lundi 7 février 2011

بداية لتاريخ جديد

عادت الروح بكم يا شبابنا في تونس وفي مصر. فما أحلى الرجوعَ بكم اليكم. لقد دخلتم تاريخ هذه الامة من أوسع أبوابه بأنكم كنتم أول من ثار على الاستعمار الداخلي، ويقيني أنكم ستنتصرون. إن لشعبنا العربي تاريخا مجيدا في الثورة على الاستعمار الاجنبي والانتصار عليه. أما الثورة على الاستعمار الداخلي فانتم أول من أشعلها في ثورتين متقاربتين زمنيا، وملتحمتين في التوجهات، وكأنهما على موعد. وهذا التقارب الزمني سيكون دافعا للوصول بالثورتين الى أهدافهما، وكل واحدة منهما تساند الآخرى، وتستفيد من ابتداعاتها الخلاقة في هذا المضمار الذي لا تجربة فيه للشعب العربي، وهكذا تصبح هذه التجربة الشبابية العربية الدليل الثوري لشبابنا في أقطار اخرى، بل ولشباب العالم كله، حين تحين لحظة التغيير. وأهم قاعدة في هذا الدليل الثوري هي الانتصار على حاجز الخوف، وأن في قدرة الشباب العربي التصدي له والتغلب عليه، وفي قدرته أن يُحدثَ التغيير. لقد اكتشفتم الطريق الى ذلك وهو قوة الشعب، قوة الجماهير الواعية، عندما تتحرك وراء هدف محدد تستوعبه وتؤمن به هذه الجماهير، لم تعد تخيفهم الوحوش التي تربيها وزارات الداخلية في وطننا العربي وغيره، وتعلمت كيف تواجهها وتدحرها الى جحورها.
وبهاتين الثورتين أكد الشباب على قاعدة كانت غائبة عن دائرة الفعل والتأثير، هذه القاعدة هي أن الشعب تولى الفعل بنفسه وقضى على فكر عشش طويلا في اذهاننا، وهو الاعتماد على السلطة في أن تتحرك، هي المسؤولة وهي المقصرة، وننسى أن الشعب نفسه قادر على الفعل وأنه هو المسؤول الاول عن نفسه. وعندما تنبه الشباب الى أن الشعب هو مصدر السلطات تنبه أيضا لمسؤولية الشعب عن الفعل، ونَفَّذ. لقد انسحبت قوات الأمن فتنادى الشباب وشكلوا لجان الامن في كل شارع لحماية الناس والممتلكات العامة والخاصة، واذا بالشعب يدرك مسؤوليته عن حماية تاريخ الوطن من المؤامرات عليه، فيطوق الشباب المتحف المصري ويحولون دون نهبه، كما نهب متحف بغداد في غفلة من الوعي لما يجري. وعندما امتنع الامن قام الشباب، مسلمين ومسيحيين، بحراسة دور العبادة، من مساجد وكنائس، وقام الشباب بالاشراف على تنظيم حركة المرور، بل وكنس الميدان والشوارع وتنظيفها. هذه أمور كنا نتصور أنها من مسؤولية السلطات قبل أن يتنبه الشباب الى نقطة مهمة جدا، وهي أن هذه كلها أمورا تهمنا وهي في الاساس مسؤوليتنا.
لقد تصور كثيرون أن هذا اليوم لن يأتي، وأن تفاهات العصر الامريكي، التي ملأت الكثير من فضائيات ناطقة بالعربية قد شغلت هؤلاء الشباب عن قضايا أمتهم ووطنهم ومصيرهم. كثيرون ظنوا أن ذلك اليوم لن يأتي. وفجأة تشتعل النار، حقيقة ومجازا، واذا بشباب هذه الامة في تونس يخرجون على عالم لم يصدق ما سمع ورأى، ولكنه تجاهل أن هؤلاء الشباب نشأوا وترعرعوا وهم يغنون لشاعرهم الفذ ابو القاسم الشابي منشدين: 'اذا الشعب يوما اراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر'. 'ولابد لليل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر'. أبو القاسم رحمه الله، توفي عام 1934 ولما يكمل الخامسة والعشرين من عمره، ولكنه كان صاحب روح شفافة هدته الى المفتاح الأكيد لتحرر الشعوب وتقدمها، هذا المفتاح هو 'الارادة'. وعندما يكتشف الشعب هذه الارادة التي سماها أبو القاسم 'ارادة الحياة'، فإن هذه الارادة لا بد وأن تنتصر اذا مارسها الشعب وفَضل صعود الجبال على البقاء أبد الدهر بين الحفر، كما قال أبو القاسم. وهذه هي عظمة تحرككم.
لقد فرضتم يا شباب تونس ومصر على العالم صورة أخرى للانسان العربي غير تلك التي أشاعها أعداء ومغرضون، وأنظمة يسيطر عليها الجهل والفساد وانتهاك الحقوق، أو حركات جاهلة تنسب نفسها للاسلام، ولا تنجح الا في جلب الكراهية له ونشر البلبلة في أوساط الشباب الذين تربوا على اسلام انساني مستنير متسامح وسمح، يحترم خيارات الاخرين لأنفسهم، والله وحده، وليسوا هم، هو صاحب القرار. ومن أروع ما حصل في ميدان التحرير في القاهرة أن أحد المشاركين حمل يافطة كتب عليها 'الاسلام هو الحل'، فانزلها الشباب، ولم تنتج عن ذلك مشكلة. هذا شعار مضلل ومبتز بسبب غموضه من جهة، وشموليته من جهة ثانية، وادعاء رافعيه أنهم هم وحدهم المسلمون حقا والفاهمون له حصرا من جهة ثالثة، ومُفرِّقٌ لأبناء الوطن الواحد من جهة رابعة، وليس في تاريخ الاسلام كله من رفعه، سوى مُحدَثينَ يضللون البسطاء بشعار جذاب من أجل الوصول الى السلطة. كما أن من أكبر الادلة على التآلف في الوطن أن المسيحيين وقفوا حرسا من البلطجية الذين كانوا يهاجمون المتظاهرين في ميدان التحرير أثناء أداء اخوانهم المسلمين لصلاة الجمعة يوم جمعة الغضب.
لقد نصت دساتير معظم الدول العربية، التي لديها دساتير، على أن 'الشعب مصدر السلطات وانه يمارسها على الوجه المبين في الدستور'. الشعب اذن هو السيد، وليس الرئيس أو وزارة الداخلية وزبانيتها. جميع اجهزة الدولة بما فيها الرئيس والمجالس النيابية تتصرف نيابة عن الشعب وبموجب الوكالة التي منحها الشعب لها. وفي هذا لا فرق بين النظم الدستورية الحديثة والشريعة الاسلامية. فالبيعة في الشريعة الاسلامية هي وكالة ايضا، وقد عبر عنها أبوبكر وعمر أدق تعبير، عندما خطبا في الجماهير بعد المبايعة. قال كل منهما: 'اطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فاذا خالفتهما فلا طاعة لي عليكــم'. معنى هذا بلغة العصر أن طاعة الحاكم واجبة فقط ما دام ملتزما بسيادة القانون، وفي المقدمة الدستور الذي هو القانون الاعلى، فاذا خرج عليه فلا طاعة له. والبيعة والدستور والقانون وما يلتزم به الخليفة أو الرئيس أو القائد أمام الشعب للحصول على تأييده ملزم لهؤلاء لأنهم يكونون قد وصلوا الى السلطة بالارادة الشعبية القابلة لما عرض عليها. هذا هو العقد بينهما. فاذا خالف أحدهم هذه الارادة الشعبية فإنه يكون قد أخل بهذا العقد ويكون من حق الشعب أن يعزله، وليس له أن يبقى في السلطة تغليبا لارادته على ارادة الشعب.
الثورة الشعبية تعبر عن ارادة الشعب، الذي تنبثق منه جميع السلطات في الدولة، من تشريعية وتنفيذية وقضائية. ومعنى هذه الثورة أن الشعب غير راضٍ عن الحاضر وأنه لا بد من التغيير. وشعبانا في تونس ومصر عبرا عن عدم رضاهما، وعن الحاجة للتغيير بطريقة حضارية متميزة، وهذا من حقهما ويجب أن تنفذ ارادتهما التزاما بهذا المبدأ الدستوري والشرعي.
هناك من يدعي أن المتظاهرين ضد النظام يمثلون أقلية وهناك أغلبية قررت البقاء في المنازل، وهذه الاغلبية، في رأي هؤلاء، تعتبر مؤيدة للنظام أو على الأقل لم تعبر عن رأيها، ولذا فإن المتظاهرين لا يمثلون سوى ارادتهم هم، وليس ارادة الشعب، هكذا يقولون. هذه مغالطة مرفوضة، فأولا في الانتخابات النظامية لا يحسب للقاعدين في بيوتهم حساب، وانما الحساب للمشاركين فقط. ولذا، وفي الوضع المصري، فإن المقارنة تكون بين من خرجوا محتجين ومعارضين للنظام، ومن خرجوا مؤيدين له، حتى وإن كانوا من البلطجية الذين اشتراهم أعضاء من الحزب الوطني أو كانوا من رجال الامن المركزي. وواضح جدا من متابعة الفضائيات الرسمية وغيرها، أنه لا مقارنة بين الاثنين: المعارضون لبقاء النظام هم بالملايين، في حين أن وسائل الاعلام الرسمية عجزت عن عرض مظاهرات أو اعتصامات أو تحركات تأييد ذات بال. واذن فالرأي الغالب شعبيا يكون هو المُطالِبُ برحيل النظام. هذا أولا، وثانيا فإن الرئيس المصري الحالي لم ينتخبه سوى 23 في المئة من الناخبين، على أحسن تقدير. فاذا طبقنا منطق المعترضين فإن 77 في المئة، الذين لم يصوتوا وبقوا في بيوتهم يعتبرون ضد انتخاب الرئيس، فيكون بذلك رئيسا غير شرعي من الاساس.
واذن فإن المظاهرات في الحالتين التونسية والمصرية اسقطتا النظام بمطالبتهما برحيله، وهذا هو المنطق القانوني للثورات، وبسقوطه يسقط كل ما تنادي الثورة بسقوطه. وفي الحالتين فقد طالب الثائرون بسقوط النظام بأكمله، واقامة نظام جديد. وطبيعي أن يشمل السقوط رئيس النظام، خاصة اذا تبين أن الرئيس هو المسيطر فيه، وأن يشمل كذلك المجالس التشريعية التي كانت في القطرين العربيين تزويرا سافرا للارادة الشعبية.
الارادة الشعبية التي أعلنت عن نفسها بثورتها على النظام القائم، هي التي تحدد النظام الجديد باعلان القطيعة بينها وبين النظام الذي ثارت عليه، تأسيسا على أن الشعب هو مصدر السلطات وأنه صاحب السيادة. والقطيعة تعني اعلان الارادة الشعبية بالتخلي عن ذلك النظام، وبالتالي التخلي عن الإجراءات التي حددها النظام الذي ثارت عليه هذه الارادة. والسبب في ذلك بسيط، وهو أنها كانت ملتزمة بهذه الاجراءات وقابلة لها قبل الثورة على الأصل، وهو النظام، لأنها كانت حينئذ معبرة عن ارادتها، غير أنها عندما تثور معلنة عن ارادة في التغيير، فانها لا يمكن أن تبقى مقيدة بما ثارت عليه، وأن تضع تنفيذ ارادة التغيير هذه رهينة لدى من أعلنت ثورتها عليه. هذا منطق لا يستقيم لأنه يحرم الشعب من حقه في ممارسة ارادة التغيير. إن الذين يقولون بأنه لا يجوز تعديل الدستور مثلا الا بناء على طلب رئيس منتخب، يغيب عنهم أن هذا صحيح في الظروف العادية، اذا كان النص الدستوري كذلك، لأن الرئيس يكون في تلك الظروف يتمتع بالشرعية بناء على الارادة الشعبية التي جاءت به أصلا. أما عندما تتحرك الارادة الشعبية في الاتجاه المضاد وتسقط النظام كله فإن الرئيس يسقط مع سقوط النظام، والا بقي متحكما في ما يجوز للارادة الشعبية أن تحققه في ثورتها وما لا يجوز، ويصبح في استطاعة رئيس مخلوع أن يتحكم في ارادة الشعب. هذه نتيجة مرفوضة أصلا. ولذا فقد درجت الثورات على اختيار رجالها أو رجال تثق فيهم لتنفيذ برامجها تحت اشرافها، وممارسة سلطة الحكم باسمها، وهي سلطة تستمد شرعيتها من شرعية الثورة التي جاءت بها.
ومن أغرب الامور ما طالب به البعض من أن يعرض على الرئيس الاعتراف بشرعية الثورة. هذا الطلب الغريب هو نقيض منطق الثورة ومنطق أن الشعب، وليس الرئيس، هو مصدر السلطات. الشعب هو من له السيادة وهو الذي يختار الرئيس. فكيف يُطلَبُ من الوكيل التابع الاعترافُ بشرعية الأصيل؟
إن الثورتين الشعبيتين في تونس وفي مصر تعتبران خطا فاصلا في تاريخ أمتنا العربية، ليس فقط لأنهما تعبران عن نقلة نوعية في الوعي الشبابي العربي، وانما أيضا لما كرستاه من قيم في ثورات الشعوب في مواجهة الاستعمار الداخلي. وقد ابرزت هاتان الثورتان ظاهرة كانت غائبة عن الادراك المباشر، وهي وعي الشعوب العربية بقدرتها على التغيير الجذري عند الحاجة، بصفتها مسؤولة عنه وأنه حق لها. كما أنهما قد ابرزا، كما نتمنى، وعيا لدى القادة والملوك والرؤساء أنهم لا يملكون ممارسة الاستبداد والطغيان وانتهاك الحقوق، حيث أن هناك شعوبا أثبتت أنها واعية لمقدرتها على تصحيح الاوضاع جذريا، وأنها مسؤولة عن عملية التصحيح هذه مهما كان مداها. انهما ثورتان حضاريتان ستظل الامة العربية تؤرخ بهما على أنهما نقطة تحرر الارادة العربية، وأنهما نقطة بداية لتاريخ جديد. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.