصرفات القمعية للأنظمة، وهي الحالات المتشابهة بدرجة كبيرة للغاية في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، فضلا عن دول أخرى، مما يؤشر إلى أن الدول العربيَّة متشابهة إلى حدٍّ كبير، وهو ما يفسح المجال لاحتمال انتقال الثورة إلى العديد منها.
أما الحديث عن مفهوم الثورة المضادَّة، فإنه إذا كانت الثورة لديها أهداف ينبغي أن تكون بالأساس أهداف نبيلة، فإنه لا يمكن القول بأن ما يقابل مثل هذه الثورات النبيلة هي ثورة، بل ردود أفعال عكسيَّة وخبيثة ضد إرادة الشعب، وهو حال جميع الثورات.
وفي هذا السياق، فإن العديد من فلول الأنظمة البائدة كثيرًا ما تحاول القتال ضد الثورة، وهو ما يعتبر صراع مصالح وكيانات ودول، خاصة إذا علمنا أن الثورات عادة ما تمرُّ بمراحل، هي القضاء على النظام، وإنشاء نظام معتدل توافقي جدلي، وعدم حكم الثوريين، وتطبيق الفكر الثوري، والدخول في مرحلة النقاهة الثوريَّة، إلى حين استقرار النظام الجديد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.