لا تبدو الأمور واضحة للجميع في تونس. ويعتقد الكثيرون أن كل شيء على ما يرام وأننا نتحرك ببطء نحو حقبة من الحرّية غير المسبوقة ، والتي ستزدهر قريبا في ظل الديمقراطية. هؤلاء يعتقدون أنّ على غيرهم التوقف عن التباكي و رؤية الشرّ في كل مكان. لكنهم يقولون أيضًا أنه يجب علينا أن نظل يقظين وأن تبقى أعيننا مفتوحة. هناك خيار ينبغي تحديده بين اليقظة والقلق اللذين يتسبّبان في العمل، أو الثقة التي تؤدي إلى فتور الحريّة ووفاتها.
لم يعد هناك وقت للثقة، فالثقة لا قيمة لها ما لم تقترن بالأفعال. لا يحتاج جهاز بقوّة الدولة لأكثر من من أسبوع لتفعيل القرارات والإرادات، لكن قريبا ستكون قد مرّت ثلاثة أشهر على ثورتنا المفترضة. ما الذي فعلته هذه الثورة عدا التغيير الشّكلي لمالكي الدّولة؟
إنّهم يضحكون على ذقوننا.. وشئنا أم أبيْنا فذلك هو الواقع السّياسي في تونس ما بعد الثّورة. ما يحدث منذ مدّة في البلاد له إسم مُحدّد: استراتيجيّة التوتـّر.. وهي إحدى أساليب الثورة المُضادّة التي وُضعت في أواسط ستّينات القرن الماضي لمواجهة الزّخم الثوري الشّعبي الذي كان يُريد التخلّص من رواسب الأنظمة الفاشيّة التي بقيت بعد الحرب العالميّة الثانية.
الأمر ليس بأسطورة تُستعمل لإثارة الذعر، بل هي بيانات استراتيجيّة وتاريخيّة يمكن التحقق منها بسهولة، وعلاوة على ذلك، هي مادّة يتمّ تدريسها في أغلب المدارس العسكريّة في العالم.
ماهي استراتيجيّة التوتر؟ إذا أردنا تفسير المبدأ باختصار سيكون من الكافي تشبيه المجتمع بلولب في حالته الطّبيعيّة المسترخية (أي أنّ التحكّم فيه يكون سهلاً). هذا اللولب يتقلّص بفعل الإضطرابات الإجتماعيّة والإحتجاجات الشّعبيّة (وهو ما يمثــّل تحدّيا للسّلطة الحاكمة). ولكي لا ينكسر اللولب، تنكبّ السّلطة على زيادة التوتّر بأساليبها الخاصّة والمصطنعة إلى أن تبلغ النّقطة التي تعتبرها غالبيّة المجتمع النّقطة القصوى للتوتر، والتي تخشى بعدها الكسر النهائي أو الذي لا يمكن إصلاحُه.
بعبارة أخرى، تتمثل استراتيجيّة التوتر في تحكّم السلطة السياسيّة بانفعالات مجتمع ما بُغية تنظيم مصطنع للتوترات الإجتماعيّة والشّعبيّة صُلب نفس المجتمع، وذلك حتّى لا يضيع عليها التحكّم في المجتمع ولا سلطتها السّياسيّة عليه.
تطبيق هذا المبدأ على جميع الأحداث الاجتماعية والسياسية الجّارية في تونس سيجعل أكثر وُضوحًا. فمن تكاثر الأحزاب السّياسيّة (الذي لا يمكن أن يكون مصادفة بريئة) إلى تهديدات "المتطرّفين دينيّا"، ومُرورًا بالنقاشات حول مواضيع جانبيّة لا لُزوم لها ولا تُثير سوى الجّدل (كالعلمانيّة)، كلّ هذا تمّ تقطيره بطريقة ماكرة وقريبة إلى السّحر طيلة الشّهر الماضي، وتمّ نشره في المجتمع عبر المكان الوحيد الذي تمّ الحفاظ عليه دون أيّ تغيير: الصّحافة والتلفزيون.
تكاثر الأحزاب السّياسيّة
ها نحن أمام أكثر من خمسين حزبا سياسيّا في تونس اليوم. يُذكر أنّ أحد أوّل الأحزاب التي حصلت على ترخيص جديد هو حزب النّهضة الذي سبّب ضجّة كبيرة، ثمّ سمعنا عن حزب "الوطن" لجغام وفريعة، ثمّ أخيرًا "المبادرة" لكمال مرجان.
طبعًا، هذا التكاثر الغير مقيّد ليس بسبب السّلطة نفسها، ولكنّه يساعدنا في إضافة بُعد هامّ في نظريّة "استراتيجيّة التوتـّر" وهو "الوكيل اللاإرادي" أو "الأبله النـّافع". فعندما ترغب السّلطة في نزع فتيل التوتر تلجأ عادة إلى مثل هؤلاء "الوكلاء"، وهُم الأفراد أو المجموعات التي تظنّ أنّها تتحرّك من أجل فكرتها ومصالحها الخاصّة ولكنّها في النهاية لا تفعل أكثر من تحقيق مصالح ليست لها حولها أدنى فكرة.
وبالعودة إلى مسألة الأحزاب السّياسيّة، لا شكّ أنّ العديد من الأفراد دفعتهم المثاليّة السّياسيّة أو الطّموح المُفرَط أو الرّغبة التي طالما أحبطتها سياسة الحزب الواحد إلى الشّروع في مغامرة إنشاء حزب سياسي، إلاّ أنّ دور هذه الحكومة الإنتقاليّة يكمُن في ضمان الإنتقال السّلس و إجراء الإنتخابات في أفضل الظّروف الممكنة. ولسائل أن يسأل: لماذا تتشابه أغلب الأحزاب التي سلّمتها هذه الحكومة تراخيصًا كتشابه قطرات الماء؟ لقد كان على هذه الحكومة أن تنظّم إنشاء هذه الأحزاب بطريقة فعليّة، وذلك بالرّبط بينها وبين مؤسّسي الأحزاب الصّغيرة المتشابهة.
ونجد أنفسنا اليوم أمام عدد مُضحك من الأحزاب السّياسيّة التي يخلو أغلبها من المناضلين والتي لا يعرف أحدٌ عنها شيئا. يخلق هذا العدد لدى الشّعب مناخًا من القلق والذعر، مناخٌ يعمل المعلّقون في وسائل الإعلام على تأجيجه بتكرار هذه الفكرة "هذا الثراء لن يؤدّي إلاّ إلى تشتيت الأصوات في الإنتخابات القادمة، وهذا التّشتيت سيسمح للمتطرّفين بالصّعود".
التّهديد بالمتطرّفين دينيّا
منذ عودة راشد الغنّوشي، خيّم على تونس - أو على الأقلّ جزء من تونس - طيف الإسلام السّياسي. فمِن المظاهرات أمام بيوت الدّعارة إلى صلاة الجّمعة في شارع الحبيب بورقيبة ومرورًا بالمظاهرة أمام الكنيس اليهودي و الحوارات التّلفزيّة المُكرّرة والممجوجة مع الشّيخ مورو، لا يُدَّخـَرُ شيء للإيهام بأنّ متشدّدي الإسلام السّياسي في كلّ مكان وجاهزون للإنقضاض على السّلطة.
ويمثّل كلّ هذا عنصرًا أساسيّا في أيّ استعمال لاستراتيجيّة التوتر: يتمّ تضخيم "عدوّ يتربّص بالقيم الأساسيّة للمجتمع" بطريقة تجعل هذا الأخير يشعُر بالعزلة والغرق. الميزة الأساسيّة لهذا العنصر هي أنّه يقسم الشّعب إلى قسمين ويجعل الآراء أكثر تطرّفا، ولا داعي هنا للتذكير باستعمال الرّئيس الفرنسي فرونسوا ميتران للجّبهة الوطنيّة خلال الثّمانينات حتّى يصل إلى ولايته الثّانية.
مرّة أخرى يجدُر التساؤل: لماذا؟
لماذا تستمرّ هذه الحكومة الإنتقاليّة في شيطنة وتشويه نوع معيّن من المعارضين السّياسيّين وفي نفس الوقت تترُك المجال لأولئك "المحتجّين" الذين لا يحترمون القانون؟
لماذا تتعامى الشّرطة عن المتطرّفين الذين يزرعون الفوضى ولا تعتقل إلاّ النشطاء الشبّان الذين يعبّرون عن رأيهم بطريقة سلميّة؟
مرّة أخرى، لا يعني هذا أنّ هؤلاء المتشدّدين غير موجودين فعلاً كقوّة سياسيّة، ولا أنّهم مدفوعو الأجر أو مُرسلون من طرف هذه الحكومة، كلاّ! ولكنهم أيضا جزء من "البُلهاء النّافعين" الذين تترُك لهم السّلطة الحبلَ على الغارب. وفي نفس الوقت الذي تنتشر فيه فيديوهات "إنجازاتهم"، لا تبخل عليهم وسائل الإعلام بمزيد نشرها.. وها نحن في درجة إضافيّة من الذعر الذي أصاب المجتمع المُرتعب أصلاً.
لجنة الفراغ
الحديث هنا حول اللجنة ذات الأسماء المتنوّعة والمتغيّرة والتي يرأسها بن عاشور. لو كانت لدينا حقا ثورة مكتملة لكانت هذه اللجنة هي المجلس التّأسيسي. لكن بدلا عن ذلك، لدينا الآن ما يُشبه وحشا برأسين.. عاجزٌ ولا يشبه شيئا.. وخاضع تمامًا لإرادة إثنين من الطّاعنين في السنّ وجدا نفسيهما على رأس دولة تحاول النّجاة من العاصفة الثوريّة التي هبّت عليها.
ها نحنُ إذن مع لجنة يُنتظر من أحد رأسَيْها أن يُقدّم إقتراح قانون انتخابي للرّأس الثاني (الذي لا يعرف شيئا أكثر من ذلك)، ثمّ في نهاية المطاف، ستخضع مماطلات هذين الرّأسين معًا لقرار العجوزَيْن الذيْن يرأسان الحكومة.
كنّا نودّ أن يتمّ كلّ هذا بشكل جيّد ودون مخاوف، إلاّ أنّ هذه اللجنة ذاتها مصدرٌ للقلق والتوتّر لدى جزء من التونسيّين الذين لم تتمّ توعيتهم سابقا بالمسائل القانونيّة المتعلّقة بسير الإنتخابات، والذين يبقى تمثيلهم داخل هذه اللجنة محلّ تساؤل إلى اليوم.
أغلب المعلومات المتعلّقة بهذه اللجنة تتحدّث عن توترات داخلها وخلافات بين أعضائها و نصوص قانونيّة لا نعرفُ مَن اقترحها ولا مَن كتبها ولا مَن سيصوّت عليها. هذا الغموض حول آليّات عمل هذه اللجنة، مضافًا إلى صعوبة الموضوع نفسه لدى المبتدئين، يقودان الشّعب إلى خشية حدوث الأسوأ في الإنتخابات القادمة. ورغم أنّه من المفروض أن تكون هذه الإنتخابات خطوة تثير التفاؤل، يُنظر إليها الآن كمصدر للقلق والرّيبة.
المواضيع المُصطنعة المثيرة للشّقاق
يتمّ إقحامنا كلّ يوم في مناقشة عامّة لمواضيع مُستوردة و مُصطنعة تمامًا ولا علاقة لها بخطورة واقعنا السّياسي، ويبدو الأمر وكأنّ مناقشي هذه المواضيع من سياسيّين يُريدون إبعاد الرّأي العامّ عن القضايا الحرجة فعلاً في تونس.
ها نحن إذن عالقون في مسائل سخيفة تُخلّف في أفضل الأحوال إحساسًا بالغُربة عن المشهد السّياسي في البلاد، وفي أسوئها شعورًا بأنّ السّياسة مثل كرة القدم؛ أي
أرضيّة يُمكننا إختيار أحد جانـِبَيْها والتنازع بطريقة عبثيّة للوصول إلى هدف يشفي الغليل. وهذا ما تتـّسم به تلك النقاشات ذات العُقم الفادح والتي تبقى غير مثيرة للإهتمام رغم الحاجة إليها.
إنّ التهديد بضرب القيم الأساسيّة للمجتمع التونسي (أو ما يُروّج لها على أنّها كذلك) لا يُضيف سوى المزيد من الإحتقان وكراهية الآخر.
وسائل الإعلام
تُساهم هذه الوسائل (التي لم يتغيّر مالكوها ولا مسيّروها ولا مديرو برامجها) بصفة محوريّة في استراتيجيّة التوتر، فهي النقطة المركزيّة التي تنطلق منها بقيّة النقاط المذكورة في هذا المقال.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التواطؤ بين السّلطة ووسائل الإعلام لا يزال على حاله، كما كان قبل 14 جانفي 2011. فبالنّسبة للقناة "الوطنيّة"، لا داعي لمزيد شرح كيفيّة التواطؤ ولا الغاية منه. أمّا بخصوص قناة "حنّبعل"، فقد كانت الضّربة التي وُجّهت للعربي نصرة في أيّام الثورة الأولى كافية لضمان ولاء قناته للنظام الجّديد. ويبدو أنّ طارق بن عمّار (أحد مالكي قناة نسمة) يستثمر الثّورة بطريقة تجعله غير مطالب بتقديم براهين على تواطئه وقناته مع الحكومة الإنتقاليّة.
ومن الواضح على أيّ حال أنّ على استراتيجيّة التوتر أن تتمكّن من السّيطرة على وسائل نشر المعلومات حتّى تكون فعّالة. إذ بغياب هذه السّيطرة لن تكون المعلومات نفسها وقد يتمكّن التونسيّون من إكتشاف الخداع والتلاعب.
وَجب إذن على الثوريّين أن يفهموا أنّ الثورة من الآن فصاعدًا ستتمثّل في تحرير وسائل الإعلام ونشر المعلومة الصّحيحة. ولهذا السّبب لم تتمكّن سهام بن سدرين بعدُ من الحصول على رخصة بثّ إذاعة "كلمة" على موجة الآف آم.. و لنفس السّبب لا تزال سمعتها تتعرّض للتشويه كما كان الأمر في عهد بن علي. ولنفس السبب أيضًا تعرّضت مذيعة واحدة - ثوريّة فعلا - في الإذاعة الوطنيّة للإزعاج من طرف إدارتها.
الهدف من استراتيجيّة التوتر
من الواضح أنّ الهدف من استراتيجية التوتر التي يجري تطبيقها في تونس هو الحفاظ على خوف عميق داخل المجتمع لإبقائه مُقسّمًا ومجزّءًا. لكن هل تستهدف هذه الاستراتيجيّة الشّعب التونسي كاملاً؟ كلاّ!
الهدف المباشر لهذه الاستراتيجيّة ليس سوى جزء صغير من الشّعب، وهو تلك الطّبقة التي تمّ اختراعها بغرض خدمة السّلطة والتي نسمّيها مخطئين "الطّبقة الوسطى"، أي تلك الفئة التي يُقيم أغلب المنتمين إليها في المدن الكبرى والتي تتمكّن بعملها الشاقّ من البقاء داخل معايير الحياة الغربيّة، والتي منحها الطّاغيتان التونسيّان الحقّ في الحصول على عدد من المُتع الفاخرة الصّغيرة. قد يُثير هذا التّقسيم الإجتماعي غضب الكثير من القرّاء، ولكن ليكونوا متساهلين وليعترفوا بأنّه ليس من المُجدي أن نلوم المرآة عندما نرى فيها صورةً لا تعجبنا.
وأخيرًا، أدعو مرّة أخرى إلى اجتماع كلّ القوى الثوريّة. توقّفوا عن التفكير في ما يفرّقكم! كفاكم وقوعًا في شراك السّلطة! ينبغي أن نطعن في الحجج الكاذبة التي يستعملونها لدعوتنا إلى "الهدوء". لقد قطعنا شوطًا كبيرًا تصعب معه العودة إلى الوراء.. ويجب علينا أن نتحلّى بالجّرأة والإرادة للوصول إلى حرّيتنا.
باريس في 7 أفريل 2011
شيران عبد الرّزاق
ترجمة: رمزي / مدوّنة المتنوشة
http://www.mtanwcha.com/2011/04/blog-post_10.html
رابط المقال الأصلي بالفرنسيّة
http://www.the-invisible-war.com/article-la-strategie-de-la-tension-71176845.html
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.