lundi 7 février 2011

ثورة في القرن الواحد والعشرين؟

 ثورة في القرن الواحد والعشرين؟ ذلك كان من سابع المستحيلات قبل أن تصفع تلك الشرطية وجه البوعزيزي وتسب له أمه وتصادر خضرواته هي وزملاؤها بالزي الأمني الرسمي في سيدي بوزيد.
وفي موازاة اشتعال الشارع التونسي ومن بعده المصري مبشرا بثورات أخرى في الجزائر والسودان واليمن والأردن وربما دول عربية أخرى. ثورات أقلق شبحُها المتنامي بسرعة قياسية يوما بعد يوم، حكاما باتوا جزءا من نشرات الأخبار المسائية لعقود، حتى ظننا في وقت من الاوقات بأننا سنشيخ سويا، نحن وهم، ونهرم من الملل، بل وممكن أن نتوفى وهم لا يزالون على كراسيهم، ولن يشعروا بالطبع بنقص المجتمع فردا أو عدة أفراد. قد تحتاج الثورات إلى مسافة زمنية كي نقرأها بصورة علمية دقيقة، وعلى مهل، غير أنها في الوقت عينه، لا تمنع الشباب بطبيعة الحال من استشراف نتاجاتها، والتغيرات التي من الممكن أن تأتي بها إلى خريطة العالم العربي على المستوى السياسي والإنساني والحقوقي. ما حدث في تونس ومصر، أسس لبعد جديد، جدي، لا يستهان به على الإطلاق، للتكنولوجيا وقدرة الشباب على تطويع المواقع الاجتماعية من أجل تحقيق مطلب سياسي كان أشبه بمعجزة، كالـ 'فيس بوك' الذي أضحى بديلا فعليا عن الشارع أو رديفا له، او متفرعا منه، او مؤسسا لحركة احتجاجية مدنية، أو شارعا وهميا، وليس متوهَّما، يحتشد فيه ملايين الشبان والمتابعين لحيثيات الثورة وتطوراتها. وهي المواقع التي ظلت إلى حد ما، بمنأى عن، وربما في مأمن من، أصابع بعض المثقفين ممن لا يولون اهتماما بعالم الانترنت ولا يفقهون كيفية ولوجه، لذلك وجد هؤلاء البعض أنفسهم معزولين تماما عن تفاعل الشباب مع الثورة لحظة بلحظة. بيروت، كغيرها من العواصم العربية والاوروبية، شهدت حراكا 'فيس بوكيا' نشطا، لم يستثن المثقفون الشباب ولا الشعراء أنفسهم من عالمه. وكان لا بد من التعرف على قراءاتهم للمشهد العربي المستجد والمبشر بإيجابية. شعراء ومثقفون، وفنانون التقيناهم في بيروت، للوقوف على رؤاهم الشخصية وتوقعاتهم إزاء ما يحدث.

تشويه إعلامي

الممثلة المسرحية والكاتبة يارا بو حيدر قالت أن كل ما يهمها في هذه الأيام، هو 'أن نقيم جسر تواصل مع أصدقائنا في ميدان التحرير في مصر لكي نوصل أصواتهم إلى العالم أجمع، نظرا للتضييق الإعلامي الذي يمرون به. معركتهم الأشرس هي مع الإعلام المصري، الذي يعرض ما هو متناقض تماما مع الأمر الواقع على الأرض، وهذا محبط بالفعل، لكن أصدقائي يتصلون بي من وقت إلى آخر، من وسط ميدان التحرير فقط ليقولوا لي إن الصورة مغايرة تماما لما تعرضه القنوات الرسمية المصرية، وأنهم عازمون على المضي قدما من أجل تحقيق المبتغى من هذه الثورة. أخطر شيء هو التشويه الإعلامي الذي تنتهجه الدولة المصرية وقنواتها، وتلفزيون العربية أيضا'. وتضيف بو حيدر 'هذه كارثة بالفعل، لكن الشباب فرحون بإنجازهم وثورتهم، ومثابرون عليها كذلك. كما أن أهدافهم واضحة ومحددة. بعض الإعلام يريد أن يذبح المتظاهرين بالتشويه الذي يمارسه. السلطات تحاول إرعاب الناس بوسائل بدائية. كأننا في الغابة تماما. يا ليتني في مصر الآن. والذي حدث أيضا في تونس كان شيئا رائعا بالفعل، الدرب أمام التونسيين ما يزال طويلا لكنهم شعب مناضل. إنها النار التي تستعر. حان الوقت لكي يتحرك العالم العربي بوعي مختلف. لن يكون الوضع أسوأ من النوم السريري الذي عشناه طوال عقود، منذ اتفاق كامب دايفد. هناك تغيير جذري سيفرض شروطه أمام الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن ما ينبغي قوله هو أن أمريكا والدولة العبرية انتهجتا مبدأ أن تخدرانا لكي تنعما في المنطقة. إسرائيل هي البادئة، زرعت نفسها في منطقتنا، وهي تعرف أنها لا تستطيع أن تسيطر على الوضع في كل الاوقات.
أما الوضع في لبنان فمختلف. نحن نحتاج إلى اكثر من ثورة هنا. نحتاج إلى ثورات على عدد طوائفنا. الشعب اللبناني لا يتحرك إلا كرمى لعيون زعمائه وطوائفه لا أكثر. الناس هنا لا يعانون الجوع أو الفقر المدقع. الوضع في لبنان شديد الإختلاف والتعقيد'.
الشاعر السوري الشاب محمد دياب، يقيم في بيروت منذ أكثر من عشر سنوات، ويقرأ الثورة بنبرة احتفائية مبشرة لتغيير أنظمة عربية يراها قمعية قائلا: 'كانت الثورة حتى الأيام القليلة الماضية مجرد لفظ، كلمة نشأنا ونحن نرددها، حيث يكاد لا يخلو قطر عربي إلا وفيه احتفال بيوم ثورة ما. واليوم وأنا أتجاوز عتبة الثلاثين من العمر، تحولت هذه الكلمة إلى كليشيه، ننسج النكات حوله في بعض الأحيان. لا أعتقد أن هناك أحداً من أبناء جيلي كان يصدق بأنه من الممكن حدوث الثورات في العالم العربي، ونحن الذين كبرنا وصور الزعماء السياسيين الحاليين بقيت كما هي دون أن تكبر، على الجدران وفي الساحات وفي المدارس. في بعض الأحيان كانت تتغير هذه الصور نتيجة ظروف خارجة عن إرادتنا نحن الشعوب العربية، كأن يموت أحدهم، أو أن يتدخل الأمريكي ليقتله كما حدث في العراق. لكن تونس كان لها رأي آخر. كنت أتابع ما يحدث في تونس، ومشاعري متضاربة، بين سخط وغضب على النظام، وبين تعاطف مع المتظاهرين، ولكن احتمالية التغيير أو حتى الإصلاح لم تكن واردة في تحليلي، بل كنت واثقاً من أن النظام سيقمع المتظاهرين بوحشية كما هي العادة في بلادنا، ليعود الخوف هو المسيطر على كل حياتنا التي نقضيها ونحن نطارد مصادر رزقنا. ولكن سقوط زين العابدين بن علي، وانتقال شرارة حرق الأجساد إلى بقية الدول العربية، جعلاني ألمس حقيقة ما فعلته تونس بنا، ألا وهو الاقتراب من أحلامنا من جهة، ومواجهة خوفنا من جهة أخرى، خوفنا من الاعتقال والتعذيب، خوفنا من أن نفكر في ما هو أبعد من المحافظة على حياتنا. في سورية خلال بداية مراهقتي كنت أسأل والدي عن الثورات، كنت أسأله، هل ستشارك في ثورة جديدة وإجابته كانت دائماً 'في إنت وأختك، بدنا نعيش يا أبي'. 'بدنا نعيش' هي أكثر كلمة سمعتها في سورية، حتى بت أظن أنها شعار موحد لدى الفقراء، والحقيقة هي أن أنظمتنا جعلتنا كالدواجن، نعيش لنتكاثر ونأكل في كنفها. لكن بضعة شبان في تونس، غيّروا ما تآلفنا معه على مدى عقود ثلاثة، شباب لم يخافوا الاحتجاج في ظل نظام أمني قمعي بامتياز، وما قاموا به انتشر كالعدوى ليصيب تونس كلها ويطيح بالنظام، وينتقل إلى بقية الدول العربية بداية من مصر، التي قام شبابها بما لم تجرؤ ولم تقو الأحزاب المعارضة اليسارية والإسلامية على القيام به. حسني مبارك لا يمكن له أن يستمر بعد الآن. الحقيقة الثابتة التي أكدتها تونس هي أن شعوبنا تواقة إلى الحرية، وأنه ما بين حريتنا وخوفنا من النظام خيط رفيع بل ووهمي، لكننا لم نجرؤ على قطعه يوما. اليوم تعد العدة في سورية من أجل يوم غضب، هناك. واليوم أشعر بالتفاؤل، قد لا تكون ثورة ستطيح بالنظام، ولكنها بالتأكيد ستكون البداية لطريق ثورة لن تنتهي إلا بالتغيير. تونس ومصر، كسرتا حاجز الخوف لدينا وأعادتانا إلى أحلامنا. وسيكون من المعيب بحقنا أن نخذل هؤلاء الشباب الأبطال، الذين عاش معظمهم سنوات عمره بعيداً عن أي نشاط سياسي. حين طلبتَ مني يا مازن رأيي عما يحدث في المنطقة، لم أكن أعرف أني سأعجز عن إعطاء رأي قائم على التحليل. فانفعالاتنا أقوى من تحليلنا الأحداث في مثل هذه اللحظات. لن يطول صمت هذه الشعوب بعد الآن في وجه الفقر والظلم والخوف، و العمالة مع الإسرائيلي والأمريكي (كما هي الحال في بعض الأنظمة العربية). ولا يسعني سوى أن أفرح لأفراح المصريين الآن، شاكراً تونس على ما قدمته لنا'.

هل يرحل الطغاة؟

أما الفنان التشكيلي الأردني والكاتب إياد كنعان فيشدد على حقيقة ما نراه على شاشات التلفزة، موجها دفة السؤال إلى نفسه، لاستنباط إجابات حوله، فيقول 'هل يرحل الطغاة؟ نعم يرحلون. ليس وهماً ما نراه ونسمعه على شاشات التلفزة، أو نقرأه في الصحف. نعم يرحلون تاركين وراءهم إرثاً كبيراً من الاستبداد، ولعنات ستطاردهم حتى قبورهم في منافيهم، التي ستعلوها الأشواك بدل الورود، ولن يجدوا من يترحم على زمانهم، إلا الفاسدين أمثالهم، ممن انتفعوا من انحرافاتهم. كيف لا يرحلون مع كل هذه التعاسة التي جلبوها لشعوبهم، مع كل هذا القهر والحرمان؟ ليس وهما ما نراه. إنهم يتساقطون مثل عمالقة من غبار، صنعها التخويف والترهيب، لكنها سرعان ما تبددت في مشهد مخزٍ أمام قرع نعال المحتجين وهتافاتهم التي باتت لا تطالب إلا برحيلهم ومحاكمتهم. نعم فليرحل الطغاة.... لكن ماذا بعد ذلك؟ هل يجب أن نغتر ببهجة (الثورة) دون أن ندرك أن كثيراً من الثورات ولدت معها عوامل فشلها؟ أليس (القوادون) و(التجار) و(رجال الأعمال) العرب دائما جاهزين للاتجار بثورات شعوبهم؟ أليسوا هم المفضلين لدى مؤسسات الحكم الغربية لدعمهم ومنحهم ثقتها؟ إذا كنا كشعوب قد فشلنا من قبل في صناعة (ثورتنا) الديمقراطية الحديثة، وكذلك فشلنا في صناعة استقلالنا، وفشلنا في صناعة حداثتنا، وفشلنا في محاربة الفساد الذي هو أولى آفات الأنظمة المستبدة، بل أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من تلك المنظومة، فهل نبتهج بما قد تفرزه هذه الثورات من نتائج؟ نعم علينا الابتهاح على كل الأحوال، لكن من يحمي ثورة التونسيين ومن بعدها ثورة المصريين المكللتين بالدم والغار، ومن يحمي الثورات القادمة، فالحبل لم يزل على الجرار، وما زالت السماء ملبدةً بثورات قادمة تنبىء بتغير وجه المنطقة والعالم العربي، من (سماسرة الدم العربي) الذين بدأوا يسنـّون أسنانهم، ويتلمظون في انتظار ما قد تجلبه ثورات الفقراء المتضورين جوعاً لهم من أرباح'. ويضيف كنعان 'ربما أكون ممن فقدوا مع الوقت بهجة التفاؤل بالمستقبل، وربما من الخطأ أن نحمل ثوراتنا تلك كثيراً من أحلامنا، ونحن لم ننجز بعد كثيرا من استحقاقاتها، لكن ما أنا على يقين منه هو أن علينا المضي قدماً كشعوب وأفراد، فيما بدأناه من تغيير، عل النفق المظلم الذي طالما سارت فيه الشعوب العربية دون أن تدرك كنه مصائرها، أن يفضي إلى نور. آمل ذلك'. ويبعث بتحيته إلى اولئك الشبان الثوار قائلا 'أحيي الصامدين تحت حوافر جنود الجلاد، أحييكم وكم أتمنى أن أنال بعضاً من مجدكم، لكم المجد وليس للجبناء إلا العار وبعض من متاع هذه الدنيا'.

الثورات تنمو من التواضع وليس من العجرفة

ويلاحظ أصدقاء الشاعر يحيى جابر على الـ 'فيس بوك'، أن الموقع اتخذ مساحة تعبيرية جريئة له، متضامنا بكل صراحة مع شباب ثورة مصر. يقول لـ 'القدس العربي': 'لأول مرة أنا لا اكتب بل اقرأ. اتعلم الآن من الناس فكرة أن الثورات تنمو من التواضع وليس من العجرفة. شباب وصبايا تونس اعطوني دورسا لن انساها ما حييت. كذلك في مصر. لقد فُتِح أمامي قاموس جديد لأقرأ فيه. وأبرز هذه القراءات: فكرة الفرق بين انتحاري يفجرنفسه بالناس وبين من ينتحر لأجل الناس ويحرق نفسه. ينتزع هذا الأخير سلاح الانتحاريين العدميين والاصوليين الذين يسيئون إلى فكرة الموت بقتل الآخر. انتصرت فكرة التضحية المجانية التي لا تعوض والمتمثلة بالبوعزيزي في تونس. كذلك في مصر. الذي سقط تحت التعذيب وهو مظلوم ويدعى خالد سعيد علمني أيضا أن الثورات والانتفاضات يقودها فرد مجهول وليست الكتب والمنظِّرون ودور النشر والأحزاب والأمانة العامة والمكتب السياسي واحتلال المنبر والمشهد وفن التكتيك والانتهازية. هذا درس من الدروس الكبرى التي تعلمتها. لأول مرة لا نرفع شعارات قومية كبيرة ووحدوية عروبية وننتصر. هي العودة إلى الجذور الاولى: الحرية، الفردية، لقمة العيش وكرامة الإنسان. هذه الثورات ليست فقط لأجل الخبز. إنها لأجل كرامة الفرد. صفعة واحدة جرحت روح البوعزيزي في تونس تحولت إلى حريق هائل لأجل الكرامة. كرمة إنسان مسحوق. وكذلك الامر بالنسبة إلى خالد سعيد في مصر. هي ثورات شبابية بامتياز. مدنية بكل ما للكلمة من معنى. حريصة على إنجازات الشؤون العامة للناس. لا تكسير ولا غوغائية. هنا، ينتصر المدني على الامني وينتصر الفردي على الإيديولوجي'. وجابر الذي ابدى استنكاره لموجة البيانات التي صدرت عن مثقفين لبنانيين، يضيف 'من جهتي، فقد قلت على الـ (فيس بوك) انني لست مثقفا ولست لبنانيا لخجلي من عناوين لبنانية مصابة بالبارانويا من جنون عظمة المثقف اللبناني وادعاءاته بأنه مهد الحرية وصانع الحرية، فيما يتبين كم أنه قزم وأعني هنا نموذج كلا المثقفَين، حيث كل فريق بات ينظر إلى ما يناسبه من عناوين في انتفاضة الياسمين (تونس) أو انتفاضة عصافير النيل في مصر. فبرز في لبنان بيانان مختلفان بشكل مضحك. القاسم المشترك بينهما هو (أل) التعريف. واحد منهما نخبوي، وآخر قومي عروبي. أحدهم طالب بأن نناصر الثورة الخضراء في إيران، ناسيا ربما ان هناك ثورة قد تقوم في البحرين مثلا. وآخر اعتقد او توهَّم بان كل ما يجري هو من أجل تحرير فلسطين. هذا اللبناني الترانزيتي عاد يتشاطر على الآخرين، وهو مريض تماما ولا يستطيع أن يكتب بيانا واحدا عن بلده الطائفي المذهبي والمرتهن للخارج. العودة إلى فكرة البيانات والتواقيع مضحكة بالفعل. يريد هؤلاء أن يوحوا للعالم بانهم قاموا بواجبهم هنا في لبنان'. وهو يولي موقع (فيس بوك) التواصلي اهتماما كبيرا: 'لقد أصبحت واحدا من مدمني الـ (فيس بوك) وذلك لكي أتعلم من الشباب كيف يتواصلون عبر هذه الروابط وكيف يكتبون، ويمارسون فن الكولاج والغرافيتي. أُثبِتَ أن هؤلاء الشباب مواكبون للعصر تماما حيث انهم طوعوا ما أنجزه العالم لخدمة قضاياهم كالثورة مثلا من دون أي شعور بالدونية ومن دون امتداح وزير إعلام، أو مسؤول التعبئة الفلانية في الحزب الفلاني. إنها ديمقراطية خلف شاشة الكومبيوتر. مساحة مفتوحة للتعبير عما يدور في رأسك بصراحة. وما يقال عن أن الـ (فيس بوك) من ابتكار اجهزة استخبارات امريكية او غربية يصب تماما في نظرية المؤامرة، وكأننا نحن الاخيار دوما والآخرين أشرار. هي المرة الأولى في تاريخنا العربي التي نُصدِّر فيها للغرب فكرة أو اقتراحاً عن الحرية وعن تحقيق هذه الحرية. لم تكلف ثورة تونس اكثر من مئة قتيل ما يوازي عدد قتلى سيارة مفخخة في العراق. الحرية يصنعها أبناؤها من الداخل ولا تحتاج لأي بوش في العالم ليعمم هذه الديمقراطية. هذا درس حقيقي. أنجزت هذه الثورات بسرعة قياسية مكانا يعجز الآخرون عن تحقيقه. أن تُسقِطَ طاغية خلال 24 ساعة. أن تسقط مبدأ التوريث. أن تعلن أن تداول السلطة صار موضوعا للنقاش. أن يبدأ الحكام العرب بفتح خزائنهم من أجل شعبهم لتحسين مستوى العيش. لا أعتقد أن حاكما عربيا ينام هانئا هذه الأيام. ولم تعد الأنظمة بشقيها الممانع والمعتدل قادرة على أن تنام على حرير. قضية أن لا صوت يعلو على صوت المعركة قد انتهت. أما الآخر الذي يراهن على أن امريكا تستطيع أن تحمي فقد خسر الرهان. إنهما درسان لنموذجين مختلفين تماما'.

مرض عضال

لوركا سبيتي تحاول أن تبسط المشهد الحالي، فتشبهه بـ 'شخص يقوم بإجراء فحوصات طبية، فيكتشف انه مصاب بمرض عضال، لكن هل هذا يعني انه اصيب الآن بالمرض، ام هو فقط أدرك وجود المرض في داخله؟ وهل العوارض التي احس بها والتي دفعته إلى إجراء الفحوصات هي بداية المرض، ام تجلياتها النهائية؟ وان كانت مجتمعاتنا هي المريض، فمن هو الطبيب؟ الوضع السياسي هو مرآة الوضع الاجتماعي، وان اردنا فهم الاحداث السياسية علينا التعمق في التركيبة الاجتماعية'.
الشاعرة الشابة تعتبر أن وحدة القياس الاساسية للمجتمعات هي الاجيال، 'على اساسها تقوم الاجهزة بالتخطيط لاستمراريتها، فتوارث الاجيال يفرض توارثا للسلطة السياسية مما يشكل تهديدا لأي جهاز حاكم. والدول العربية تمر في مرحلة انتقالية، مرحلة الانتقال من جيل قديم اهترأت اساليبه وقضاياه وهزائمه وانتصاراته، الى جيل جديد هو ابن الثورة التكنولوجية، وحضارة القطب الواحد الرأسمالية المؤلهة للاستهلاك والنازعة اي معنى وجودي على الحياة، هذا الجيل وجد نفسه موحدا عبر الهم المشترك (الهموم الفردية الحياتية) وعبر الثورة التكنولوجية (الانترنت) التي صنعت له مجتمعا بديلا ساعده على الانسلاخ التام عن الجيل السابق كون هذا الجيل مستثنى من هذا المجتمع ولا يشارك في صنعه او على الاقل التواصل عبره، فالشباب يخلقون افكارهم وتواصلهم عبر الانترنت دون اي تواصل حقيقي مع اهلهم في هذه الساحة. إذاً، السلطة السياسية الموجودة والتي تمثل الجيل السابق اصبحت منسلخة عن الجيل القادم والذي من المفترض ان يؤمن لها ديمومتها، فهذه السلطة قد شاخت بالعمر (فالرئيس بن علي مثلا يبلغ من العمر 74 سنة، ومبارك في ثمانيناته) وهي نكلت بالمجتمع وعاثت به فسادا وزادته تشرذما وتفسخا ما وسّع الهوة مع الجيل الجديد بحيث لم يبق في ذاكرته اي صورة تدفعه إلى احترام هذه السلطة والسعي إلى الحفاظ عليها. كان التغيير قادما لا محالة كنتيجة طبيعية للحالة الاجتماعية والسياسية التي وصلت اليها المجتمعات العربية، وكانت الانظمة تصارع لإطالة عمرها كمريض يستعين بالاجهزة الطبية (اي اجهزة المخابرات المحلية والخارجية) لإطالة حياته.
ولا تخفي خيبتها من بعض المثقفين فتضيف: 'أما بالنسبة إلى المثقفين، فأغلبهم قد اضاع الفرصة التاريخية واكتفى بدور المراقب او على الاقل المنظِّر للثورة وهم لم يشاركوا بصنعها على مستوى انتاج الافكار المرافقة لهذه الثورة، فبعدما كانت الافكار تسبق الثورات وتحضر لها، نجد الآن، وكنتيجة لانغماس المثقفين الشباب في أنانيتهم والسعي للمكاسب الفردية المتأتية من ثقافتهم، وكنتيجة لابتعاد مثقفي الجيل السابق عن الميدان بسبب تراكم انهزاماتهم وابتعادهم عن روحية العصر الجديد، فإن الثورة اصبحت عملا ميدانيا على الارض لا تنتظر مثقفيها ان يبشروا لها'. غير أنها تستدرك: 'لكن هذا لا يعني ان الفرصة قد ضاعت نهائيا، فالثورات الجديدة التي اشتعلت في تونس ومصر، في حاجة إلى من يوجهها. هي في حاجة إلى من يطرح امامها الافكار التقدمية في الميادين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية كي تؤتي ثمارها الحقيقية على الارض، في حاجة إلى من يطرح لها تصورا جديدا للحكم والدولة قائماً على حرية الفرد واستقلاليته وتطوره، فهذه الثورات التي اشعلها فرد واحد يجب ان يقطف ثمارها كل الافراد دون استثناء وهذا في حاجة الى طرح آليات جديدة للحكم مبنية على حق الفرد كرد على الديكتاتورية المنبثقة عن قوة الجماعة، فبن علي ومبارك لم يكونا فردين بل كانا يمثلان جماعات قوية تسلطت على البلد وعبثت بكل مقدراته. الثورات الشعبية لا تزال تنقصها ثورتها الثقافية (وللتذكير بالثورة الفرنسية التي كان اساسها فكرياً وحملت شعار حرية أخوة مساواة وكل الثورات الاخرى التي بنيت على اساس عقائدي ثم وجدت تجلياتها في الشارع)، اي الثورة التي تهز بنيان الافكار الموجودة حاليا والتي سمحت لحالة الاهتراء السابقة بأن تتعاظم'. وتختتم لوركا بتحذير 'في حال غياب هذه الثورة الثقافية، فالمستفيد الوحيد من هذه الثورات سيكون الجيش والجماعات الدينية، ففي غياب الفكر تحكم القوة والدين، وفي هذه الحالة تكون مصر قد خرجت من قمقم استوعب الجيل السابق لتدخل في قمقم آخر سيستوعب الجيل القادم'.
وينسحب المشهد كما تراه على المثقفين اللبنانيين: 'اما على الصعيد اللبناني الخاص، فان هذه الثورة قد كشفت رياء طبقة (الانتلجنسيا)، اي المفكرين والمثقفين والاعلاميين في لبنان، فهذه الطبقة شرعت للتماهي مع الثورة المصرية، واذ بالاذاعات اللبنانية تبدأ ببث الاناشيد المصرية الحماسية والمثقفين بدأوا باطلاق الشعارات المزايدة على المصريين بثورتهم كما لو انهم من صناعها. الحقيقة ان هذه الطبقة لم تتعاطف يوما مع فقراء لبنان، ولم تتبن مطالبهم، وعندما تم طحن فقراء لبنان بين سندان 8 آذار ومطرقة 14 آذار على مدى 6 سنوات او اكثر من ذلك بكثير، بشكل استنزف كل مقومات الوجود الاقتصادي عند هذه الطبقة دون اي تعويض، اكتفى هؤلاء المثقفين بالرقص على تناقضات الصراع أملا بالحصول على منصب سياسي او نفعي، هم كانوا الخط الاول في سيطرة الانظمة اللبنانية على شعوبها وهم كانوا مشرعي هذا الوجود عبر تبني قضايا الطبقة الحاكمة بدل التحيز لشعوبهم وطرح قضاياهم. حتى ان الثورة دخلت في البازار السياسي اللبناني معطية افضلية لفريق على فريق، حتى الانظمة العربية شرعت باستغلالها عبر اعتبارها مكسبا او خسارة لوجودها. شحذ الجميع سكاكينهم قبل ولادة العجل، دون التفكر والتعمق للحظة بمطالب هذا الشباب الذي نزل الى الطرقات كافرا بعمره'. وتختتم بتأكيد على أن الثورة المصرية 'أشرف من أن يتم تلويثها بنظرات الطفيليين حتى لو كانت نظرات شغوفة، هي قامت دون الاعتماد على أحد غير نفسها، وستكمل مسيرتها وحدها استنادا الى قدرها الذي يكتبه حاليا شبابها بدمائهم وعمرهم'.

المتاجرة بالانتماء كوسيلة تكسب

أما الشاعر عادل نصار، فتثير حنقه مواقف بعض المثقفين في لبنان ممن يحاولون إعطاء الدروس والاستعلاء على شبان الثورتين في تونس ومصر. يقول نصار 'أعتقد ان سؤالك يحمل في طياته افتراض اني املك معرفة عن الاوضاع في مصر وما يجري فيها وبالتالي لدي ما يؤهلني لإبداء الرأي في ذلك. اصدقك القول اني اجهل ما يدور في بلدي لبنان من احداث فكيف باستطاعتي ابداء رأي في بلد آخر؟ ثم اني أجد في عدم سؤال اللبنانيين رأيهم على شتى انتماءاتهم وصفاتهم لهو امر ضروري ومُلحّ بمعزل عن الموضوع ان كان في ما خص بلدهم او بلاداً اخرى وذلك لان اللبنانيين لم يثبتوا من خلال تعاطيهم مع بعضهم البعض او مع بلدهم انه لديهم ما يعتد به فهم اساؤوا وما زالوا يسيئون الى انفسهم وبلدهم دون ان يرف لهم جفن والافظع من هذا انهم يدعون المعرفة وانهم من سلالة تلصق بنفسها زورا صفة العبقرية وما التسمية التي يطلقونها على مهاجريهم في سنوات الازمات بصفتها هجرة ادمغة الا تعبير صارخ عن ادعاء وقح لا قيمة له كما وانه منذ سنوات لم يعد يوجد في لبنان مواطنين دون صفات فبدأنا نسمع بصفة اسير محرر وناشط في مختلف الميادين وحتى تلميذ المدرسة او الجامعة أمست صفة وهذه الصفات غايتها منح حامليها ادعاء المعرفة وابداء الرأي في مروَحة من الامور تمتد على مساحة الكرة الارضية وفي كل شؤونها وشجونها. والمشكلة ان اللبنانيين يفترضون، كتابا وسياسيين، ان نظرة الاخرين اليهم هي ذات الصورة التي يفترضونها لانفسهم كمفكرين وأن آراءهم ينتظرها العالم والا ستدب الفوضى والتسيب، وبهذا المعنى يكون مفيدا جدا عدم سؤال اللبنانيين عن اي شأن، ذلك انهم وبمجرد ان يتناولوا أية مسألة يسيئون اليها مهما كانت سامية لمجرد ان لبناني اعطى رأيه بها. وبمطلق الاحوال ان اية نظرة مدققة الى نوعية الادوار التي تحول اليها بعض السياسيين والصحافيين او المثقفين اللبنانيين توحي بعدم الثقة والاحترام فبعضهم يعمل على تسييد منطق مبتذل عماده تزوير الوقائع وجعلها من الحقائق المنزلة في نظر الجمهور الذي يتوجه اليه الى المتاجرة بالانتماء كوسيلة تكسب حقيقة اننا امام عملية تشويه للعقول وللتفكير لم يشهد لبنان مثيلا ً لها ومع ذلك لا تتوانى القيادات اللبنانية عن وصف جماهيرها بأعظم الصفات رغم ما يرتكبونه بحق هذه الجماهير من عملية تضليل واسعة تكشف زيف الادعاء باحترامهم لهذه الجماهير، ثم اننا شعب لا يقيم وزنا لحرمة موتاه ويستخدمهم بطريقة مبتذلة في اللعبة السياسية الدنيئة والتي يبدو اننا لا نجيد غيرها وكل شيء لدينا قابل للاخذ والرد. لا ثوابت لدينا من الانتماء الى تحديد الاصدقاء اذا كان ثمة فعلا ً اصدقاء لنا والاعداء والعملاء. لا شيء ثابتاً لدينا. كل شيء نفاوض ونساوم عليه. برأيك شعب هذه مواصفاته بمختلف فئاته، هل تجد اي فائدة في سؤال اي فرد منه عن اي حدث يحدث قريبا او بعيدا منه؟ اليس من الافضل سؤال الاخرين عن اوضاعنا والطلب منهم اسداء النصح لنا شريطة ان يكف اللبنانيين عن ثرثراتهم المكلفة وتعلم فضيلة الصمت قبل ذلك؟

ليس بالخبز وحده يحيا الانسان

أما الشاعر الشاب والكاتب فيدال سبيتي فلا يخفي دهشته وفرحه مما آل المشهد إليه في تونس مؤخرا 'بعد نجاح الحركة الشعبية في تونس بدفع الديكتاتور زين العابدين بن علي الى ركوب طائرته والضياع في السماء الواسعة قبل أن توافق السلطات السعودية على استقباله، أصابني فرح كبير. ليس سببه رحيل الديكتاتور بل استيقاظ الشعب التونسي من نومه الطويل واكتشافه بأنه يعيش تحت نير رجل يسرق ثروات بلاده ويودعها في البنوك الأجنبية أولا، ويمنع عنهم الانترنت وسائر وسائل الاتصال والتواصل والتعبير ثانيا وأخيرا'. لكن سبيتي لا ينساق خلف تفاؤله، مستدركا 'أما في ما يخص الديموقراطية والخبز، فالبنسبة إلى الأولى أنا لا أشك في أن ديكتاتورا آخر سيستلم الحكم في تونس عاجلا ام آجلا، فهذا يتعلق بثقافة ضاربة في القدم في عالمنا العربي تتعلق بعدم القدرة على تداول السلطة، أما بخصوص الثانية فأنا فعلا أؤمن بأنه 'ليس بالخبز وحده يحيا الانسان'.
ثم كما قيل، انقلبت (أحجار الدومينو) نحو مصر. نزل شبان الـ (فيس بوك) و (التويتر) الى الشوارع واستطاعوا حشد عشرات آلاف الاشخاص في الايام الاولى من التظاهرات قبل ان يتمكنوا من حشد الملايين بعد أسبوع من انطلاق (ثورتهم الغاضبة). لكن حتى اليوم لم يسقط الديكتاتور المبارك، فهو يعتقد أنه يؤمن الخبز لأبناء شعبه وكذلك الحرية، ولا حاجة به إلى الرحيل كما لو أنه ارتكب جرما، خصوصا وأنه أعلن عدم رغبته في التجديد ولا في التوريث. وأليس هذا كافيا؟ لا بد يتساءل الديكتاتور. لكن بعد هذين الاحتجاجين الضخمين في كلا البلدين، لم أعد أهتم بما سيحدث بعد سقوط الديكتاتورين، المهم ان الشعبين استيقظا وقد يدفع ضجيجهما الى إيقاظ شعوب أخرى ما زالت نائمة في هذه المنطقة. من سيحل محلهما؟ كيف سيتم تداول السلطة؟ هل القادم سيكون أفضل؟ هذه أسئلة تطرح في غير وقتها وزمنها.
هذا زمن اسقاط الانظمة الأبدية واستيقاظ الشعوب ومن بعد ذلك فليحل الطوفان. حتى للطوفان محاسن، ولنا في طوفان نوح عبرة. وليكف الخائفون من المدّ الاسلامي. فليستلم الاسلاميون السلطة ولنرَ ما الذي يمكنه ان يفعلوه، فخياراتهم كما غيرهم ليست كثيرة. إما ينجحون أو يفشلون. ولكن وصولهم الى السلطة وانكشافهم سواء الايجابي او السلبي أفضل من إبقائهم في الخفاء ينظمون مجتمعا غير منظور، كشجرة ضخمة مهيبة ينخرها السوس'.
ويختتم سبيتي 'حين سألني أحد الأصدقاء عن رأيي بما يحدث، أجبته أشعر بنفس شعور الرجل الذي شاهد اول بشري يدوس سطح القمر. فعلا بالنسبة إليّ ان ما يجري في مصر وما جرى قبلها في تونس هو أمر بهذه الأهمية. شكرا للقدر انه سنح لي أن أشاهد في حياتي الضئيلة ما يحدث هناك الآن'.

عالجنا الخبيث بما هو أخبث منه

وقد حاولنا الاتصال بالشاعرة العراقية المقيمة في النرويج منال الشيخ، والتي شهدت صفحتها على الـ 'فيس بوك' نشاطا كبيرا، حتى بدت وكأنها نشرة أخبار مرتبة وفق تسلسل المستجدات واحدا تلو الآخر، لكنها اعتذرت عن المشاركة مكتفية بالقول 'ما يحدث في مصر ذكرني بما حدث لنا مع صدام حسين، لكن بفارق الثورة طبعا.
أنا سعيدة لثورات تونس ومصر لأنها ثورات شعبية خالصة. اما نحن العراقيين فقد استعنّا بأمريكا لإزالته. يعني عالجنا الخبيث بما هو أخبث منه. ليس بوسعي قول شيء ككاتبة. الآن كل ما اترقبه هو نتيجة هذه الانتفاضة بجد. انا عاجزة وليس لي اي فضل بما يحدث لأتكلم أو أكتب ومن أنا لأفعل هذا أمام الثوار الميدانيين الرائعين. حتى أنني بدأت ادين كل مثقف يجلس وراء الكرسي ويتكلم عن الثورة بحماسة'. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.