mercredi 9 février 2011

فقهاء الخنوع يسارعون إلى نصرة الاستبداد وكبت الأنفاس


في الوقت الذي كانت مصر تنتفض عن بكرة أبيها لتغسل عنها ركام الذل والفساد، وتصنع لها ولأمتها صبحاً آخر ترفرف فيه بيارق النصر بعد عقود من الذل والانسحاق، ظهر بعض "الفقهاء" ليشجبوا ما أسموه "الخروج على ولي الأمر"، زاعمين أن "خلع" الحاكم لا يكون بهذه الطريقة.
الأمر، كما يرى هؤلاء الفقهاء، منوط بـ"أهل الحل والعقد" الذين ينبغي أن يتنادوا إلى اجتماع لمناقشة الوضع واتخاذ القرار المناسب. ويذهب أحد هؤلاء (وهو فقيه ومثقف سعودي كبير ويحظى بالاحترام) إلى انتقاد الشيخ يوسف القرضاوي على تأييده الثورة المصرية ضد الاستبداد، بحجة أن الشيخ يحمل الجنسية القطرية، وليس من شأنه التعليق على أحداث "بلد غير بلده؟". ولم يسأل هذا الفقيه نفسه لمَ يسمح لنفسه (وهو السعودي) بالتدخل في الشأن المصري، بينما القرضاوي أقرب أرومة ونسباً وصهراً إلى أرض الكنانة منه؟
لكن المسألة ليست أصلاً في الجغرافيا، فالمسلم يعرف من ضرورات دينه أن الفواصل الحدودية بين البلدان الإسلامية لا تلغي حق المسلم على المسلم، ولا يمكن للقُطرية والجنسية أن تمنع أي مواطن عربي من الإدلاء برأيه، أو التعبير عن موقفه حيال الأحداث في مصر.
الخلل بين الفتوى وفقه واقعها
ما علاقة هذا الكلام بالرأي الفقهي الذي يقول بتجريم الاحتجاجات الشعبية، و"يحرم" أن يقوم الناس الذين أنهكهم عنف وفساد الحاكم بمقاومته من خلال الرفض العلني لسلوكه؛ أو حتى المطالبة بتنحيته؟
يستند هذا الرأي إلى حيثيات عدة، أبرزها أن إزاحة "الولاة" بالقوة تهينهم وتستفزهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى سفك الدماء و"الفوضى"..
لست هنا بصدد الانخراط في جدل فقهي، ولكني أتساءل بصفتي مواطناً عربياً ومسلماً حراً: كيف لأمة تريد الانعتاق من أسرها، والحفاظ على دينها ودنياها، أن تتعامل مع حاكم مستبد نشر الفساد، وأذل العباد، وسلم الأرض، ووَالى المحتلين والمغتصبين؟
لا تجيبنا هذه المدرسة الفقهية الخانعة بغير وعظنا بـ"فضيلة الصبر، والسمع والطاعة في المنشط والمكره"، متجاهلة الحديث عن مسؤوليات الحاكم وحقوق الرعية عليه، وما يقابل هذه "الطاعة" من معروف في أداء الحاكم وسلوكه.
توحي هذه المدرسة الفقهية بأن الحاكم رمز البلاد، وكهف العباد، وبلاغ الحاضر والباد، رافضة حتى مناصحته في الهواء الطلق، ومصرة أن البديل عن قواعدها هذه التي تصفها بـ"الشرعية" هو الفوضى أو "الفتنة".
من هذا المنظور الغريب واستناداً إلى هذه الثقافة البائسة يخرج بعض "الفقهاء" اليوم ليخذلوا الأمة كلها عن مقاومة مبارك، والاحتجاج على حكمه الفاسد، وإرثه الحافل بالتواطؤ مع أعداء مصر والأمة العربية. بعد أن زحف "بلطجية" نظامه إلى ميدان التحرير لخنق روح الانتفاضة الباسلة هناك.
وصلتني رسالة محمول من أحد الأصدقاء تقول: "أرأيت ما يجري؟ إنها الحرب الأهلية.. الفتنة.. اقتتل المصريون.. أي ثمرة ستجنيها مصر من هذه الفوضى وهذا الاحتراب؟". لم تكن الرسالة إلا إفرازاً طبيعياً للثقافة الفقهية الخانعة ذاتها؛ الثقافة التي ترفع الحاكم عملياً إلى منزلة "الذي لا يُسأل عما يفعل"، وترى في أية معارضة له "خروجاً" و"فتنة" و"مروقاً من الجماعة".
مبارك ورفاقه من "ولاة الأمر" يدركون هذه النظرية الخانعة، فيركبون رؤوسهم ويصمون آذانهم ويرددون مقولة فرعون: "لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، ثم ينفذون سيناريو الفوضى أو "الفتنة" كما فعل بن علي في تونس على نطاق ضيق، ويفعل الآن مبارك على نطاق واسع.
ما الهدف من إقدام الرئيس المصري على تلك الخطوة الدامية؟ الهدف هو إجهاض روح التمرد على الفساد، ووأد آمال الأمة.
يقول أصحاب المدرسة الفقهية إياها: هاقد سالت دماء المصريين وأصابهم القرح؟ حسناً، ومن قال إن الحرية تأتي من غير ثمن؟ ومن قال إن الشهداء لا يسقطون إلا في ساحات المعارك مع العدو الواقف على الأبواب؟ وكيف يمكن الحديث عن وجوب مقاومة العدو الخارجي الغاصب، والتغاضي تماماً عن ممارسات العدو الداخلي الناهب والكاذب والمحارب؟
يقول كبيرهم مفتي السعودية آل الشيخ: الاحتجاجات الشعبية "مخططات إجرامية للقضاء على دين الأمة وأخلاقها وقيمها؟". اللافت والمرعب في آن أننا لم نسمع لهذا الفقيه أو ذاك الشيخ أي فتوى عندما تواطأ مبارك مع العدوان على غزة، وعندما بنى جداراً فولاذياً يمنع الهواء والغذاء والدواء عن إخوة لنا مظلومين محاصرين منهكين من المرض والجوع. وعندما وقعت حكومته اتفاقية مع إسرائيل تنص على بيع الغاز المصري لها بدولار وربع دولار لكل وحدة حرارية، وهي تقوم باستيراده بثلاثة دولارات وربع، وهي الاتفاقية التي تكبد مصر خسائر تصل إلى خمسين مليون جنيه يومياً، وعندما نهب البلاد والعباد فبلغت ثروته وثروة أسرته 70 مليار دولار (بحسب شبكة أي بي سي الأميركية، وبالمقارنة، فقد بلغت ثروة بل جيتس، زعيم إمبراطورية مايكروسوفت، 54 مليار دولار في عام 2010، وهو الذي كان يصنف بوصفه أغنى رجل في العالم).
لم نسمع من هؤلاء الفقهاء هذه الفتوى أو تلك إلا عندما انتفض المقهورون لإعادة الحق إلى نصابه، والأخذ على يد الظالم. أي فقه هذا الذي يزعمون؟ وأي منطق إليه يستندون؟ يستشهد بعضهم في سياق الثورة المصرية تحديداً بالحديث الشريف: "من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني"، بينما يفتي آخرون أن "الصبر على دموية مبارك وخيانته أفضل من الفتنة". ألا في الفتنة سقطوا.
ليس الجهل بالواقع هو مشكلة هؤلاء الفقهاء أو الدعاة، بل ربما كانوا سذجاً أيضاً، يقدمون أنفسهم مطية للسياسيين، لاسيما حين يكون السياسيون في حاجة شديدة إلى "غطاء ديني". وهذا بالضبط ما جعل وزير الإعلام المصري أنس الفقي يستخدم داعية معروفاً بابتسامته العريضة ولحيته الكثة ليخرج على التلفزيون المصري مطالباً ملايين المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم، والانشغال بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من المطالبة بحرياتهم وحقوقهم. ليت هذا الشيخ سكت عن تلميع مبارك، واستمع إلى ابن المبارك حينما حذر الفضيل بن عياض من عبادة ليست إلا ضرباً من اللعب.
لا.. الدين ليس جسراً تعبر عليه البلطجية.. الإسلام لا يُعبِّد الخلق للمخلوق. التوحيد ليس شركاً. والظلام لا يمكن أن يكون نوراً. إن المدرسة الفقهية التي تشدد على حرمة التبرك بالقبور، أو زيارتها بغرض الدعاء أو التوسل (وهو تشديد محمود، ولا مراء في صحته) ترتكب خطيئة كبيرة إذا هي بررت الإذعان للمفسدين والمجرمين من الذين لم يُقبروا بعد. تُرى هل نحتاج إلى حركة إحياء ديني جديدة تحذر الناس من تأليه الحكام، وتذكي في قلوبهم روح المقاومة والاستبسال في مواجهة الظلم؟

بقلم:  د. أحمد بن راشد بن سعيد: أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود بالرياض.
نقلا عن صحيفة "المصريون" الإليكترونية

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.